كفاية الاصول ::: 406 ـ 420
(406)
الاحكام ، أو ما يشترك بين الاثنين منها ، أو الازيد من أمر عام.
    فإن كان الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه وارتفاعه ، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام.
    وإن كان الشك فيه من جهة تردد الخاص الذي في ضمنه ، بين ما هو باق أو مرتفع قطعا ، فكذا لا إشكال في استصحابه ، فيترتب عليه كافة ما يترتب عليه عقلا أو شرعا من أحكامه ولوازمه ، وتردد ذاك الخاص ـ الذي يكون الكلي موجودا في ضمنه ويكون وجوده بعين وجوده ـ بين متيقن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم حدوثه ، غير ضائر باستصحاب الكلي المتحقق في ضمنه ، مع عدم إخلاله باليقين والشك في حدوثه وبقائه ، وإنما كان التردد بين الفردين ضائرا باستصحاب أحد الخاصين اللذين كان أمره مرددا بينهما ، لاخلاله باليقين الذي هو أحد ركني الاستصحاب ، كما لا يخفى. نعم ، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا المترتبة على الخاصين ، فيما علم تكليف في البين.
    وتوهم كون الشك في بقاء الكلي الذي في ضمن ذاك المردد مسببا عن الشك في حدوث الخاص المشكوك حدوثه المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه فاسد قطعا ، لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه ، بل من لوازم كون الحادث المتيقن ذاك المتيقن الارتفاع أو البقاء ، مع أن بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه لا أنه من لوازمه ، على أنه لو سلم أنه من لوازم حدوث المشكوك فلا شبهة في كون اللزوم عقليا ، ولا يكاد يترتب بأصالة عدم الحدوث إلا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعا.
    وأما إذا كان الشك في بقائه ، من جهة الشك في قيام خاص آخر في مقام ذاك الخاص الذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه ، ففي استصحابه إشكال ، أظهره عدم جريانه ، فإن وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده ، إلا


(407)
أن وجوده في ضمن المتعدد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له ، بل متعدد حسب تعددها ، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها ، لقطع بارتفاع وجوده ، وإن شك في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد ، أو لارتفاعه بنفسه أو بملاكه ، كما إذا شك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الايجاب بملاك مقارن أو حادث.
    لا يقال : الامر وإن كان كما ذكر ، إلا أنه حيث كان التفاوت بين الايجاب والاستحباب وهكذا بين الكراهة والحرمة ، ليس إلا بشدة الطلب بينهما وضعفه ، كان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد وجود الطبيعي بينهما ، لمساوقة الاتصال مع الوحدة ، فالشك في التبدل حقيقة شك في بقاء الطلب وارتفاعه ، لا في حدوث وجود آخر.
    فإنه يقال : الامر وإن كان كذلك ، إلا أن العرف حيث يرى الايجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين ، لا واحد مختلف الوصف في زمانين ، لم يكن مجال للاستصحاب ، لما مرت (1) الاشارة إليه وتأتي (2) ، من أن قضية إطلاق أخبار الباب ، أن العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه مع الشك بنظر العرف نقضا ، وإن لم يكن بنقض بحسب الدقة ، ولذا لو انعكس الامر ولم يكن نقض عرفا ، لم يكن الاستصحاب جاريا وإن كان هناك نقض عقلا.
    ومما ذكرنا في المقام ، يظهر ـ أيضا ـ حال الاستصحاب في متعلقات الاحكام في الشبهات الحكمية والموضوعية ، فلا تغفل.
    الرابع : إنه لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الامور القارة أو التدريجية الغير القارة ، فإن الامور الغير القارة وإن كان وجودها ينصرم ولا يتحقق
1 ـ ص 386.
2 ـ ص 427.


