كفاية الاصول ::: 421 ـ 435
(421)
    فإنه يقال : نعم ، ولكنه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان ، والمفروض إنه لحاظ إضافته إلى الآخر ، وأنه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهة أن زمان شكه بهذا اللحاظ إنما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه لا الساعتين.
    فانقدح أنه لا مورد ها هنا للاستصحاب لاختلال أركانه لا أنه مورده ، وعدم جريانه إنما هو بالمعارضة ، كي يختص بما كان الاثر لعدم كل في زمان الآخر ، وإلا كان الاستصحاب فيما له الاثر جاريا.
    وأما لو علم بتاريخ أحدهما ، فلا يخلو أيضا إما يكون الاثر المهم مترتبا على الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن ، فلا إشكال في استصحاب عدمه ، لو لا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر أو طرفه ، كما تقدم.
    وإما يكون مترتبا على ما إذا كان متصفا بكذا ، فلا مورد للاستصحاب أصلا ، لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه كما لا يخفى ، لعدم اليقين بالاتصاف به سابقا فيهما.
    وإما يكون مترتبا على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة في زمان الآخر ، فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جاريا ، لاتصال زمان شكه بزمان يقينه ، دون معلومه لانتفاء الشك فيه في زمان ، وإنما الشك فيه بإضافة زمانه إلى الآخر ، وقد عرفت جريانه فيهما تارة وعدم جريانه كذلك أخرى.
    فانقدح أنه لا فرق بينهما ، كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين ، ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين ، فيما اعتبر في الموضوع خصوصية ناشئة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدم ، أو أحد ضديه وشك فيها ، كما لا يخفى.
    كما انقدح أنه لا مورد للاستصحاب أيضا فيما تعاقب حالتان متضادتان


(422)
كالطهارة والنجاسة ، وشك في ثبوتهما وانتفائهما ، للشك في المقدم والمؤخر منهما ، وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة بزمان الشك في ثبوتهما ، وترددها بين الحالتين ، وأنه ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم وتأمل في المقام فإنه دقيق.
    الثاني عشر : إنه قد عرفت (1) أن مورد الاستصحاب لابد أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم كذلك ، فلا إشكال فيما كان المستصحب من الاحكام الفرعية ، أو الموضوعات الصرفة الخارجية ، أو اللغوية إذا كانت ذات احكام شرعية.
    وأما الامور الاعتقادية التي كان المهم فيها شرعا هو الانقياد والتسليم والاعتقاد بمعنى عقد القلب عليها من الاعمال القلبية الاختيارية ، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكما وكذا موضوعا ، فيما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ، لصحة التنزيل وعموم الدليل ، وكونه أصلا عمليا إنما هو بمعنى أنه وظيفة الشك تعبدا ، قبالا للامارات الحاكية عن الواقعيات ، فيعم العمل بالجوانح كالجوارح ، وأما التي كان المهم فيها شرعا وعقلا هو القطع بها ومعرفتها ، فلا مجال له موضوعا ويجري حكما ، فلو كان متيقنا بوجوب تحصيل القطع بشيء ـ كتفاصيل القيامة ـ في زمان وشك في بقاء وجوبه ، يستصحب.
    وأما لو شك في حياة إمام زمان مثلا فلا يستصحب ، لاجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه ، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع امكانه ، ولا يكاد يجدي في مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا ، إلا إذا كان حجة من باب إفادته الظن وكان المورد مما يكتفى به أيضا ، فالاعتقاديات كسائر الموضوعات لابد في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي ، يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه ، كان ذاك متعلقا بعمل الجوارح أو الجوانح.
1 ـ في التنبيه السابع / ص 413.

