كفاية الاصول ::: 316 ـ 330
(316)
تحصيل الامن من تبعة التكاليف المعلومة ، من العقوبة على مخالفتها ، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمن منها ، وفي أن كلما كان القطع به مؤمنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمنا حال الانسداد جزما ، وإن المؤمن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك ، لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق ومتعلق العلم ، وهو طريق شرعا وعقلا ، أو بإتيانه الجعلي ، وذلك لان العقل قد استقل بأن الاتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو ، لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعا ، كيف ؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا وإمضاء ، إثباتا ونفيا. ولا يخفى أن قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع والطريق.
    ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلا توهم أنه قضية اختصاص المقدمات بالفروع ، لعدم انسداد باب العلم في الاصول ، وعدم إلجاء في التنزل إلى الظن فيها ، والغفلة عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في مقام يحصل الامن من عقوبة التكاليف ، وإن كان باب العلم في غالب الاصول مفتوحا ، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنين.
    كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان :
    أحدهما : ما أفاده بعض الفحول (1) وتبعه في الفصول (2) ، قال فيها :
    إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة ، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره ، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الاحكام طريقا مخصوصا ،
1 ـ هو العلامة المحقق الشيخ اسد الله الشوشتري ، كشف القناع عن وجوه حجية الاجماع / 460.
2 ـ الفصول / 277 ، مع اختلاف في الالفاظ.


(317)
وكلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة ، وحيث أنه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع ، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره ، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على [ عدم ] (1) حجيته ، لانه أقرب إلى العلم ، وإلى إصابة الواقع مما عداه.
    وفيه : أولا ـ بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية ، وعدم وجود المتيقن بينها أصلا ـ أن قضية ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن.
    لا يقال (2) : الفرض هو عدم وجوب الاحتياط ، بل عدم جوازه ، لان الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف الاحكام ، مما يوجب العسر المخل بالنظام ، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق. فإن قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها ، والرجوع إلى الاصل فيها ولو كان نافيا للتكليف ، وكذا فيما إذا نهض الكل على نفيه ، وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الاطراف فيه نفيا وإثباتا مع ثبوت المرجح للنافي ، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها ، ومطلقا في غيره بناء على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الاخبار ، وكذا لو تعارض إثنان منها في الوجوب والتحريم ، فإن المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الاصل الجاري فيها ولو كان نافيا ، لعدم نهوض طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه ، فافهم.
    وكذا كل مورد لم يجر فيه الاصل المثبت ، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فيه
1 ـ أثبتنا الزيادة من الفصول.
2 ـ إيراد ذكره الشيخ ( قدس سره ) وأمر بالتأمل فيه ، فرائد الاصول / 132 ، عند قوله : أللهم إلا أن يقال إنه يلزم الحرج ... الخ.


(318)
إجمالا بسبب العلم به ، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه ، بناء على عدم جريانه بذلك.
    وثانيا : لو سلم أن قضيته (1) لزوم التنزل إلى الظن ، فتوهم أن الوظيفة حينئذ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا ، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظن ، بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا ، ومن الظن بالواقع ، كما لا يخفى.
    لا يقال : إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع ، إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد ، فإن الالتزام به بعيد ، إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا ، فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه ، ضرورة أن القطع بالواقع يجدي في الاجزاء بما هو واقع ، لا بما هو مؤدى طريق القطع ، كما عرفت.
    ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد ، مع أن الالتزام بذلك غير مفيد ، فإن الظن بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق معتبر ، والظن بالطريق ما لم يظن بإصابته (2) الواقع غير مجد بناء على التقييد ، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد به بدونه هذا.
    مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد ، غايته أن العلم الاجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية ، والانحلال وإن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية ، إلا أنه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازما ، والفرض عدم اللزوم ، بل عدم الجواز.
    وعليه يكون التكاليف الواقعية ، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية
1 ـ في « ب » : قضية.
2 ـ في « ب » : بإصابة.