(408)
منه جزء إلا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم ، إلا أنه ما لم يتخلل في البين العدم ، بل وإن تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفا وإن انفصل حقيقة ، كانت باقية مطلقا أو عرفا ، ويكون رفع اليد عنها ـ مع الشك في استمرارها وانقطاعها ـ نقضا. ولا يعتبر في الاستصحاب ـ بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلته ـ غير صدق النقض والبقاء كذلك قطعا ، هذا مع أن الانصرام والتدرج في الوجود في الحركة ـ في الاين وغيره ـ إنما هو في الحركة القطعية ، وهي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان ، لا التوسطية وهي كونه بين المبدأ والمنتهى ، فإنه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا.
    فانقدح بذلك أنه لا مجال للاشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار وترتيب مالهما من الآثار ، وكذا كلما إذا كان الشك في الامر التدريجي من جهة الشك في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى ، أو أنه بعد في البين ، وأما إذا كان من جهة الشك في كميته ومقداره ، كما في نبع الماء وجريانه ، وخروج الدم وسيلانه ، فيما كان سبب الشك في الجريان والسيلان الشك في أنه بقي في المنبع والرحم فعلا شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما ، فربما يشكل في استصحابهما حينئذ ، فإن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جاريا ، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه ، ولكنه يتخيل بأنه لا يختل به ما هو الملاك في الاستصحاب ، بحسب تعريفه ودليله حسبما عرفت.
    ثم إنه لا يخفى أن استصحاب بقاء الامر التدريجي ، إما يكون من قبيل استصحاب الشخص ، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه ، فإذا شك في أن السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شيء منها ، صح فيه استصحاب الشخص والكلي ، وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة ، كان


(409)
من القسم الثاني ، وإذا شك في أنه شرع في أخرى مع القطع بأنه قد تمت الاولى كان من القسم الثالث ، كما لا يخفى.
    هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيات.
    وأما الفعل المقيد بالزمان ، فتارة يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده ، وطورا مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أخرى ، كما إذا احتمل أن يكون التعبد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله.
    فإن كان من جهة الشك في بقاء القيد ، فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان ، كالنهار الذي قيد به الصوم مثلا ، فيترتب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما لم يقطع بزواله ، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد ، فيقال : إن الامساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان فيجب ، فتأمل.
    وإن كان من الجهة الاخرى ، فلا مجال إلا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلا ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما لموضوعه ، وإلا فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه فيما بعد ذاك الزمان ، فإنه غير ما علم ثبوته له ، فيكون الشك في ثبوته له ـ أيضا ـ شكا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه ، لا في بقائه.
    لا يقال : إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أخذ ظرفا لثبوت الحكم في دليله ، ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه.
    فإنه يقال : نعم ، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر العقل ، وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين ، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الاول ، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني ، فلا يكون مجال إلا لاستصحاب ثبوته.


(410)
    لا يقال : فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النظرين ، ويقع التعارض بين الاستصحابين ، كما قيل.
    فإنه يقال : إنما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين ، وإلا فلا يكاد يصح إلا إذا سبق بأحدهما ، لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما ، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما ، فلا يكون هناك إلا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فيما إذا أخذ قيدا ، لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي ، ولا شبهة في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع ما قبله متحد في الاول ومتعدد في الثاني بحسبه ، ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر ، ولو بالنظر المسامحي العرفي.
    نعم ، لا يبعد أن يكون بحسبه ـ أيضا ـ متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه ، من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي ، وأن حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده قطعا ، إلا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب ، فتأمل جيدا.
    إزاحة وهم : لا يخفى أن الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلها يكون مما إذا وجدت بأسبابها ، لا يكاد يشك في بقائها إلا من قبل الشك في الرافع لها ، لا من قبل الشك في مقدار تأثير أسبابها ، ضرورة أنها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها ، كانت من الامور الخارجية أو الامور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية ، فلا أصل لاصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وأصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرة ، كما حكي عن بعض الافاضل (1) ، ولا يكون ها هنا أصل إلا أصالة الطهارة أو
1 ـ هو الفاضل النراقي في مناهج الاحكام والاصول / 242 ، في الفائدة الاولى من فوائد ذكرها ذيل

(411)
النجاسة.
    الخامس : إنه كما لا إشكال فيما إذا كان المتيقن حكما فعليا مطلقا ، لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان مشروطا معلقا ، فلو شك في مورد لاجل طروء بعض الحالات عليه في بقاء أحكامه ، ففيما صح استصحاب أحكامه المطلقة صح استصحاب أحكامه المعلقة ، لعدم الاختلال بذلك فيما اعتبر في قوام الاستصحاب من اليقين ثبوتا والشك بقاء.
    وتوهم (1) أنه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه فاختل أحد ركنيه فاسد ، فإن المعلق قبله إنما لا يكون موجودا فعلا ، لا أنه لا يكون موجودا أصلا ، ولو بنحو التعليق ، كيف ؟ والمفروض أنه مورد فعلا للخطاب بالتحريم ـ مثلا ـ أو الايجاب ، فكان على يقين منه قبل طروء الحالة فيشك فيه بعده ، ولا يعتبر في الاستصحاب إلا الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته ، واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك.
    وبالجملة : يكون الاستصحاب متمما لدلالة الدليل على الحكم فيما أهمل أو أجمل ، كان الحكم مطلقا أو معلقا ، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة ، فيحكم ـ مثلا ـ بأن العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقا في حال عنبيته ، من أحكامه المطلقة والمعلقة لو شك فيها ، فكما يحكم ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه.
    إن قلت : نعم ، ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلق لمعارضته باستصحاب ضده المطلق ، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير
تتميم الاستصحاب بشروط الاستصحاب ، عند قوله : وإذا شك في بقاء الطهارة الشرعية الحاصلة بالوضوء ... الخ.
1 ـ راجع المناهل للسيد المجاهد / 652.