(423)
    وقد انقدح بذلك أنه لا مجال له في نفس النبوة ، إذا كانت ناشئة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها ، وكانت لازمة لبعض مراتب كمالها ، إما لعدم الشك فيها بعد اتصاف النفس بها ، أو لعدم كونها مجعولة بل من الصفات الخارجية التكوينية ، ولو فرض الشك في بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها بتلك المثابة ، كما هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات ، وعدم أثر شرعي مهم لها يترتب عليها باستصحابها.
    نعم لو كانت النبوة من المناصب المجعولة وكانت كالولاية ، وإن كان لابد في إعطائها من أهلية وخصوصية يستحق بها لها ، لكانت موردا للاستصحاب بنفسها ، فيترتب عليها آثارها ولو كانت عقلية بعد استصحابها ، لكنه يحتاج إلى دليل كان هناك غير منوط بها ، وإلا لدار ، كما لا يخفى. وأما استصحابها بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها ، فلا إشكال فيها كما مر (1).
    ثم لا يخفى أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم ، إلا إذا اعترف بأنه على يقين فشك ، فيما صح هناك التعبد والتنزيل ودل عليه الدليل ، كما لا يصح أن يقنع به إلا مع اليقين والشك والدليل على التنزيل.
    ومنه انقدح أنه لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى أصلا ، لا إلزاما للمسلم ، لعدم الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة ، واليقين بنسخ شريعته ، وإلا لم يكن بمسلم ، مع أنه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنه على يقين وشك ، ولا اقناعا مع الشك ، للزوم معرفة النبي بالنظر إلى حالاته ومعجزاته عقلا ، وعدم الدليل على التعبد بشريعته لا عقلا ولا شرعا ، والاتكال على قيامه في شريعتنا لا يكاد يجديه إلا على نحو محال ، ووجوب العمل بالاحتياط عقلا في حال
1 ـ في التنبيه السادس / ص 411.

(424)
عدم المعرفة بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم منه الاختلال ، للعلم بثبوت إحداهما على الاجمال ، إلا إذا علم بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال.
    الثالث عشر : إنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العام ، لكنه ربما يقع الاشكال والكلام فيما إذا خصص في زمان في أن المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسك بالعام.
    والتحقيق أن يقال : إن مفاد العام ، تارة يكون ـ بملاحظة الزمان ـ ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام ، وأخرى على نحو جعل كل يوم من الايام فردا لموضوع ذاك العام. وكذلك مفاد مخصصه ، تارة يكون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه ، وأخرى على نحو يكون مفردا ومأخوذا في موضوعه.
    فإن كان مفاد كل من العام والخاص على النحو الاول ، فلا محيص عن استصحاب حكم الخاص في غير مورد دلالته ، لعدم دلالة للعام على حكمه ، لعدم دخوله على حدة في موضوعه ، وانقطاع الاستمرار بالخاص الدال على ثبوت الحكم له في الزمان السابق ، من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللاحق ، فلا مجال إلا لاستصحابه.
    نعم لو كان الخاص غير قاطع لحكمه ، كما إذا كان مخصصا له من الاول ، لما ضر به في غير مورد دلالته ، فيكون أول زمان استمراد حكمه بعد زمان دلالته ، فيصح التمسك ب‍ « أوفوا بالعقود » (1) ولو خصص بخيار المجلس ونحوه ، ولا يصح التمسك به فيما إذا خصص بخيار لا في أوله ، فافهم.
    وإن كان مفادهما على النحو الثاني ، فلا بد من التمسك بالعام بلا كلام ،
1 ـ سورة المائدة : الآية 1.

