كفاية الاصول ::: 301 ـ 315
(301)
الذكر ، وإنما يروي ما سمعه أو رآه ، فافهم.
    ومنها : آية الاذن « ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين » (1) فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين ، وقرنه بتصديقه تعالى.
    وفيه : إولا : إنه إنما مدحه بأنه أذن ، وهو سريع القطع ، لا الاخذ بقول الغير تعبدا.
    وثانيا : إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين ، هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضر غيرهم ، لا التصديق بترتيب جميع الآثار ، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر ، ويظهر ذلك من تصديقه للنمام بأنه ما نمه ، وتصديقه لله تعالى بأنه نمه ، كما هو المراد من التصديق في قوله ( عليه السلام ) : ( فصدقه وكذبهم ) ، حيث قال ـ على ما في الخبر (2) ـ : ( يا محمد (3) كذب سمعك وبصرك عن أخيك : فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا ، وقال : لم أقله ، فصدقه وكذبهم ) فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرهم ، وتكذيبهم فيما يضره ولا ينفعهم ، وإلا فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين ؟ وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصة إسماعيل (4) ، فتأمل جيدا.
فصل
    في الاخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد.
    وهي وإن كانت طوائف كثيرة ، كما يظهر من مراجعة الوسائل (5) وغيرها ،
1 ـ التوبة : 61.
2 ـ عقاب الاعمال / 295 ، الحديث 1 ، الكافي 8 / 147 ، الحديث 125.
3 ـ في « أ و ب » : يا أبا محمد والصحيح ما أثبتناه ، لانه خطاب لمحمد بن فضيل المكنى بأبي جعفر.
4 ـ الكافي 5 / 299 ، باب حفظ المال وكراهة الاضاعة من كتاب المعيشة ، الحديث 1.
5 ـ الوسائل 18 : 72 الباب 8 من أبواب صفات القاضي والباب 9 ، الحديث 5 والباب 11 ،


(302)
إلا أنه يشكل الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد ، فإنها غير متفقة على لفظ ولا على معنى ، فتكون متواترة لفظا أو معنى.
    ولكنه مندفع بأنها وإن كانت كذلك ، إلا أنها متواترة إجمالا ، ضرورة أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم ( عليهم السلام ) ، وقضيته وإن كان حجية خبر دل على حجيته أخصها مضمونا (1) إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية ، وقد دل على حجية ما كان أعم ، فافهم.
فصل
    في الاجماع على حجية الخبر.
    وتقريره من وجوه :
    أحدها : دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الاصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ ، فيكشف رضاه ( عليه السلام ) بذلك ، ويقطع به ، أو من تتبع الاجماعات المنقولة على الحجية.
    ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى ، لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات ، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه ( عليه السلام ) من تتبعها ، وهكذا حال تتبع الاجماعات المنقولة ، اللهم إلا أن يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة ، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها ، ولكن دون إثباته خرط القتاد.
    ثانيها : دعوى اتفاق العلماء عملا ـ بل كافة المسلمين ـ على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية ، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.
الحديث 4 و 40.
1 ـ في الحقائق 2 : 132 ، وإن كان حجية خبر أخصها مضمونا ... الخ.


(303)
    وفيه : مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الاول ، أنه لو سلم اتفاقهم على ذلك ، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين ، أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين ، كما هو لا يزالون يعملون بها في غير الامور الدينية من الامور العادية ، فيرجع إلى ثالث الوجوه ، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الاديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي ، ضرورة أنه لو كان لاشتهر وبان ، ومن الواضح أنه يكشف عن رضى الشارع به في الشرعيات أيضا.
    إن قلت : يكفي في الردع الآيات الناهية ، والروايات المانعة عن اتباع غير العلم ، وناهيك قوله تعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (1) ، وقوله تعالى : « وإن الظن لا يغني من الحق شيئا » (2).
    قلت : لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك ، فإنه ـ مضافا إلى أنها وردت إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين ، ولو سلم فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة ـ لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر ، وذلك لان الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها ، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وهو يتوقف على الردع عنها بها ، وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها ، كما لا يخفى.
    لا يقال : على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا ، إلا على وجه دائر ، فإن اعتباره بها فعلا يتوقف على عدم الردع بها عنها ، وهو يتوقف على تخصيصها بها ، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها.
    فإنه يقال : إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها ، لعدم نهوض ما يصلح لردعها ، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك ، كما لا يخفى ، ضرورة أن ما
1 ـ الاسراء : 36.
2 ـ النجم : 28.