(412)
باستصحاب حليته المطلقة.
    قلت : لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شك في بقاء حكم المعلق بعده ، ضرورة أنه كان مغيى بعدم ما علق عليه المعلق ، وما كان كذلك لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع فضلا عن الاستصحاب ، لعدم المضادة بينهما ، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا معا بالقطع قبل بلا منافاة أصلا ، وقضية ذلك انتفاء الحكم (1) المطلق بمجرد ثبوت ما علق عليه المعلق ، فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلية ، فإذا شك في حرمته المعلقة بعد عروض حالة عليه ، شك في حليته المغياة لا محالة أيضا ، فيكون الشك في حليته أو حرمته فعلا بعد عروضها متحدا خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة بنحو كانتا عليه ، فقضية استصحاب حرمته المعلقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حليته المغياة حرمته فعلا بعد غليانه وانتفاء حليته ، فإنه قضية نحو ثبوتهما كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب ، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الالباب ، فالتفت ولا تغفل (2).
    السادس : لا فرق أيضا بين أن يكون المتيقن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة ، إذا شك في بقائه وارتفاعه بنسخه في هذه الشريعة ، لعموم أدلة الاستصحاب ، وفساد توهم اختلال أركانه فيما كان
1 ـ في « ب » حكم المطلق.
2 ـ كي لا تقول في مقام التفصي عن إشكال المعارضة : إن الشك في الحلية فعلا بعد الغليان يكون مسببا عن الشك في الحرمة المعلقة ، فيشك بأنه لا ترتب بينهما عقلا ولا شرعا ، بل بينهما ملازمة عقلا ، لما عرفت من أن الشك في الحلية أو الحرمة الفعليين بعده متحد مع الشك في بقاء حرمته وحليته المعلقة ، وإن قضية الاستصحاب حرمته فعلا ، وانتفاء حليته بعد غليانه ، فإن حرمته كذلك وإن كان لازما عقلا لحرمته المعلقة المستصحبة ، إلا أنه لازم لها ، كان ثبوتها بخصوص خطاب ، أو عموم دليل الاستصحاب ، فافهم ( منه قدس سره ).


(413)
المتيقن من أحكام الشريعة السابقة لا محالة ، إما لعدم اليقين بثبوتها في حقهم ، وإن علم بثبوتها سابقا في حق آخرين ، فلا شك في بقائها أيضا ، بل في ثبوت مثلها ، كما لا يخفى ، وإما لليقين بارتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة ، فلا شك في بقائها حينئذ ، ولو سلم اليقين بثبوتها في حقهم ، وذلك لان الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لافراد المكلف ، كانت محققة وجودا أو مقدرة ، كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة ، وهي قضايا حقيقية ، لا خصوص الافراد الخارجية ، كما هو قضية القضايا الخارجية ، وإلا لما صح الاستصحاب في الاحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها ، كان الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامة أفراد المكلف ممن وجد أو يوجد ، وكان (1) الشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته ، والشريعة السابقة وإن كانت منسوخة بهذه الشريعة يقينا ، إلا أنه لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها ، ضرورة أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك ، بل عدم بقائها بتمامها ، والعلم إجمالا بارتفاع بعضها إنما يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه منها ، فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا ، لا فيما إذا لم يكن من أطرافه ، كما إذا علم بمقداره تفصيلا ، أو في موارد ليس المشكوك منها ، وقد علم بارتفاع ما في موارد الاحكام الثابتة في هذه الشريعة.
    ثم لا يخفى أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة (2) ـ أعلى الله في الجنان
1 ـ في كفاية اليقين بثبوته ، بحيث لو كان باقيا ولم ينسخ لعمه ، ضرورة صدق أنه على يقين منه ، فشك فيه بذلك ، ولزوم اليقين بثبوته في حقه سابقا بلا ملزم.
وبالجملة : قضية دليل الاستصحاب جريانه لاثبات حكم السابق للاحق وإسراؤه إليه فيما كان يعمه ويشمله ، لولا طروء حالة معها يحتمل نسخه ورفعه ، وكان دليله قاصرا عن شمولها ، من دون لزوم كونه ثابتا له قبل طروئها أصلا ، كما لا يخفى ( منه قدس سره ).
2 ـ فرائد الاصول / 381 ، عند قوله : وثانيا ان اختلاف الاشخاص .. الخ.


