كفاية الاصول ::: 436 ـ 450
(436)

(437)
    التعارض هو تنافي الدليلين أو الادلة بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا ، بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا ، وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما ، إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة ، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كمية ما أريد من الآخر ، مقدما (1) كان أو مؤخرا ، أو كانا على نحو إذا عرضنا على العرف وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما ، كما هو مطرد في مثل الادلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الاولية ، مع مثل الادلة النافية للعسر والحرج والضرر والاكراه والاضطرار ، مما يتكفل لاحكامها بعناوينها الثانوية ، حيث يقدم في مثلهما الادلة النافية ، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلا ويتفق في غيرهما ، كما لا يخفى.
1 ـ خلافا لما يظهر في عبارة الشيخ من اعتبار تقدم المحكوم ، راجع فرائد الاصول 432 ، التعادل والترجيح ، عند قوله وضابط الحكومة .. الخ.

(438)
    أو بالتصرف فيهما ، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما ، أو في أحدهما المعين ولو كان الآخر أظهر ، ولذلك تقدم الامارات المعتبرة على الاصول الشرعية ، فإنه لا يكاد يتحير أهل العرف في تقديمها عليه بعد ملاحظتهما ، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا ، بخلاف العكس فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر ، كما أشرنا إليه (1) في أواخر الاستصحاب.
    وليس (2) وجه تقديمها حكومتها على أدلتها بعدم كونها ناظرة إلى أدلتها بوجه ، وتعرضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها ، وإلا كانت أدلتها أيضا دالة ـ ولو بالالتزام ـ على أن حكم مورد الاجتماع فعلا هو مقتضى الاصل لا الامارة ، وهو مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الامارة ، بل ليس مقتضى حجيتها إلا نفي ما قضيته عقلا من دون دلالة عليه لفظا ، ضرورة أن نفس الامارة لا دلالة له إلا على الحكم الواقعي ، وقضية حجيتها ليست إلا لزوم العمل على وفقها شرعا المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه وهو قضية الاصل ، هذا مع احتمال أن يقال : إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا وتنجز الواقع مع المصادفة ، وعدم تنجزه في صورة المخالفة.
    وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبدا ، كي يختلف الحال ويكون مفاده في الامارة نفي حكم الاصل ، حيث أنه حكم الاحتمال بخلاف مفاده فيه ، لاجل أن الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه ، كيف ؟ وهو حكم الشك فيه واحتماله ، فافهم وتأمل جيدا.
    فانقدح بذلك أنه لا تكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الاصل والامارة ، إلا بما أشرنا سابقا وآنفا ، فلا تغفل ، هذا ولا تعارض أيضا إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، كما في الظاهر مع النص أو الاظهر ، مثل
1 ـ في خاتمة الاستصحاب / ص 430.
2 ـ القائل بالحكومة هو الشيخ في فرائد الاصول 432 ، أول مبحث التعادل والترجيح.


(439)
العام والخاص والمطلق والمقيد ، أو مثلهما مما كان أحدهما نصا أو أظهر ، حيث أن بناء العرف على كون النص أو الاظهر قرينة على التصرف في الآخر.
    وبالجملة : الادلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها ، إلا أنها غير متعارضة ، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الاثبات ، بحيث تبقى ابناء المحاورة متحيرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في البعض عرفا ، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين ، ولا فرق فيها بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا ، فيقدم النص أو الاظهر ـ وإن كان بحسب السند ظنيا ـ على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا.
    وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور مما كان التنافي فيه بين الادلة بحسب الدلالة ومرحلة الاثبات ، وإنما يكون التعارض بحسب السند فيما إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة ، أو ظنيا فيما إذا لم يكن التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل ، فإنه حينئذ لا معنى للتعبد بالسند في الكل ، إما للعمل بكذب أحدهما ، أو لاجل أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها ، فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ ، كما لا يخفى.
فصل
    التعارض وإن كان لا يوجب إلا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا ، حيث لا يوجب إلا العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر ، إلا أنه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا ـ فإنه لم يعلم كذبه إلا كذلك ، واحتمال كون كل منهما كاذبا ـ لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه ، لعدم التعيين (1) في الحجة أصلا ، كما لا يخفى.
    نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية ، وصلاحيته على ما هو عليه من عدم التعين لذلك لا بهما ، هذا بناء على حجية الامارات من باب
1 ـ في « أ و ب » التعين.

