كفاية الاصول ::: 331 ـ 345
(331)
كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ، ولو لاجل حب طريقة الآباء والاجداد واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلي للخلف ، وقلما عنه تخلف (1).
    والمراد من المجاهدة في قوله تعالى « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا » (2) هو المجاهدة مع النفس ، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وهي التي كانت أكبر من الجهاد ، لا النظر والاجتهاد ، وإلا لادى إلى الهداية ، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة ، إلا إذا كانت هناك منه ـ تعالى ـ عناية ، فإنه غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق ، لا بصدد الحق ، فيكون مقصرا مع اجتهاده ، ومؤاخذا إذا أخطأ على قطعه واعتقاده.
    ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم ، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن ، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه ، بل بعدم جوازه ، لما أشرنا إليه (3) من أن الامور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها ، فلا إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم ، بخلاف الفروع العملية ، كما لا يخفى.
    وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه ، فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا ، بل الادلة الدالة على النهي عن اتباع الظن ، دليل على عدم جوازه أيضا.
    وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا ، أن القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة ، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها ، لعدم وضوح الامر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن تقصير ، كما لا يخفى ، فيكون (4) معذورا عقلا.
1 ـ في « ب » : يتخلف.
2 ـ العنكبوت / 69.
3 ـ أشار إليه في الامر الاول من خاتمة دليل الانسداد / 329.
4 ـ ولا ينافي ذلك عدم استحقاقه درجة ، بل استحقاقه دركة لنقصانه بسبب فقدانه للايمان به تعالى أو


(332)
    ولا يصغى إلى ما ربما قيل : بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه إنما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم يكن يعانده ، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله.
    هذا بعض الكلام مما يناسب المقام ، وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والاسلام ، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة.
    الثاني : الظن الذي لم يقم على حجيته دليل ، هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة ، أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجة ، أو يرجح به أحد المتعارضين ، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لاحدهما ، أو كان للآخر منهما ، أم لا ؟
    ومجمل القول في ذلك : إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته ، هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية ، أو المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية ، كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجية ، فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه ، ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به ، فراجع أدلة اعتبارها.
    وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لاختصاص دليل الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد ، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر ، إلا فيما أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لولا عروض انتفائه ، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره ، وكذا عدم وهن دلالته مع ظهوره ، إلا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده ، أو وجود قرينة مانعة
برسوله ، أو لعدم معرفة أوليائه ، ضرورة أن نقصان الانسان لذلك يوجب بعده عن ساحة جلاله تعالى ، وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات ، وعليه فلا إشكال فيما هو ظاهر بعض الروايات والآيات ، من خلود الكافر مطلقا ولو كان قاصرا ، فقصوره إنما ينفعه في دفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات ، لا فيما يستتبعه نقصان ذاته ودنو نفسه وخساسته ، فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك فلا مجال للسؤال عنه ، ب‍ ( لم ذلك ؟ ) فافهم ( منه قدس سره ).

(333)
عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لولا تلك القرينة ، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره ، أو ظن بعدم إرادة ظهوره.
    وأما الترجيح بالظن ، فهو فرع دليل على الترجيح به ، بعد سقوط الامارتين بالتعارض من البين ، وعدم حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه ، وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته ، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به. وإن ادعى شيخنا (1) العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ استفادته من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة ، على ما في (2) تفصيله في التعادل والترجيح (3).
    ومقدمات الانسداد في الاحكام إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة ، لا الترجيح به ما لم يوجب ظن بأحدهما ، ومقدماته في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجية الظن في تعيين المرجح ، لا أنه مرجح إلا إذا ظن أنه ـ أيضا ـ مرجح ، فتأمل جيدا ، هذا فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.
    وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس ، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح ، فيما لا يكون لغيره أيضا ، وكذا فيما يكون به أحدهما ، لوضوح أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجة ـ بعد المنع عنه ـ لا يوجب خروجه عن تحت دليل حجيته (4) ، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية ، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين ، وذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع رأسا ، وعدم جواز استعماله في الشرعيات قطعا ، ودخله في واحد منها نحو استعمال له فيها ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.
1 ـ فرائد الاصول / 187 ، حيث قال الثالث : ما يظهر من بعض الاخبار ... إلخ.
2 ـ في « ب » : على ما يأتي تفصيله.
3 ـ في « أ » : التراجيح.
4 ـ في « ب » : الحجية.


(334)

(335)
المقصد السابع
الاصول العملية


(336)

(337)
    وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل ، مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل ، والمهم منها أربعة ، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية (1) ، وإن كان مما ينتهي إليه فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته ، إلا أن البحث عنها ليس بمهم ، حيث إنها ثابتة بلا كلام ، من دون حاجة إلى نقض وإبرام ، بخلاف الاربعة ، وهي : البراءة والاحتياط ، والتخيير والاستصحاب : فإنها محل الخلاف بين الاصحاب ، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان ، هذا مع جريانها في كل الابواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها ، فافهم.
1 ـ لا يقال : إن قاعدة الطهارة مطلقا ، تكون قاعدة في الشبهة الموضوعية ، فإن الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع.
فإنه يقال : أولا : نمنع ذلك ، بل إنهما من الاحكام الوضعية الشرعية ، ولذا اختلفتا في الشرائع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما ، كما لا يخفى.
وثانيا : إنهما لو كانتا كذلك ، فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما كانت حكمية ، فإنه لا مرجع لرفعها إلا الشارع ، وما كانت كذلك ليست إلا حكمية ( منه قدس سره ).