(304)
جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الاطاعة والمعصية ، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ، ولو في صورة المخالفة عن الواقع (1) ، يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات ، فافهم وتأمل (2).
فصل
    في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد.
    أحدها : إنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الائمة الاطهار ( عليهم السلام ) بمقدار واف بمعظم الفقه ، بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لا نحل علمنا الاجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الامارات إلى
1 ـ الصواب : المخالفة للواقع.
2 ـ قولنا : ( فافهم وتأمل ) إشارة إلى كون خبر الثقة متبعا ، ولو قيل بسقوط كل من السيرة والاطلاق عن الاعتبار ، بسبب دوران الامر بين ردعها به وتقييده بها ، وذلك لاجل استصحاب حجيته الثابتة قبل نزول الآيتين.
    فان قلت : لا مجال لاحتمال التقييد بها ، فإن دليل اعتبارها مغيى بعدم الردع به عنها ، ومعه لا تكون صالحة لتقييد الاطلاق مع صلاحيته للردع عنها ، كما لا يخفى.
    قلت : الدليل ليس إلا إمضاء الشارع لها ورضاه بها ، المستكشف بعدم الردع عنها في زمان مع إمكانه ، وهو غير مغيى ، نعم يمكن أن يكون له واقعا ، وفي علمه تعالى أمد خاص ، كحكمه الابتدائي ، حيث أنه ربما يكون له أمر فينسخ ، فالردع في الحكم الامضائي ليس إلا كالنسخ في الابتدائي وذلك غير كونه بحسب الدليل مغيى ، كما لا يخفى.
    وبالجملة : ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلا كحال الخاص المقدم ، والعام المؤخر ، في دوران الامر بين التخصيص بالخاص ، أو النسخ بالعام ، ففيهما يدور الامر أيضا بين التخصيص بالسيرة أو الردع بالآيات فافهم ( منه قدس سره ).
3 ـ أثبتناه من هامش نسخة « ب » ، وفي « أ » : خبر الواحد.


(305)
العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الاخبار الصادرة المعلومة تفصيلا ، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الامارات الغير المعتبرة ، ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الاخبار المثبتة ، وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له ، من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب ، بناء على جريانه في أطراف [ ما ] (1) علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه ، وإلا لاختص عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.
    وفيه : إنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر ، بحيث يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره ، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم ، وإن كان يسلم عما أورد عليه (2) من أن لازمه الاحتياط في سائر الامارات ، لا في خصوص الروايات ، لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي بينهما بما علم بين الاخبار بالخصوص ولو بالاجمال فتأمل جيدا.
    ثانيها : ما ذكره في الوافية (3) ، مستدلا على حجية الاخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة ، كالكتب الاربعة ، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر ، وهو :
    ( إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، سيما بالاصول الضرورية ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والانكحة ونحوها ، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنما يثبت بالخبر الغير القطعي ، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر فإنما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان ). انتهى.
    وأورد (4) عليه : أولا : بأن العلم الاجمالي حاصل بوجود الاجزاء والشرائط
1 ـ الزيادة من « ب ».
2 ـ أورده الشيخ على الوجه الاول بتقريره فليلاحظ ، فرائد الاصول / 103.
3 ـ الوافية / 57.
4 ـ إشارة إلى ما أورده الشيخ ( قده ) ، فرائد الاصول / 105 ، في جوابه عن التقرير الثاني من