(319)
الظن بها حال انسداد باب العلم ، كما لا يخفى ، ولابد حينئذ من عناية أخرى (1) في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الاطاعة ، وعدم إهمالها رأسا كما أشرنا إليه (2) ، ولا شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ لكونه أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام ، من الظن بالطريق ، فلا أقل من كونه مساويا فيما يهم العقل من تحصيل الامن من العقوبة في كل حال ، هذا مع ما عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق ، وهو بلا شبهة يكفي ، ولو لم يكن هناك ظن بالطريق ، فافهم فإنه دقيق.
    ثانيهما : ما اختص به بعض المحققين (3) ، قال :
    ( لا ريب في كوننا مكلفين بالاحكام الشرعية ، ولم يسقط عنا التكليف بالاحكام الشرعية ، وأن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به ، وسقوط تكليفنا عنا ، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا ، حسبما مر تفصيل القول فيه.
    فحينئذ نقول : إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع ، فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسد علينا سبيل العلم كان الواجب
1 ـ وهي إيجاب الاحتياط في الجملة المستكشف بنحو اللم ، من عدم الاهمال في حال الانسداد قطعا إجماعا بل ضرورة ، وهو يقتضي التنزل إلى الطن بالواقع حقيقة أو تعبدا ، إذا كان استكشافه في التكاليف المعلومة إجمالا ، لما عرفت من وجوب التنزل عن القطع بكل ما يجب تحصيل القطع به في حال الانفتاح إلى الظن به في هذا الحال ، وإلى الظن بخصوص الواقعيات التي تكون مؤديات الطرق المعتبرة ، أو بمطلق المؤديات لو كان استكشافه في خصوصها أو في مطلقها ، فلا يكاد أن تصل النوبة إلى الظن بالطريق بما هو كذلك وإن كان يكفي ، لكونه مستلزما للظن بكون مؤداه مؤدى طريق معتبر ، كما يكفي الظن بكونه كذلك ، ولو لم يكن ظن باعتبار طريق أصلا كما لا يخفى ، وأنت خبير بأنه لا وجه لاحتمال ذلك ، وإنما المتيقن هو لزوم رعاية الواقعيات في كل حال ، بعد عدم لزوم رعاية الطرق المعلومة بالاجمال بين أطراف كثيرة ، فافهم ( منه قدس سره ).
2 ـ راجع صفحة / 312.
3 ـ وهو العلامة المحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني ، هداية المسترشدين / 391.


(320)
علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه ، إذ هو الاقرب إلى العلم به ، فيتعين الاخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل ، بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع ، كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن ). انتهى موضع الحاجة من كلامه ، زيد في علو مقامه.
    وفيه أولا : إن الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمة بالاطاعة والامتثال إنما هو العقل ، وليس للشاعر في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم العقل ، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشادا إليه ، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو [ هو ] (1) مفرغ ، وأن القطع به حقيقة أو تعبدا مؤمن جزما ، وأن المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا حال الانفتاح ، فيكون الظن بالواقع أيضا مؤمنا حال الانسداد.
    وثانيا : سلمنا ذلك ، لكن حكمه بتفريغ الذمة ـ فيما إذا أتى المكلف بمؤدى الطريق المنصوب ـ ليس إلا بدعوى أن النصب يستلزمه ، مع أن دعوى أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به أولى ، كما لا يخفى ، فيكون الظن به ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا.
    إن قلت : كيف يستلزمه (2) الظن بالواقع ؟ مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه ، كما إذا كان من القياس ، وهذا بخلاف الظن بالطريق ، فإنه يستلزمه ولو كان من القياس.
    قلت : الظن بالواقع أيضا يستلزم (3) الظن بحكمه بالتفريغ (4) ، ولا ينافي
1 ـ أثبتنا الزيادة من « أ ».
2 ـ في « ب » : يستلزم.
3 ـ وذلك لضرورة الملازمة بين الاتيان بما كلف به واقعا وحكمه بالفراغ ويشهد به عدم جواز الحكم بعدمه ، لو سئل عن أن الاتيان بالمأمور به على وجهه ، هل هو مفرغ ؟ ولزوم حكمه بأنه مفرغ ، والا لزم عدم إجزاء الامر الواقعي ، وهو واضح البطلان ( منه قدس سره ).
4 ـ كذا في النسخة المصححة ، وفي « أ » : الظن بهما على الاقوى يستلزم الحكم بالتفريغ.