(338)
فصل
    لو شك في وجوب (1) شيء أو حرمته ، ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا ترك الاول وفعل الثاني ، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته ، كان عدم نهوض الحجة لاجل فقدان النص أو إجماله ، واحتماله الكراهة أو الاستحباب ، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح ، بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين.
    وأما بناء على التخيير ـ كما هو المشهور ـ فلا مجال لاصالة البراءة وغيرها ، لمكان وجود الحجة المعتبرة ، وهو أحد النصين فيها ، كما لا يخفى ، وقد استدل على ذلك بالادلة الاربعة :
1 ـ لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل ، وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة ، وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة ، إنما هو لاجل عدم الحاجة إلى ذلك ، بعد الاتحاد فيما هو الملاك ، وما هو العمدة من الدليل على المهم ، واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول ، لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة.
وأما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الاصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير ، كما أنه داخل فيما لا حجة فيه ـ بناء على سقوط النصين عن الحجية ـ وأما الشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل الاصولية ، بل فقهية ، فلا وجه لبيان حكمها في الاصول إلا استطرادا فلا تغفل ، ( منه قدس سره ).


(339)
    أما الكتاب : فبآيات أظهرها قوله تعالى : « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » (1).
    وفيه : إن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده ، مع استحقاقهم لذلك ، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية ، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا ، مع وضوح منعه ، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه ، فافهم.
    وأما السنة : فبروايات (2) منها : حديث الرفع (3) ، حيث عد ( ما لا يعلمون ) من التسعة المرفوعة فيه ، فالالزام المجهول مما لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتا واقعا ، فلا مؤاخذة عليه قطعا.
    لا يقال : ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية ، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا ، فلا دلالة له على ارتفاعها (4).
    فإنه يقال : إنها وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا ، إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه ، من إيجاب الاحتياط شرعا ، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته.
    لا يقال : لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف
1 ـ الاسراء : 15.
2 ـ في « ب » : فروايات.
3 ـ الكافي / 2 كتاب الايمان والكفر ، باب ما رفع عن الامة ، الحديث 2 ، الفقيه 1 / 36 ، الباب 14 ، الحديث 4 ، والخصال 2 / 417 ، باب التسعة.
4 ـ مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام ، والتحقيق في الجواب أن يقال ـ مضافا إلى ما قلناه ـ أن الاستحقاق وإن كان أثرا عقليا ، إلا أن عدم الاستحقاق عقلا ، مترتب على عدم التكليف شرعا ولو ظاهرا ، تأمل تعرف ، ( منه قدس سره ).


(340)
المجهول ، بل على مخالفة (1) نفسه ، كما هو قضية إيجاب غيره.
    فإنه يقال : هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا ، وإلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ، كما هو الحال في غيره من الايجاب والتحريم الطريقيين ، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به ، ويقال لم أقدمت مع إيجابه ؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، كما يخرج بهما.
    وقد انقدح بذلك ، أن رفع التكليف المجهول كان منة على الامة ، حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته (2) من إيجاب الاحتياط ، فرفعه ، فافهم.
    ثم لا يخفى (3) عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في ( ما لا يعلمون ) ، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا ، وإن كان في غيره لابد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه ، فإنه ليس ما اضطروا وما استكرهوا ... إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة. نعم لو كان المراد من الموصول في ( ما لا يعلمون ) ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه ، لكان أحد الامرين مما لا بد منه أيضا.
    ثم لا وجه (4) لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها ، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الاثر الظاهر في كل منها ، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها ، كما أن ما يكون بلحاظه الاسناد إليها مجازا ، هو هذا ، كما لا يخفى. فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في
1 ـ في « ب » : مخالفته.
2 ـ في « ب » : قضية.
3 ـ خلافا لما أفاده الشيخ ، فرائد الاصول / 195.
4 ـ المصدر السابق.


(341)
رفعه منة على الامة ، كما استشهد الامام ( عليه السلام ) بمثل (1) هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق.
    ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره ، مما أخذ بعنوانه الثانوي ، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الاولي ، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع ، والموضوع للاثر مستدع لوضعه ، فكيف يكون موجبا لرفعه ؟
    لا يقال كيف ؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان ، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها.
    فإنه يقال : بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها ، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما ، لئلا يفوت على المكلف ، كما لا يخفى.
    ومنها : حديث الحجب (2) ، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع ، إلا أنه ربما يشكل (3) بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف ، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه ، لعدم أمر رسله بتبليغه ، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى.
    ومنها : قوله ( عليه السلام ) (4) ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه ) الحديث ، حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا ، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته ، وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، يتم المطلوب.
1 ـ المحاسن 2 / 339 ، الحديث 124.
2 ـ التوحيد للصدوق ( ره ) 413 ، باب التعريف والبيان والحجة ، الحديث 9. والوسائل 18 / 12 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 28.
3 ـ أورده الشيخ ( ره ) على الاستدلال بهذا الحديث ، فرائد الاصول / 199.
4 ـ قريب من هذا المضمون روايات ، الوسائل : 12 / 59 ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديثان 1 و 4 والوسائل : 17 / 90 ، باب 61 من الاطعمة المباحة ، الاحاديث ، 1 و 2 و 7.