(414)
مقامه ـ في ذب اشكال (1) تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب من الوجه الثاني إلى ما ذكرنا ، لا ما يوهمه ظاهر كلامه ، من أن الحكم ثابت للكلي ، كما أن الملكية له في مثل باب الزكاة والوقف العام ، حيث لا مدخل للاشخاص فيها ، ضرورة أن التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك ، بل لا بد من تعلقه بالاشخاص ، وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية ، وكان غرضه من عدم دخل الاشخاص عدم أشخاص خاصة ، فافهم.
    وأما ما أفاده من الوجه الاول (2) ، فهو وإن كان وجيها بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين ، إلا أنه غير مجد في حق غيره من المعدومين ، ولا يكاد يتم الحكم فيهم ، بضرورة اشتراك أهل الشريعة الواحدة أيضا ، ضرورة أن قضية الاشتراك ليس إلا أن الاستصحاب حكم كل من كان على يقين فشك ، لا أنه حكم الكل ولو من لم يكن كذلك بلا شك ، وهذا واضح.
    السابع : لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في إستصحاب الاحكام ، ولاحكامه في استصحاب الموضوعات ، كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية والعقلية ، وإنما الاشكال في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة غير شرعية عادية كانت أو عقلية ، ومنشؤه أن مفاد الاخبار : هل هو تنزيل المستصحب والتعبد به وحده ؟ بلحاظ خصوص ما له من الاثر بلا واسطة ، أو تنزيله بلوازمه العقلية أو العادية ؟ كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والامارات ، أو بلحاظ مطلق ما له من الاثر ولو بالواسطة ؟ بناء على
1 ـ الصحيح ما أثبتناه خلاف لما في النسخ.
2 ـ فرائد الاصول / 381 ، عند قوله : وفيه اولا .. الخ.


(415)
صحة التنزيل (1) بلحاظ أثر الواسطة أيضا لاجل أن أثر الاثر أثر.
    وذلك لان مفادها لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه ، لم يترتب عليه ما كان مترتبا عليها ، لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبدا ، ولا يكون تنزيله بلحاظه ، بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه ، أو بلحاظ ما يعم آثارها ، فإنه يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها.
    والتحقيق أن الاخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي لا يكون كذلك ، كما هي محل ثمرة الخلاف ، ولا على تنزيله بلحاظ ماله مطلقا ولو بالواسطة ، فإن المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه ، وأما آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلا ، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه ، كما لا يخفى.
    نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان محسوبا بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أن مفاد الاخبار عرفا ما يعمه أيضا حقيقة ، فافهم.
    كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، أو بوساطة ما لاجل وضوح
1 ـ ولكن الوجه عدم صحة التنزيل بهذا اللحاظ ، ضرورة أنه ما يكون شرعا لشيء من الاثر لا دخل له بما يستلزمه عقلا أو عادة ، وحديث أثر الاثر أثر وإن كان صادقا إلا أنه إذا لم يكن الترتب بين الشيء وأثره وبينه وبين مؤثره مختلفا ، وذلك ضرورة أنه لا يكاد يعد الاثر الشرعي لشيء أثرا شرعيا لما يستلزمه عقلا أو عادة أصلا ، لا بالنظر الدقيق العقلي ولا النظر المسامحي العرفي ، إلا فيما عد أثر الواسطة أثرا لذيها لخفائها أو لشدة وضوح الملازمة بينهما ، بحيث عدا شيئا واحد ذا وجهين ، وأثر أحدهما أثر الاثنين ، كما يأتي الاشارة إليه ، فافهم ( منه قدس سره ).