(425)
لكون موضوع الحكم بلحاظ هذا الزمان من أفراده ، فله الدلالة على حكمه ، والمفروض عدم دلالة الخاص على خلافه.
    وإن كان مفاد العام على النحو الاول والخاص على النحو الثاني ، فلا مورد للاستصحاب ، فإنه وإن لم يكن هناك دلالة أصلا ، إلا أن انسحاب الحكم الخاص إلى غير مورد دلالته من إسراء حكم موضوع إلى آخر ، لا استصحاب حكم الموضوع ، ولا مجال أيضا للتمسك بالعام لما مر آنفا ، فلا بد من الرجوع إلى سائر الاصول.
    وإن كان مفادهما على العكس كان المرجع هو العام ، للاقتصار في تخصيصه بمقدار دلالة الخاص ، ولكنه لولا دلالته لكان الاستصحاب مرجعا ، لما عرفت من أن الحكم في طرف الخاص قد أخذ على نحو صح استصحابه ، فتأمل تعرف أن اطلاق كلام (1) شيخنا العلامة ( أعلى الله مقامه ) في المقام نفيا وإثباتا في غير محله.
    الرابع عشر : الظاهر أن الشك في أخبار الباب وكلمات الاصحاب هو خلاف اليقين ، فمع الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق يجري الاستصحاب ، ويدل عليه ـ مضافا إلى أنه كذلك لغة كما في الصحاح ، وتعارف استعماله فيه في الاخبار في غير باب ـ قوله عليه السلام في أخبار الباب : ( ولكن تنقصه بيقين آخر ) حيث أن ظاهره أنه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين وأنه ليس إلا اليقين ، وقوله أيضا : ( لا حتى يستيقن أنه قد نام ) بعد السؤال عنه عليه السلام عما ( إذا حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ) حيث دل بإطلاقه مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الامارة الظن ، وما إذا لم تفد ، بداهة أنها لو لم تكن مفيدة له دائما لكانت مفيدة له أحيانا ، على عموم النفي لصورة الافادة ، وقوله عليه السلام بعده : ( ولا تنقض اليقين بالشك ) أن الحكم في المغيى مطلقا هو عدم نقض اليقين بالشك ، كما لا
1 ـ راجع الامر العاشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الاصول / 395.

(426)
يخفى.
    وقد استدل عليه أيضا بوجهين آخرين :
    الاول (1) : الاجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف على تقدير اعتباره من باب الاخبار.
    وفيه : إنه لا وجه لدعواه ولو سلم اتفاق الاصحاب على الاعتبار ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الاخبار عليه.
    الثاني (2) : إن الظن الغير المعتبر ، إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه أن وجوده كعدمه عند الشارع ، وأن كلما يترتب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده ، وإن كان مما شك في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك ، فتأمل جيدا.
    وفيه : إن قضية عدم اعتباره لالغائه أو لعدم الدليل على اعتباره لا يكاد يكون إلا عدم إثبات مظنونه به تعبدا ، ليترتب عليه آثاره شرعا ، لا ترتيب آثار الشك مع عدمه ، بل لابد حينئذ في تعيين أن الوظيفة أي أصل من الاصول العملية من الدليل ، فلو فرض عدم دلالة الاخبار معه على اعتبار الاستصحاب فلابد من الانتهاء إلى سائر الاصول بلا شبهة ولا ارتياب ، ولعله أشير إليه بالامر بالتأمل (3) ، فتأمل جيدا.
    تتمة : لا يذهب عليك أنه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع ، وعدم
1 ـ هذا هو الوجه الاول في استدلال الشيخ ( ره ) على تعميم الشك ، في الامر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الاصول / 389.
2 ـ هذا هو الوجه الثالث في استدلال الشيخ ( ره ) على تعميم الشك ، في الامر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الاصول / 398.
3 ـ راجع فرائد الاصول ، الامر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب / 389.