(342)
    مع إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته ، فهو حلال ، تأمل.
    ومنها : قوله ( عليه السلام ) (1) ( الناس في سعة ما لا يعلمون ) فهم في سعة ما لم يعلم ، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته ، ومن الواضح أنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ، فيعارض به ما دل على وجوبه ، كما لا يخفى.
    لا يقال : قد علم به وجوب الاحتياط.
    فإنه يقال : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد ، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله ؟ نعم لو كان الاحتياط واجب نفسيا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه ، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا ، لاجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا ، فافهم.
    ومنها : قوله ( عليه السلام ) (2) ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) ودلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه ، بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد ، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.
    لا يقال : نعم ، ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم.
    فإنه يقال : وإن تم الاستدلال به بضميمتها ، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه ، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا ، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا.
    لا يقال : نعم ، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالاباحة في مجهول الحرمة ، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.
1 ـ الوسائل : 2 / 1073 ، باب 5 من أبواب النجاسات ، الحديث 11 بتفاوت يسير في العبارة.
2 ـ الوسائل : 18 / 127 ، باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 60.


(343)
    فإنه يقال : حيث أنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ، ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان ، وإباحته (1) في آخر ، واشتبها من حيث التقدم والتأخر.
    لا يقال : هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.
    فإنه يقال : وإن لم يكن بينها الفصل ، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالاباحة في بعضها الدليل ، لا الاصل ، فافهم.
    وأما الاجماع : فقد نقل (2) على البراءة ، إلا أنه موهون ، ولو قيل باعتبار الاجماع المنقولة في الجملة ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل ، ومن واضح النقل عليه دليل ، بعيد جدا.
    وأما العقل : فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه ، فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.
    ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك ، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته ، فلا يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، كي يتوهم أنها تكون بيانا ، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.
    وأما ضرر غير العقوبة ، فهو وإن كان محتملا ، إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا ، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا ، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا
1 ـ في « ب » : إباحة.
2 ـ راجع الوجه الثاني من وجوه التقرير الثاني للاجماع على حجية البراءة في كلام الشيخ ( قده ) فرائد الاصول / 202.


(344)
يلازم احتمال المضرة ، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام ، وقد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح وقبح ماكان ذات المفاسد ، ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر ، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.
    إن قلت : نعم ، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته ، كما استدل به شيخ الطائفة (1) ( قدس سره ) ، على أن الاشياء على الحظر أو الوقف.
    قلت : استقلاله بذلك ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والاديان ، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته ، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته ، كيف ؟ وقد أذن الشارع بالاقدام عليه ، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح ، فتأمل.
    واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة ، بالادلة الثلاثة :
    أما الكتاب : فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم (2) ، وعن الالقاء في التهلكة (3) ، والآمرة بالتقوى (4).
    والجواب : إن القول بالاباحة شرعا وبالامن من العقوبة عقلا ، ليس قولا بغير علم ، لما دل على الاباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ، ولا فيه مخالفة التقوى ، كما لا يخفى.
1 ـ عدة الاصول 2 / 117 ولكن المتراءى منه غير هذا.
2 ـ الاعراف : 33 ، الاسراء : 36 ، النور : 15.
3 ـ البقرة : 195.
4 ـ البقرة : 102 ، التغابن : 16.


(345)
    وأما الاخبار : فبما (1) دل على وجوب التوقف عند الشبهة ، معللا في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة ، من الاخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقة أو إلتزاما ، وبما (2) دل على وجوب الاحتياط من الاخبار الواردة بألسنة مختلفة.
    والجواب : إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية ، مع دلالة النقل على [ الاباحة ] (3) وحكم العقل بالبراءة كما عرفت.
    وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم ، وإن كان واردا على حكم العقل ، فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.
    ولا يصغى إلى ما قيل (4) : من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح ، وإن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا ، وهو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة ، كما هو الحال في أوامر الطرق والامارات والاصول العملية.
    إلا أنها تعارض بما هو أخص أو (5) وأظهر ، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص ، بل هو في الدلالة على الحلية نص ، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط ، مع أن هناك قرائن دالة على أنه للارشاد ، فيختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه.
1 ـ الوسائل : 18 / 75 الباب 9 من أبواب صفات القاضي / الحديث 1 ـ الوسائل 14 / 193 ، الباب 157 من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2.
الوسائل : 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي / أحاديث : 3 ، 4 ، 10 ، 31 ، 35.
2 ـ الوسائل : 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي / أحاديث : 1 ، 37 ، 41 ، 54.
3 ـ أثبتناها من « ب ».
4 ـ القائل هو الشيخ الاعظم ، فرائد الاصول / 208.
5 ـ في « أ » : و.
كفاية الاصول ::: فهرس