(440)
الطريقية ، كما هو كذلك حيث لا يكاد يكون حجة طريقا إلا ما احتمل إصابته ، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعا عن حجيته ،
    وأما بناء على حجيتها من باب السببية فكذلك لو كان الحجة هو خصوص ما لم يعلم كذبه ، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها إلا فيه ، كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها ، وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور ، لا للتقية ونحوها ، وكذا السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضا ، وظهوره فيه لو كان هو الآيات والاخبار ، ضرورة ظهورها فيه ، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.
    وأما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين ، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين ، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي ، فإنه حينئذ لا يزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء ، إلا أن يقال بأن قضية اعتبار دليل الغير الالزامي أن يكون عن اقتضاء ، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي الالزامي ، ويحكم فعلا بغير الالزامي ، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي الغير الالزامي ، لكفاية عدم تمامية علة الالزامي في الحكم بغيره.
    نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه من الاحكام ، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به ، وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وإن كان واضحا ، ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الاحكام ، إلا أنه لا دليل نقلا ولا عقلا على الموافقة الالتزامية للاحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية ، كما مر تحقيقه (1).
    وحكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم
1 ـ في مبحث القطع ، الامر الخامس ، ص 268.

(441)
يكن أحدهما معلوم الاهمية أو محتملها في الجملة ، حسبما فصلناه (1) في مسألة الضد ، وإلا فالتعيين ، وفيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الاخذ بما دل على الحكم الالزامي ، لو لم يكن في الآخر مقتضيا لغير الالزامي ، وإلا فلا بأس بأخذه والعمل عليه ، لما أشرنا إليه من وجهه آنفا ، فافهم.
    هذا هو قضية القاعدة في تعارض الامارات ، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما ، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما ، كما عرفته في الصور السابقة ، مع أن في الجمع كذلك أيضا طرحا للامارة أو الامارتين ، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه ، وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنديهما قطعيين ، وفي السندين إذا كانا ظنيين ، وقد عرفت أن قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من الحكمين ، لا بقاؤهما على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما ، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل ، فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا ، ولا ينافيه الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذ وتعينه ، فإن أولويته من قبيل الاولوية في أولي الارحام ، وعليه لا إشكال فيه ولا كلام.
فصل
    لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات ، إنما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها ، وإلا فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الاخبار ، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار ، ولا يخفى أن اللازم فيما إذا لم
1 ـ لم يتقدم منه ـ قدس سره ـ في مسألة الضد تفصيل ولا إجمال من هذه الحيثية ، نعم له تفصيل في تعليقته على الرسالة ، راجع حاشية فرائد الاصول / 269 ، عند قوله : اعلم أن منشأ الاهمية تارة ... الخ.

(442)
تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع بحجيته تخييرا أو تعيينا ، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته ، والاصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته ، بل ربما ادعي الاجماع (1) أيضا على حجية خصوص الراجح ، واستدل عليه بوجوه أخر أحسنها الاخبار ، وهي على طوائف :
    منها : ما دل على التخيير على الاطلاق ، كخبر (2) الحسن بن الجهم ، عن الرضا ـ عليه السلام ـ : ( قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيهما الحق ، قال : فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت ). وخبر (3) الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبدالله عليه السلام : ( إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه ). ومكاتبة (4) عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام ( اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله عليه السلام ، في ركعتي الفجر ، فروى بعضهم : صل في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلا في الارض ، فوقع عليه السلام : موسع عليك بأية عملت ) ومكاتبة الحميري (5) إلى الحجة عليه السلام ـ إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان ... إلى أن قال عليه السلام ـ ( وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا ) إلى غير ذلك من الاطلاقات.
    ومنها : ما (6) دل على التوقف مطلقا.
    ومنها : ما (7) دل على ما هو الحائط منها.
1 ـ ادعاه الشيخ في فرائد الاصول 441 ، المقام الثاني في التراجيح من مبحث التعادل والتراجيح.
2 ـ الاحتجاج 357 ، في احتجاجات الامام الصادق ( عليه السلام ).
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ التهذيب 3 ، الباب 23 ، الصلاة في السفر ، الحديث 92 ، مع اختلاف يسير.
5 ـ الاحتجاج 483 ، في توقيعات الناحية المقدسة.
6 ـ الاصول من الكافي 1 / 66 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث 7. عوالي اللآلي 4 / 133 ، الحديث 230.
7 ـ وسائل الشيعة 18 / 111 ، الباب 12 من ابواب صفات القاضي.