(321)
القطع بعدم حجيته لدى الشارع ، وعدم كون المكلف معذورا ـ إذا عمل به فيهما ـ فيما أخطأ ، بل كان مستحقا للعقاب ـ ولو فيما أصاب ـ لو بنى على حجيته والاقتصار عليه لتجريه ، فافهم.
    وثالثا : سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به ، لكن قضيته ليس إلا التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر ، لا خصوص الظن بالطريق ، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا.
فصل
    لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا منصوبا شرعا ، ضرورة أنه معها لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب طريقا ، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال ، ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل ، لقاعدة الملازمة ، ضرورة أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي ، والمورد هاهنا غير قابل له ، فإن الاطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها ، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها ، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه ، وهو واضح.
    واقتصار المكلف بما دونها ، لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا ، أو فيما أصاب الظن ، كما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها ، كان حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك يوجبه ، كما لا يخفى ، ولا بأس به إرشاديا ، كما هو شأنه في حكمه بوجوب الاطاعة وحرمة المعصية.
    وصحة نصبه الطريق وجعله في كل حال بملاك يوجب نصبه وحكمة داعية إليه ، لا تنافي استقلال العقل بلزوم الاطاعة بنحو حال الانسداد ، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح ، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها


(322)
مولويا ، لما عرفت.
    فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلا على نحو الحكومة دون الكشف ، وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلا ، سببا وموردا ومرتبة ، لعدم تطرق الاهمال والاجمال في حكم العقل ، كما لا يخفى.
    أما بحسب الاسباب فلا تفاوت بنظره فيها.
    وأما بحسب الموارد ، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الاطاعة الظنية ، إلا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام ، واستقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام ، كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.
    وأما بحسب المرتبة ، فكذلك لا يستقل إلا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التكليف (1) ، إلا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر.
    وأما على تقرير الكشف ، فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه ، فلا إهمال فيها أيضا بحسب الاسباب ، بل يستكشف حينئذ أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيق ، وإلا فلا مجال لاستكشاف حجية (2) غيره ، ولا بحسب الموارد ، بل يحكم بحجيته في جميعها ، وإلا لزم عدم وصول الحجة ، ولو لاجل التردد في مواردها ، كما لا يخفى.
    ودعوى الاجماع (3) على التعميم بحسبها في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا.
1 ـ كذا صححه في « ب » ، وفي « أ » : فكذلك لا يستقل إلا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظن إلا على ... إلخ.
2 ـ في « ب » : حجة.
3 ـ ادعاه الشيخ ( قده ) فرائد الاصول / 139.


(323)
    وأما بحسب المرتبة ، ففيها إهمال ، لاجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافيا ، فلابد من الاقتصار عليه.
    ولو قيل بأن النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه ، فلا إهمال فيها بحسب الاسباب ، لو لم يكن فيها تفاوت أصلا ، أو لم يكن بينها إلا واحد ، وإلا فلابد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها أو مظنونه ، بإجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب ، حتى ينتهي إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بينها ، فيحكم بحجية كلها ، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار ، فيقتصر عليه.
    وأما بحسب الموارد والمرتبة ، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه ، فتدبر جيدا.
    ولو قيل بأن النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلا ، فالاهمال فيها يكون من الجهات ، ولا محيص حينئذ إلا من الاحتياط في الطريق بمراعاة اطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار ، لو لم يلزم منه محذور ، وإلا لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال ، فتأمل فإن المقام من مزال الاقدام.
    وهم ودفع : لعلك تقول : إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد ، ضرورة أنه من مقدماته انسداد باب العلمي أيضا.
    لكنك غفلت عن أن المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله ، لاجل اليقين بأنه لو كان شيء حجة شرعا كان هذا الشيء حجة قطعا ، بداهة أن الدليل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر ، لا الدليل على الملازمة.
    ثم لا يخفى أن الظن باعتبار ظن (1) بالخصوص ، يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد على تقرير الكشف بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل
1 ـ في « ب » : الظن.