(416)
لزومه له ، أو ملازمته معه بمثابة عد اثره اثرا لهما ، فإن عدم ترتيب مثل هذا الاثر عليه يكون نقضا ليقينه بالشك أيضا ، بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفا ، فافهم.
    ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول التعبدية وبين الطرق والامارات ، فإن الطريق والامارة حيث أنه كما يحكي عن المؤدى ويشير إليه ، كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها ، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها ، وقضيته حجية المثبت منها كما لا يخفى ، بخلاف مثل دليل الاستصحاب ، فإنه لا بد من الاقتصار مما فيه من الدلالة على التعبد بثبوته ، ولا دلالة له إلا على التعبد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره ، حسبما عرفت فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه ، كسائر الاصول التعبدية ، إلا فيما عد أثر الواسطة أثرا له لخفائها ، أو لشدة وضوحها وجلائها ، حسبما حققناه.
    الثامن : إنه لا تفاوت في الاثر المترتب على المستصحب ، بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شيء ، أو بوساطة عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتحد معه وجودا ، كان منتزعا عن مرتبة ذاته ، أو بملاحظة بعض عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة ، فإن الاثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة ، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه ، لغيره مما كان مباينا معه ، أو من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة كسواده مثلا أو بياضه ، وذلك لان الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده ، كما أن العرضي كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الاثر ، لا شيء آخر ، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت كما توهم (1).
1 ـ المتوهم هو الشيخ ( ره ) في الامر السادس من تنبيهات الاستصحاب عند قوله لا فرق في الامر

(417)
    وكذا لا تفاوت في الاثر المستصحب أو المترتب عليه ، بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف وبعض أنحاء الوضع ، أو بمنشأ انتزاعه كبعض أنحائه كالجزئية والشرطية والمانعية ، فإنه أيضا مما تناله يد الجعل شرعا ويكون أمره بيد الشارع وضعا ورفعا ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.
    ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب مجعولا مستقلا كما لا يخفى ، فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية بمثبت ، كما ربما توهم (1) بتخيل أن الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية ، بل من الامور الانتزاعية ، فافهم.
    وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الاثر ووجوده ، أو نفيه وعدمه ، ضرورة أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته ، وعدم إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر ، إذ ليس هناك ما دل على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عنه كصدقه برفعها من طرف ثبوته كما هو واضح ، فلا وجه للاشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف ، وعدم المنع عن الفعل بما في الرسالة (2) ، من أن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية ، فإن عدم استحقاق العقوبة وإن كان غير مجعول ، إلا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع ، وترتب عدم الاستحقاق مع كونه عقليا على استصحابه ، إنما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر ، فتأمل.
    التاسع : إنه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الاثر الغير الشرعي ولا
1 ـ المتوهم هو الشيخ ( ره ) في القول السابع في الاستصحاب ، عند قوله أن الثاني مفهوم منتزع الخ فرائد الاصول / 351.
2 ـ هذا مفاد كلام الشيخ في التمسك باستصحاب البراءة في ادلة اصل البراءة ، فرائد الاصول / 204.


(418)
الشرعي بوساطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب ، إنما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعا ، فلا يكاد يثبت به من آثاره إلا أثره الشرعي الذي كان له بلا واسطة ، أو بوساطة أثر شرعي آخر ، حسبما عرفت فيما مر (1) ، لا بالنسبة إلى ما كان للاثر الشرعي مطلقا ، كان بخطاب الاستصحاب أو بغيره من أنحاء الخطاب ، فإن آثاره الشرعية كانت أو غيرها يترتب عليه إذا ثبت ولو بأن يستصحب ، أو كان من آثار المستصحب ، وذلك لتحقق موضوعها حينئذ حقيقة ، فما للوجوب عقلا يترتب على الوجوب الثابت شرعا باستصحابه أو استصحاب موضوعه ، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلى غير ذلك ، كما يترتب على الثابت بغير الاستصحاب ، بلا شبهة ولا ارتياب ، فلا تغفل.
    العاشر : إنه قد ظهر مما مر (2) لزوم أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو ذا حكم كذلك ، لكنه لا يخفى أنه لابد أن يكون كذلك بقاء ولو لم يكن كذلك ثبوتا فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما ولا له أثر شرعا وكان في زمان استصحابه كذلك ـ أي حكما أو ذا حكم ـ يصح استصحابه كما في استصحاب عدم التكليف ، فإنه وإن لم يكن بحكم مجعول في الازل ولا ذا حكم ، إلا أنه حكم مجعول فيما لا يزال ، لما عرفت من أن نفيه كثبوته في الحال مجعول شرعا ، وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتا ، أو كان ولم يكن حكمه فعليا وله حكم كذلك بقاء ، وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه والعمل ، كما إذا قطع بارتفاعه يقينا ، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتا فيه وفي تنزيلها بقاء ، فتوهم اعتبار الاثر سابقا ـ كما ربما يتوهمه الغافل من اعتبار كون المستصحب حكما أو ذا حكم ـ فاسد قطعا ، فتدبر جيدا.
1 ـ راجع التنبيه السابع ، ص 413.
2 ـ المصدر المتقدم.