(427)
أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه ، فها هنا مقامان :
    المقام الاول : إنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا ، كاتحادهما حكما ، ضرورة أنه بدونه لا يكون الشك في البقاء بل في الحدوث ، ولارفع اليد عن اليقين في محل الشك نقض اليقين بالشك ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان ، والاستدلال (1) عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقومه بالموضوع وتشخصه به غريب ، بداهة أن استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبدا ، والالتزام بآثاره شرعا.
    وأما بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجا ، فلا يعتبر قطعا في جريانه لتحقق أركانه بدونه ، نعم ربما يكون مما لابد منه في ترتيب بعض الآثار ، ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده ، وإن كان محتاجا إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الانفاق عليه.
    وإنما الاشكال كله في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف ؟ أو بحسب دليل الحكم ؟ أو بنظر العقل ؟ فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الاحكام ، لقيام احتمال تغير الموضوع في كل مقام شك في الحكم بزوال بعض خصوصيات موضوعه ، لاحتمال دخله فيه ، ويختص بالموضوعات ، بداهة أنه إذا شك في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين منه حقيقة بخلاف ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، ضرورة أن انتفاء بعض الخصوصيات وإن كان موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال دخله في موضوعه ، إلا أنه ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوماته.
    كما أنه ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا ، مثلا
1 ـ استدل به الشيخ ( ره ) في خاتمة الاستصحاب ، في شروط جريان الاستصحاب ، فرائد الاصول / 400.

(428)
إذا ورد ( العنب إذا غلى يحرم ) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفا هو خصوص العنب ، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه ، يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب ، كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان محكوما به كان من بقائه ، ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيلوه من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عما هو ظاهر فيه.
    ولا يخفى أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فيكون نقضا بلحاظ موضوع ، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر ، فلابد في تعيين أن المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره ، من بيان أن خطاب ( لا تنقض ) قد سيق بأي لحاظ ؟.
    فالتحقيق أن يقال : إن قضية إطلاق خطاب ( لا تنقض ) هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي ، لانه المنساق من الاطلاق في المحاورات العرفية ومنها الخطابات الشرعية ، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم ، لا محيص عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف ، وإن لم يحرز بحسب العقل أو لم يساعده النقل ، فيستصحب مثلا ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين عرفا ، ولا يستصحب فيما لا اتحاد كذلك وإن كان هناك اتحاد عقلا ، كما مرت الاشارة إليه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي (1) ، فراجع.
    المقام الثاني : إنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الامارة المعتبرة
1 ـ في نهاية التنبيه الثالث / ص 406.

(429)
في مورد ، وإنما الكلام في أنه للورود أو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه.
    والتحقيق أنه للورود ، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين ، وعدم رفع اليد عنه مع الامارة على وفقه ليس لاجل أن لا يلزم نقضه به ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة.
    لا يقال : نعم ، هذا لو أخذ بدليل الامارة في مورده ، ولكنه لم لا يؤخذ بدليله ويلزم الاخذ بدليلها ؟
    فإنه يقال : ذلك إنما هو لاجل أنه لا محذور في الاخذ بدليلها بخلاف الاخذ بدليله ، فإنه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص إلا على وجه دائر ، إذ التخصيص به يتوقف على اعتباره معها ، واعتباره كذلك يتوقف على التخصيص به ، إذ لولاه لا مورد له معها ، كما عرفت آنفا.
    وأما حديث الحكومة (1) فلا أصل له أصلا ، فإنه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل ، وإن كان دالا على إلغائه معها ثبوتا وواقعا ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أن قضية دليله إلغائها كذلك ، فإن كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة ، هذا مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة ، فافهم فإن المقام لا يخلو من دقة.
    وأما التوفيق ، فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ، لما عرفت من أنه لا يكون مع الاخذ به نقض يقين بشك ، لا أنه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك.
1 ـ القائل بها هو الشيخ الاعظم ( ره ) ، راجع فرائد الاصول ، في خاتمة الاستصحاب ، الشرط الثالث في جريان الاستصحاب / 407.