(324)
بنفسه ، فإنه حينئذ يقطع بكونه حجة ، كان غيره حجة أو لا ، واحتمال عدم حجيته بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد ، ضرورة أنه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجة بلا نصب قرينة ، ولكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره ، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار ، وبالجملة الامر يدور بين حجية الكل وحجيته ، فيكون مقطوع الاعتبار.
    ومن هنا ظهر حال القوة ، ولعل نظر من رجح بها إلى هذا الفرض ، وكان منع شيخنا العلامة (1) ـ أعلى الله مقامه ـ عن الترجيح بهما (2) ، بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه ، أو الطريق ولو لم يصل أصلا ، وبذلك ربما يوفق بين كلمات الاعلام في المقام ، وعليك بالتأمل التام.
    ثم لا يذهب عليك أن الترجيح بهما (3) إنما هو على تقدير كفاية الراجح ، وإلا فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية ، فيختلف الحال باختلاف الانظار بل الاحوال.
    وأما تعميم النتيجة (4) بأن قضية العلم الاجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه ، فهو لا يكاد يتم إلا على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل أصلا ، مع أن التعميم بذلك لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الاطراف دون النافيات ، إلا فيما إذا كان هناك ناف من جميع الاصناف ، ضرورة أن الاحتياط فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم ، حيث لا ينافيه ، كيف ؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية ، كما لا يخفى ، فما ظنك بما لا يجب الاخذ بموجبه إلا من باب الاحتياط ؟ فافهم.
1 ـ فرائد الاصول / 142 ، وأما المرجح الثاني.
2 ـ في « ب » : بها.
3 ـ في « ب » : بها.
4 ـ هذا ثالث طرق « تعميم النتيجة » الذي نقله الشيخ ( قده ) عن شيخه المحقق شريف العلماء ( قده ) ، واستشكل عليه ، فرائد الاصول 150.


(325)
فصل
    قد اشتهر الاشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة ، وتقريره على ما في الرسائل (1) أنه :
    ( كيف يجامع حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للاطاعة والمعصية ، ويقبح على الآمر والمأمور التعدي عنه ، ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوز الشارع العمل به ؟ فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن ، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا ، جرى في غير القياس ، فلا يكون العقل مستقلا ، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس [ بل وأزيد ] (2) واختفى علينا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك على الشارع ، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا بقبحه ، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص ). انتهى موضع الحاجة من كلامه ، زيد في علو مقامه.
    وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال ، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا ، وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا ، بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي ، فلا موضوع لحكمه مع أحدهما ، والنهي عن ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شيء ، بل هو يستلزمه فيما كان في مورده أصل شرعي ، فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه ، بل به يرتفع موضوعه ، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا كالامر بما لا يفيده ، وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه ، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الاشكال فيه ، لا يصح الاشكال فيه بلحاظه.
1 ـ فرائد الاصول / 156.
2 ـ أثبتناها من فرائد الاصول.


(326)
    نعم لا بأس بالاشكال فيه في نفسه ، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير ، تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق. غاية الامر تلك المحاذير ـ التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب ـ كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الاصابة ، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس ، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة ، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل ، وقد عرفت أنه بمكان من الفساد.
    واستلزام إمكان المنع عنه ، لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا ، وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل ، إلا أنه إنما يكون بالاضافة إلى تلك الامارة ، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية ، وإلا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل ، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه ، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع (1).
    وقياس حكم العقل (2) بكون الظن مناطا للاطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح ، لا يكاد يخفى على أحد فساده ، لوضوح أنه مع الفارق ، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز ، وفيه على نحو التعليق.
    ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس ، مع جريانه في الامر بطريق غير مفيد للظن ، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا ، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك ، وليس إلا لاجل أن حكمه به معلق على عدم النصب ، ومعه لا حكم له ، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن ، فتدبر جيدا.
1 ـ سيأتي تحقيقه في الفصل الآتي.
2 ـ ذكره الشيخ ( قده ) في فرائد الاصول / 156.


(327)
    وقد انقدح بذلك أنه لا وقع للجواب عن الاشكال : تارة (1) بأن المنع عن القياس لاجل كونه غالب المخالفة ، وأخرى (2) بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الاصابة ، وذلك لبداهة أنه إنما يشكل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه ، بملاحظة حكم العقل بحجية الظن ، ولا يكاد يجدي صحته كذلك في ذب الاشكال في صحته بهذا اللحاظ ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة.
    وأما ما قيل في جوابه (3) ، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد ، أو منع حصول الظن منه بعد انكشاف حاله ، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه ، ففي غاية الفساد ، فإنه مضافا إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد ـ لدعوى الاجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته ، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه في بعض الاحيان ـ لا يكاد يكون في دفع الاشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد ، غاية الامر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين ، لكنه غير فرض الاشكال ، فتدبر جيدا.
فصل
    إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص ، فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد : إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه ، فضلا عما إذا ظن ، كما أشرنا إليه في الفصل السابق ، فلابد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فإن كفى ، وإلا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه وإن احتمل ، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد ، وإن انسد باب هذا الاحتمال معها ، كما لا يخفى ، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال
1 ـ هذا سابع الوجوه التي ذكرها الشيخ ( قده ) في الجواب عن الاشكال ، فرائد الاصول / 161.
2 ـ هو الوجه السادس الذي أفاده الشيخ ( قده ) واستشكل عليه ، فرائد الاصول / 160.
3 ـ راجع الوجهين الاولين من الوجوه السبعة التي ذكره الشيخ ( قده ) فرائد الاصول / 157.