(306)
بين جميع الاخبار ، لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكره ، فاللازم حينئذ : إما الاحتياط ، أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته (1).
    قلت : يمكن أن يقال : إن العلم الاجمالي وإن كان حاصلا بين جميع الاخبار ، إلا أن العلم بوجود الاخبار الصادرة عنهم ( عليهم السلام ) بقدر الكفاية بين تلك الطائفة ، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها ، يوجب انحلال ذاك العلم الاجمالي ، وصيرورة غيره خارجا عن طرف العلم ، كما مرت إليه الاشارة في تقريب الوجه الاول ، اللهم إلا أن يمنع عن ذلك ، وادعي (2) عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره ، أو ادعي (3) العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها ، فتأمل.
    وثانيا : بأن قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية ، دون الاخبار النافية لهما.
    والاولى أن يورد عليه : بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالاخبار المثبتة فيما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما ، من عموم دليل أو إطلاقه ، لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منهما ، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلا ، كما لا يخفى.
    ثالثها : ما أفاده بعض المحققين (4) بما ملخصه : إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه ، فلابد من الرجوع إليهما كذلك ، وإلا فلا
دليل العقل.
1 ـ كذا في النسختين ، والموجود في الرسائل : ( فاللازم حينئذ : إما الاحتياط ، والعمل بكل خبر دل على جزئية شيء أو شرطيته ، وإما العمل بكل خبر ظن صدوره مما دل على الجزئية أو الشرطية ) ، راجع فرائد الاصول / 105.
2 و 3 ـ الاولى في الموردين : يدعى.
4 ـ هو العلامة الشيخ محمد تقي الاصفهاني في هداية المسترشدين / 397 ، السادس من وجوه حجية الخبر.


(307)
محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف ، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار ، فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما.
    وفيه : إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الاخبار الحاكية للسنة ، كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه ـ زيد في علو مقامه ـ إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الاخبار المتيقن الاعتبار ، فإن وفى ، وإلا أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة لو كان ، وإلا فالاحتياط بنحو عرفت ، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، وذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا ، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره.
    هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة ـ بذاك المعنى ـ فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.
    وأما الايراد (1) عليه : برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية ، وإما إلى الدليل الاول ، لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الاخبار.
    ففيه : إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف ، بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة ، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.
1 ـ المستشكل عليه هو الشيخ ( قده ) ، فرائد الاصول / 106.

(308)
فصل
    في الوجوه (1) التي أقاموها على حجية الظن ، وهي أربعة :
    الاول : إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.
    أما الصغرى ، فلان الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها ، بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.
    وأما الكبرى ، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح (2) ، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما ، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح ، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه ، إذا قيل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء عليه ، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح ، فتدبر جيدا.
    والصواب في الجواب : هو منع الصغرى ، أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته ، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته ، وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها ، لا بين
1 ـ ذكر الشيخ ( قده ) هذه الوجوه أيضا ، فرائد الاصول / 106.
2 ـ هذا رد على الحاجبي : العضدي في شرحه ، شرح العضدي على مختصر الاصول : 1 / 163.


(309)
مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ، وبمجرد (1) الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به ، كي يكون مخالفته عصيانه.
    إلا أن يقال : إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده ، بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه ، فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا ، لا سيما إذا كان هو العقوبة الاخروية ، كما لا يخفى.
    وأما المفسدة فلانها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه ، إلا أنها ليست بضرر على كل حال ، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله ، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل ، بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا ، كما لا يخفى.
    وأما تفويت المصلحة ، فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة ، بل ربما يكون في استيفائها المضرة ، كما في الاحسان بالمال. هذا.
    مع منع كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به (2) والمنهي عنه (3) ، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها ، كما حققناه في بعض فوائدنا (4).
    وبالجملة : ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الافعال وأنيط بهما الاحكام بمضرة ، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الافعال على القول باستقلاله بذلك ، هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه ، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى ، فلا مجال لقاعدة رفع
1 ـ في « ب » : ومجرد.
2 و 3 ـ أنث الضمير في النسخ ، والصواب ما أثبتناه.
4 ـ الفوائد : 337 ، فائدة في اقتضاء الافعال للمدح والذم ، عند قوله : فيمكن أن يكون صورية ... ويمكن أن يكون حقيقية. وراجع ما ذكره في حاشيته على الرسائل : 76 ، عند قوله : مع احتمال عدم كون الاحكام تابعة لهما ، بل تابعة لما في انفسهما من المصلحة ... الخ.