(430)
خاتمة
    لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول العملية ، وبيان التعارض بين الاستصحابين.
    أما الاول : فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الامارة وبينه ، فيقدم عليها ولا مورد معه لها ، للزوم محذور التخصيص إلا بوجه دائر في العكس وعدم محذور فيه أصلا ، هذا في النقلية منها.
    وأما العقلية فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها ، بداهة عدم الموضوع معه لها ، ضرورة أنه إتمام حجة وبيان ومؤمن من العقوبة وبه الامان ، ولا شبهة في أن الترجيح به عقلا صحيح.
    وأما الثاني : فالتعارض بين الاستصحابين ، إن إن لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضاد في زمان الاستصحاب ، فهو من باب تزاحم (1) الواجبين.
1 ـ فيتخير بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهم ، وإلا فيتعين الاخذ بالاهم ، ولا مجال لتوهم أنه لا يكاد يكون هناك أهم ، لاجل أن إيجابهما إنما يكون من باب واحد وهو استصحابهما من دون مزية في أحدهما أصلا ، كما لا يخفى ، وذلك لان الاستصحاب إنما يثبت المستصحب ، فكما يثبت به الوجوب والاستحباب ، يثبت به كل مرتبة منهما ، فيستصحب ، فلا تغفل ( منه قدس سره ).

(431)
    وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، فتارة يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر ، فيكون الشك فيه مسببا عن الشك فيه ، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة وقد كان طاهرا ، وأخرى لا يكون كذلك.
    فإن كان أحدهما أثرا للآخر ، فلا مورد إلا للاستصحاب في طرف السبب ، فإن الاستصحاب في طرف المسبب موجب لتخصيص الخطاب ، وجواز نقض اليقين بالشك في طرف السبب بعدم ترتيب أثره الشرعي ، فإن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته ، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته ، بخلاف استصحاب طهارته ، إذ لا يلزم منه نقض يقين بنجاسة الثوب بالشك ، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته ، وهو غسله بالماء المحكوم شرعا بطهارته.
    وبالجملة فكل من السبب والمسبب وإن كان موردا للاستصحاب ، إلا أن الاستصحاب في الاول بلا محذور (1) ، بخلافه في الثاني ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلا بنحو محال ، فاللازم الاخذ بالاستصحاب السببي ، نعم لو لم يجر هذا
1 ـ وسر ذلك أن رفع اليد عن اليقين في مورد السبب يكون فردا لخطاب : لا تنقض اليقين ، ونقضا لليقين بالشك مطلقا بلا شك ، بخلاف رفع اليد عن اليقين في مورد المسبب ، فإنه إنما يكون فردا له إذا لم يكن حكم حرمة النقض يعم النقض في مورد السبب ، وإلا لم يكن بفرد له ، إذ حينئذ يكون من نقض اليقين باليقين ، ضرورة أنه يكون رفع اليد عن نجاسة الثوب المغسول بماء محكوم بالطهارة شرعا ، باستصحاب طهارته لليقين بأن كل ثوب نجس يغسل بماء كذلك يصير طاهرا شرعا. وبالجملة من الواضح لمن له أدنى تأمل ، أن اللازم ـ في كل مقام كان للعام فرد مطلق ، وفرد كان فرديته له معلقة على عدم شمول حكمه لذلك الفرد المطلق كما في المقام ، أو كان هناك عامان كان لاحدهما فرد مطلق وللآخر فرد كانت فرديته معلقة على عدم شمول حكم ذاك العام لفرده المطلق ، كما هو الحال في الطرق في مورد الاستصحاب ـ هو الالتزام بشمول حكم العام لفرده المطلق حيث لا مخصص له ، ومعه لا يكون فرد آخر يعمه أو لا يعمه ، ولا مجال لان يلتزم بعدم شمول حكم العام للفرد المطلق ليشمل حكمه لهذا الفرد ، فإنه يستلزم التخصيص بلا وجه ، أو بوجه دائر كما لا يخفى على ذوي البصائر ( منه قدس سره ).