(443)
    ومنها : ما دل (1) على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة ، من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسنة ، والاعدلية ، والاصدقية ، والافقهية والاورعية ، والاوثقية ، والشهرة على اختلافها في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها.
    ولاجل اختلاف الاخبار اختلفت الانظار.
    فمنهم من أوجب الترجيح بها ، مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير ، وهم بين من اقتصر على الترجيح بها ، ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لاقوائية ذي المزية وأقربيته ، كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (2) ، أو المفيدة للظن ، كما ربما يظهر من غيره (3).
    فالتحقيق أن يقال : إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو المقبولة (4) والمرفوعة (5) ، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جدا ، والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال ، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما ، ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره ، كما لا يخفى.
    ولا وجه لدعوى تنقيح المناط ، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين ، وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون إلا بالترجيح ولذا أمر عليه السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه السلام في صورة
1 ـ وسائل الشيعة 18 / 75 الباب 9 من ابواب صفات القاضي.
2 ـ فرائد الاصول 450 ، في المقام الثالث من مقام التراجيح.
3 ـ مفاتيح الاصول / 688 ، التنبيه الثاني من تنبيهات تعارض الدليلين.
4 ـ التهذيب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحديث 52. الكافي 1 / 67 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث 15
الفقيه 3 / 5 ، الباب 9 ، الحديث 2.
5 ـ عوالي اللآلي 4 / 133 الحديث 229.


(444)
تساويهما فيما ذكر من المزايا ، بخلاف مقام الفتوى ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة ، كما لا يخفى.
    وإن أبيت إلا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين ، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الامام عليه السلام بهما ، لقصور المرفوعة سندا وقصور المقبولة دلالة ، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه السلام ، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح ، مع أن تقييد الاطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين ـ بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين ، مع ندرة كونهما متساويين جدا ـ بعيد قطعا ، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب ، كما فعله بعض الاصحاب (1) ، ويشهد به الاختلاف الكثير بين ما دل على الترجيح من الاخبار.
    ومنه قد انقدح حال سائر أخباره ، مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا ، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة ، بشهادة ما (2) ورد في أنه زخرف ، وباطل ، وليس بشيء ، أو أنه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، وكذا الخبر الموافق للقوم ، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية ـ بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لولا القطع به ـ غير جارية ، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك ، وكذا الصدور أو
1 ـ الظاهر هو السيد الصدر شارح الوافية ، لكنه ( رحمه الله ) حمل جميع أخبار الترجيح على الاستحباب ، شرح الوافية ، ص مخطوط.
2 ـ الوسائل 18 / 78 ، الباب 9 من ابواب صفات القاضي ، الاحاديث : 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 40 ، 47 ، 48. والمحاسن : 1 / 220 ، الباب 11 ، الاحاديث 128 إلى 131 وص 225 ، الباب 12 ، الحديث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحديث 150.


(445)
الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند ولا الظهور ، كما لا يخفى ، فتكون هذه الاخبار في مقام تميز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة ، فافهم.
    وإن أبيت عن ذلك ، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها وبين الاطلاقات ، إما على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا ، هذا ثم إنه لولا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات ، وهي آبية عنه ، كيف يمكن تقييد مثل : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل ) ؟ كما لا يخفى.
    فتلخص ـ مما ذكرنا ـ أن اطلاقات التخيير محكمة ، وليس في الاخبار ما يصلح لتقييدها. نعم قد استدل على تقييدها ، ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أخر :
    منها : دعوى (1) الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين.
    وفيه أن دعوى الاجماع ـ مع مصير مثل الكليني إلى التخيير ، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء ، قال في ديباجة الكافي : ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من التخيير ـ مجازفة.
    ومنها (2) : أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا.
    وفيه انه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع ، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالاضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان ، وكان الترجيح بها بلا مرجح ، وهو قبيح كما هو واضح ، هذا.
    مضافا إلى ما هو في الاضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع ، من أن
1 ـ حكاه الشيخ ( ره ) عن كلام جماعة / فرائد الاصول 469 ، المرجحات الخارجية ، من الخاتمة في التعادل والتراجيح.
2 ـ استدل به المحقق القمي ( ره ) قوانين الاصول 2 / 278 ، في قانون الترجيح من الخاتمة.