(310)
الضرر المظنون ها هنا أصلا ، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة ، فافهم.
    الثاني : إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.
    وفيه : إنه لا يكاد يلزم منه ذلك إلا فيما إذا كان الاخذ بالظن أو بطرفه لازما ، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا ، أو عدم وجوبه شرعا ، ليدور الامر بين ترجيحه وترجيح طرفه ، ولا يكاد يدور الامر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد ، وإلا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الاشخاص أو الاحوال في اختلاف المقدمات ، على ما ستطلع على حقيقة الحال.
    الثالث : ما عن السيد الطباطبائي (1) ( قدس سره ) ، من :
    إنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله ، لانه عسر اكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لان الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل
1 ـ هو السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي الحائري ، ولد في الكاظمية عام 1161 ه‍ اشتغل على ولد الاستاذ العلامة ثم اشتغل عند خاله الاستاذ العلامة « وحيد البهبهاني » وبعد مدة قليلة اشتغل بالتصنيف والتدريس والتأليف ، له شرحان معروفان على النافع كبير موسوم ب‍ « رياض المسائل » وصغير وغيرهما ، ونقل عنه أيضا أنه كان يحضر درس صاحب الحدائق ، وكتب جميع مجلدات الحدائق بخطه الشريف ، تخرج عليه صاحب المقابس وصاحب المطالع وصاحب مفتاح الكرامة وشريف العلماء وأمثالهم من الاجلة. توفي سنة 1231 ه‍ ودفن تقريبا من قبر خاله العلامة ( روضات الجنات 4 / 399 الرقم 422 ).

(311)
إجماعا (1).
    ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد ، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد ، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته ، ومعه لا يكون دليل آخر ، بل ذاك الدليل.
    الرابع : دليل الانسداد ، وهو مؤلف من مقدمات ، يستقل العقل مع تحققها بكفاية الاطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف ، ولا يكاد يستقل بها بدونها ، وهي خمس (2).
    أولها : إنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.
    ثانيها : إنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.
    ثالثها : إنه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا.
    رابعها : إنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا ، بل لا يجوز في الجملة ، كما لا يجوز الرجوع إلى الاصل في المسألة ، من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط ، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.
    خامسها : إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا.
    فيستقل العقل حينئذ بلزوم الاطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة ، وإلا لزم ـ بعد انسداد باب العلم والعلمي بها ـ إما إهمالها ، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها ، وإما الرجوع إلى الاصل الجاري في كل مسألة ، مع قطع النظر عن العلم بها ، أو التقليد فيها ، أو الاكتفاء بالاطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية.
1 ـ حكى هذا القول الشيخ الانصاري ( قدس سره ) في فرائد الاصول / 111 ، نقلا عن أستاذه شريف العلماء عن أستاذه السيد الاجل الاقا ميرزا سيد علي الطباطبائي ( قدس سره ) « صاحب الرياض » في مجلس المذاكرة ، كما صرح بذلك العلامة المرحوم الميرزا محمد حسن الاشتياني ( قدس سره ) راجع بحر الفوائد 189.
2 ـ الصواب ما أثبتناه وفي النسخ : خمسة.


(312)
والفرض بطلان كل واحد منها.
    أما المقدمة الاولى : فهي وإن كانت بديهية إلا أنه قد عرفت انحلال العلم الاجمالي بما في الاخبار الصادرة عن الائمة الطاهرين ( عليهم السلام ) التي تكون فيما بأيدينا ، من الروايات في الكتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات ، وهو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال ، ولا إجماع على عدم وجوبه ، ولو سلم الاجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.

    وأما المقدمة الثانية : أما بالنسبة إلى العلم ، فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بينة وجدانية ، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد.
    وأما بالنسبة إلى العلمي ، فالظاهر أنها غير ثابتة ، لما عرفت من نهوض الادلة على حجية خبر يوثق بصدقه ، وهو بحمد الله واف بمعظم الفقه ، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا منها ، كما لا يخفى.