(432)
الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسببي جاريا ، فإنه لا محذور فيه حينئذ مع وجود أركانه وعموم خطابه. (1)
    وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر ، فالاظهر جريانهما فيما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية للتكليف الفعلي المعلوم إجمالا ، لوجود المقتضي إثباتا وفقد المانع عقلا.
    أما وجود المقتضي ، فلاطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب في أطراف المعلوم بالاجمال ، فإن قوله عليه السلام في ذيل بعض أخبار الباب : ( ولكن تنقض اليقين باليقين ) (1) لو سلم أنه يمنع (2) عن شمول قوله عليه السلام في صدره : ( لا تنقض اليقين بالشك ) لليقين والشك في أطرافه ، للزوم المناقضة في مدلوله ، ضرورة المناقضة بين السلب الكلي والايجاب الجزئي ، إلا أنه لا يمنع عن عموم النهي في سائر الاخبار مما ليس فيه الذيل ، وشموله لما في أطرافه ، فإن إجمال ذاك الخطاب لذلك لا يكاد يسري إلى غيره مما ليس فيه ذلك.
    وأما فقد المانع ، فلاجل أن جريان الاستصحاب في الاطراف لا يوجب إلا المخالفة الالتزامية ، وهو ليس بمحذور لا شرعا ولا عقلا.
    ومنه قد انقدح عدم جريانه في أطراف العلم بالتكليف فعلا أصلا ولو في بعضها ، لوجوب الموافقة القطعية له عقلا ، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعية أو الاحتمالية ، كما لا يخفى.
تذنيب
    لا يخفى أن مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل ، وقاعدة الفراغ
1 ـ في نسخة « أ » سقط من هنا إلى بداية المقصد الثامن.
2 ـ التهذيب 1 / 8 الحديث 11.
3 ـ هذا رد لوجه منع الشيخ عن جريان الاستصحابين ، راجع فرائد الاصول 429 ، خاتمة الاستصحاب ، القسم الثاني من تعارض الاستصحابين عند قوله : بل لان العلم الاجمالي هنا .. الخ.


(433)
بعد الفراغ عنه ، وأصالة صحة عمل الغير إلى غير ذلك من القواعد المقررة في الشبهات الموضوعية إلا القرعة تكون مقدمة على استصحاباتها المقتضية لفساد ما شك فيه من الموضوعات ، لتخصيص دليلها بأدلتها ، وكون النسبة بينه وبين بعضها عموما من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها بعد الاجماع على عدم التفصيل بين مواردها ، مع لزوم قلة المورد لها جدا لو قيل بتخصيصها بدليلها ، إذ قل مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها ، كما لا يخفى.
    وأما القرعة فالاستصحاب في موردها يقدم عليها ، لاخصية دليله من دليلها ، لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه دونها ، واختصاصها بغير الاحكام إجماعا لا يوجب الخصوصية في دليلها بعد عموم لفظها لها ، هذا مضافا إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه ، حتى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر بعمل المعظم ، كما قيل ، وقوة دليله بقلة تخصيصه بخصوص دليل.
    لا يقال : كيف يجور تخصيص دليلها بدليله ؟ وقد كان دليلها رافعا لموضوع دليله لا لحكمه ، وموجبا لكون نقض اليقين باليقين بالحجة على خلافه ، كما هو الحال بينه وبين أدلة سائر الامارات ، فيكون ـ هاهنا أيضا ـ من دوران الامر بين التخصيص بلا وجه غير دائر والتخصص.
    فإنه يقال : ليس الامر كذلك ، فإن المشكوك مما كانت له حالة سابقة وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه بعنوانه الواقعي ، إلا أنه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشك ، والظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق لا في الجملة ، فدليل الاستصحاب الدال على حرمة النقض الصادق عليه حقيقة ، رافع لموضوعه أيضا ، فافهم.
    فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الامر بينه وبين رفع اليد عن دليله ، لوهن عمومها وقوة عمومه ، كما أشرنا إليه آنفا ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على محمد وآله باطنا وظاهرا.


(434)

(435)
المقصد الثامن
تعارض الادلة والامارات
كفاية الاصول ::: فهرس