(328)
حسب الفرض ومنه قد انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الاصول أو في الفروع أو فيهما ، فافهم.
فصل
    لا فرق في نتيجة دليل الانسداد ، بين الظن بالحكم من أمارة عليه ، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية ، كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه ، وهو واضح ، ولا يخفى أن اعتبار ما يورثه لا محيص عنه فيما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم ، فقول أهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد ، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.
    نعم لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية ، إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص ، أو ذاك المخصوص ، ومثله الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي ، كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا ، لا آخر.
    فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد ، ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجالي ، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية.
    تنبيه : لا بيعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور ، مهما أمكن في الرواية ، وعدم الاقتصار على (1) الظن الحاصل منها بلا سد بابه فيه بالحجة من علم أو علمي ، وذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه عقلا ، فتأمل جيدا.
فصل
    إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية الظن فيها ، لا
1 ـ في « أ » : بالظن.

(329)
حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها ، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها ، لا في إتيانها ، بل لابد من علم أو علمي بإتيانها ، كما لا يخفى.
    نعم ربما يجري نظير مقدمت الانسداد في الاحكام في بعض الموضوعات الخارجية ، من انسداد باب العلم به غالبا ، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفة (1) الواقع بإجراء الاصول فيه مهما أمكن ، وعدم وجوب الاحتياط شرعا أو عدم إمكانه عقلا ، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلا ، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضا ، فافهم.
    خاتمة : يذكر فيها أمران استطرادا :
    الاول : هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع العملية ، المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح ، يتبع في الاصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له ، أو لا ؟.
    الظاهر لا ، فإن الامر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به ، إلا أن باب الاعتقاد إجمالا ـ بما هو واقعه والانقياد له وتحمله ـ غير منسد ، بخلاف العمل بالجوارح ، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط ، والمفروض عدم وجوبه شرعا ، أو عدم جوازه عقلا ، ولا أقرب من العمل على وفق الظن.
    وبالجملة : لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الاعمال الجوانحية على الظن فيها ، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها ، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع ، ولا ينقاد إلا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العمليات ، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد.
    نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها ، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة
1 ـ في « ب » : بمخالفته.

(330)
أنبيائه ، فإنهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وكذا معرفة الامام ( عليه السلام ) على وجه صحيح (1) ، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ، ولاحتمال الضرر في تركه ، ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر ، إلا ما وجب شرعا معرفته ، كمعرفة الامام ( عليه السلام ) على وجه آخر غير صحيح ، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، لا من العقل ولا من النقل ، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة (2).
    ولا دلالة لمثل قوله تعالى « وما خلقت الجن والانس » (3) الآية ، ولا لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ) (4) ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من ( ليعبدون ) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه أصلا ، ومثل آية النفر (5) ، إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته ، كما لا يخفى ، وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه ، لا بصدد بيان ما يجب العلم به.
    ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا ، حيث أنه ليس بمعرفة قطعا ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة (6) المطلب مع قلة الاستعداد ، كما هو المشاهد في
1 ـ وهو كون الامامة كالنبوة منصبا إلهيا يحتاج إلى تعيينه ـ تعالى ـ ونصبه ، لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين ، وهو الوجه الآخر ( منه قدس سره الشريف ).
2 ـ هذا تعريض بما أفاده الشيخ ( قده ) انتصارا للعلامة ، فرائد الاصول / 170.
3 ـ الذاريات : 56.
4 ـ وقريب منه : الكافي 3 / 264 ، والتهذيب 2 / 236.
5 ـ التوبة : 122.
6 ـ في « ب » : الغموضية.
كفاية الاصول ::: فهرس