    وأما الثالثة : فهي قطعية ، ولو لم نقل بكون العلم الاجمالي منجزا مطلقا أو فيما جاز ، أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه ، كما في المقام حسب ما يأتي ، وذلك لان إهمال معظم الاحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام ، مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ومما يلزم تركه إجماعا.
    إن قلت : إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الاطراف ـ كما أشير إليه ـ فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الاطراف ـ حينئذ ـ على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان ؟ والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان ؟!
    قلت : هذا إنما يلزم ، لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط ، وقد علم به بنحو اللم ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه ، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة ، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات ، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الاهمال في هذا الحال ، وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا ، [ وأما


(313)
مع استكشافه ] (1) فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان ، كما حققناه في البحث وغيره.
    وأما المقدمة الرابعة : فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام ، فيما يوجب عسره اختلال النظام ، وأما فيما لا يوجب ، فمحل نظر بل منع ، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ، وذلك لما حققناه (2) في معنى ما دل على نفي الضرر والعسر ، من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما ، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما ، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل ، لعدم العسر في متعلق التكليف ، وإنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.
    نعم ، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر ـ كما قيل (3) ـ لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط ، لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة ، فتكون منفية بنفيه.
    ولا يخفى أنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الاطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها ، بل لابد من دعوى وجوبه شرعا ، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة ، فافهم وتأمل جيدا.
    وأما الرجوع إلى الاصول ، فبالنسبة إلى الاصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف ، فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل وعموم النقل. هذا ، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي ،
1 ـ هكذا في « أ » وشطب عليها في « ب ».
2 ـ تعرض المصنف لقاعدة لا ضرر في ص 72 ( الكتاب ) فليراجع عند قوله أن الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة ادعاء .. وقوله بعد أسطر ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر ... الخ.
3 ـ القائل هو الشيخ الانصاري ( قدس سره ) انظر ، فرائد الاصول / 314 ورسالة قاعدة نفي الضرر في مكاسبه ، المكاسب / 372.


(314)
لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله ، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها بمقتضى ( لا تنقض ) لوجوبه في البعض ، كما هو قضية ( ولكن تنقضه بيقين آخر ) وذلك لانه إنما يلزم فيما إذا كان الشك في أطرافه فعليا. وأما إذا لم يكن كذلك ، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه ، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا ، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الاحكام ، كما لا يخفى ، فلا يكاد يلزم ذلك ، فإن قضية ( لا تنقض ) ليس حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك ، وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له ، فافهم.
    ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الاصول النافية أيضا ، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها ، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا ، أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم إجمالا ، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط ، وإن لم يكن بذاك المقدار ، ومن الواضح أنه يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال.
    وقد ظهر بذلك أن العلم الاجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الاصول المثبتة وتلك الضميمة ، فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا ولا شرعا أصلا ، كما لا يخفى.
    كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك ، كان خصوص موارد أصول النافية مطلقا ـ ولو من مظنونات [ عدم ] (1) التكليف ـ محلا للاحتياط فعلا ، ويرفع اليد عنه فيها كلا أو بعضا ، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر ـ على ما عرفت ـ لا محتملات التكليف مطلقا.
1 ـ أثبتناها من « ب ».

(315)
    وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يجوز ، ضرورة أنه لا يجوز إلا للجاهل لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي ، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل ؟
    وأما المقدمة الخامسة : فلاستقلال العقل بها ، وأنه لا يجوز التنزل ـ بعد عدم التمكن من الاطاعة العلمية أو عدم وجوبها ـ إلا إلى الاطاعة الظنية دون الشكية أو الوهمية ، لبداهة مرجوحيتها بالاضافة إليها ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
    لكنك عرفت عدم وصول النوبة إلى الاطاعة الاحتمالية ، مع دوران الامر بين الظنية والشكية أو الوهمية ، من جهة ما أوردناه على المقدمة الاولى من انحلال العلم الاجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة ، وقضيته الاحتياط بالالزام عملا بما فيها من التكاليف ، ولا بأس به حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال النظام. وما أوردنا على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الاصول مطلقا ، ولو كانت نافية ، لوجود المقتضي وفقد المانع لو كان التكليف في موارد الاصول المثبتة وما علم منه تفصيلا ، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال ، وإلا فإلى الاصول المثبتة وحدها ، وحينئذ كان خصوص موارد الاصول النافية محلا لحكومة العقل ، وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها ، ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعا ، بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا أو عقلا ـ على ما عرفت تفصيله ـ هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق ، فافهم وتدبر جيدا.
فصل
    هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجية الظن بالواقع ، أو بالطريق ، أو بهما ؟ أقوال.
    والتحقيق أن يقال : إنه لا شبهة في أن هم العقل في كل حال إنما هو
كفاية الاصول ::: فهرس