(419)
    الحادي عشر : لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق حكم أو موضوع.
    وأما إذا كان الشك في تقدمه وتأخره بعد القطع بتحققه وحدوثه في زمان :
    فإن لو حظ بالاضافة إلى أجزاء الزمان ، فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحققه في الزمان الاول ، وترتيب آثاره لا آثار تأخره عنه ، لكونه بالنسبة إليه مثبتا إلا بدعوى خفاء الواسطة ، أو عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحققه إلى زمان وتأخره عنه عرفا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، ولا آثار حدوثه في الزمان الثاني ، فإنه نحو وجود خاص ، نعم لا بأس بترتيبها بذا ك الاستصحاب ، بناء على أنه عبارة عن أمر مركب من الوجود في الزمان اللاحق وعدم الوجود في السابق.
    وإن لو حظ بالاضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضا ، وشك في تقدم ذاك عليه وتأخره عنه ، كما إذا علم بعروض حكمين أو موت متوارثين ، وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فإن كانا مجهولي التاريخ :
    فتارة كان الاثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن ، لا للآخر ولا له بنحو آخر ، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض ، بخلاف ما إذا كان الاثر لوجود كل منهما كذلك ، أو لكل من أنحاء وجوده ، فإنه حينئذ يعارض ، فلا مجال لاستسحاب العدم في واحد ، للمعارضة باستصحاب العدم في آخر ، لتحقق أركانه في كل منهما. هذا إذا كان الاثر المهم مترتبا على وجوده الخاص الذي كان مفاد كان التامة.
    وأما إن كان مترتبا على ما إذا كان متصفا بالتقدم ، أو بأحد ضديه الذي كان مفاد كان الناقصة ، فلا مورد ها هنا للاستصحاب ، لعدم اليقين السابق فيه ، بلا ارتياب.
    وأخرى كان الاثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، فالتحقيق أنه أيضا ليس


(420)
بمورد للاستصحاب ، فيما كان الاثر المهم مترتبا على ثبوته [ للحادث ، بأن يكون الاثر الحادث ] (1) المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان ، [ بل قضية الاستصحاب عدم حدوثه كذلك ، كما لا يخفى ] (2). وكذا فيما كان مترتبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا ، وإن كان على يقين منه في آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما ، لعدم إحراز اتصال زمان شكه وهو زمان حدوث الآخر بزمان يقينه ، لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.
    وبالجملة (3) كان بعد ذاك الآن الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما زمانان : أحدهما زمان حدوثه ، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الذي يكون طرفا للشك في أنه فيه أو قبله ، وحيث شك في أن أيهما مقدم وأيهما مؤخر لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، ومعه لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشك من نقض اليقين بالشك.
    لا يقال : لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين بذاك الآن ، وهو بتمامه زمان الشك في حدوثه لاحتمال تأخره على الآخر ، مثلا إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة ، وصار على يقين من حدوث أحدهما بلا تعيين في ساعة أخرى بعدها ، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة ، كان زمان الشك في حدوث كل منهما تمام الساعتين لا خصوص أحدهما ، كما لا يخفى.
1 ـ جاءت العبارة في نسخة « أ » وحذفت من « ب ».
2 ـ أثبتنا الزيادة من « ب ».
3 ـ وإن شئت قلت : إن عدمه الازلي المعلوم قبل الساعتين ، وإن كان في الساعة الاولى منهما مشكوكا ، إلا أنه حسب الفرض ليس موضوعا للحكم والاثر ، وإنما الموضوع هو عدمه الخاص ، وهو عدمه في زمان حدوث الآخر المحتمل كونه الساعة الاولى المتصلة بزمان يقينه ، أو الثانية المنفصلة عنه ، فلم يحرز اتصال زمان شكه بزمان يقينه ، ولابد منه في صدق : لا تنقض اليقين بالشك ، فاستصحاب عدمه إلى الساعة الثانية لا يثبت عدمه في زمان حدوث الآخر إلا على الاصل المثبت فيما دار الامر بين التقدم والتأخر ، فتدبر ، ( منه قدس سره ).
كفاية الاصول ::: فهرس