(446)
الترجيح بلا مرجح في الافعال الاختيارية ومنها الاحكام الشرعية ، لا يكون إلا قبيحا ، ولا يستحيل وقوعه إلا على الحكيم تعالى ، وإلا فهو بمكان من الامكان ، لكفاية إرادة المختار علة لفعله ، وإنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة ، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح ، إلا من باب امتناع صدوره منه تعالى ، وأما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.
    وبالجملة : الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علة محال ، وبمعنى بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال ، فلا تشتبه.
    ومنها : غير ذلك (1) مما لا يكاد يفيد الظن ، فالصفح عنه أولى وأحسن.
    ثم إنه لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين ، في عمل نفسه وعمل مقلديه ، ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية ، لعدم الدليل عليه فيها.
    نعم له الافتاء به في المسألة الاصولية ، فلا بأس حينئذ باختيار المقلد غير ما اختاره المفتي ، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه.
    وهل التخيير بدوي أم استمراري ؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية الاطلاقات أيضا كونه استمراريا.
    وتوهم (2) أن المتحير كان محكوما بالتخيير ، ولا تحير له بعد الاختيار ، فلا يكون الاطلاق ولا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار ، لاختلاف الموضوع فيهما ، فاسد ، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله ، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا ، كما لا يخفى.
فصل
    هل على القول بالترجيح ، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة المنصوصة ، أو يتعدى إلى غيرها ؟ قيل (3) بالتعدي ، لما في الترجيح بمثل الاصدقية
1 ـ راجع فرائد الاصول 442 ـ 444 ، المقام الثاني من مقام التراجيح.
2 ـ يظهر ذلك من الشيخ ( ره ) في فرائد الاصول 440 ، المقام الاول في المتكافئين.
3 ـ القائل هو الشيخ ( قده ) ونسبه إلى جمهور المجتهدين ، فرائد الاصول / 450.


(447)
والاوثقية ونحوهما ، مما فيه من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة للاقربية إلى الواقع ، ولما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه ، من استظهار أن العلة هو عدم الريب فيه بالاضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب ، ولما في التعليل بأن الرشد في خلافهم.
    ولا يخفى ما في الاستدلال بها :
    أما الاول : فإن جعل خصوص شيء فيه جهة الاراءة والطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته ، بل لا إشعار فيه كما لا يخفى ، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته ، لا سيما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلا تعبدا ، فافهم.
    وأما الثاني : فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها ، مع أن الشهرة في الصدر الاول بين الرواة وأصحاب الائمة ـ عليهم السلام ـ موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها ، بحيث يصح أن يقال عرفا : إنها مما لا ريب فيها ، كما لا يخفى. ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى كل مزية ولو لم يوجب إلا أقربية ذي المزية إلى الواقع ، من المعارض الفاقد لها.
    وأما الثالث : فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة ، لحسنها ، ولو سلم أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف ، فلا شبهة في حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة ، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله ، كما مر آنفا.
    ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لاجل انفتاح باب التقية فيه ، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك ، مع الوثوق بصدورهما ، لولا القطع به في الصدر الاول ، لقلة الوسائط ومعرفتها ، هذا.
    مع ما في عدم بيان الامام ـ عليه السلام ـ للكلية كي لا يحتاج السائل إلى


(448)
إعادة السؤال مرارا ، وما في أمره ـ عليه السلام ـ بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة ، من الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة ، كما لا يخفى.
    ثم إنه بناء على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة مالا يوجب الظن بذي المزية ولا أقربيته ، كبعض صفات الراوي مثل الاورعية أو الافقهية ، إذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن أو الاقربية ، كالتورع من الشبهات ، والجهد في العبادات ، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الاصولية ، فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الاقربية ، بل إلى كل مزية ، ولو لم تكن بموجبة (1) لاحدهما ، كما لا يخفى.
    وتوهم أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح ، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ ، فاسد. فإن الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا ، وإنما يضر فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه ، ولم يؤخذ في اعتبار الاخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك ، هذا مضافا إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدورا ، وإلا فلا يوجبه الظن بصدور أحدهما لامكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما ، أو إرادته تقية ، كما لا يخفى.
    نعم لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته وفي جهة إثباته وطريقيته ، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك ، وإن كان موجب لقوة مضمون ذيه ثبوتا ، كالشهرة الفتوائية أو الاولوية الظنية ونحوهما ، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقن منها ، إنما هو الاقوى دلالة ، كما لا يخفى ، فافهم (2).
1 ـ في « أ » و « ب » بموجبه.
2 ـ اثبتنا الامر بالفهم من « أ ».


(449)
فصل
    قد عرفت سابقا أنه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي ، ولا يعمها ما يقتضيه الاصل في المتعارضين ، من سقوط أحدهما رأسا وسقوط كل منهما في خصوص مضمونه ، كما إذا لم يكونا في البين ، فهل التخيير أو الترجيح يختص أيضا بغير مواردها أو يعمها ؟ قولان : أولهما المشهور ، وقصارى ما يقال في وجهه : إن الظاهر من الاخبار العلاجية ـ سؤالا وجوابا ـ هو التخيير أو الترجيح في موارد التحير ، مما لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفا ، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق ، فإنه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.
    ويشكل بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق ، لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع ، لصحة السؤال بملاحظة التحير في الحال لاجل ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا بحسب المآل ، أو للتحير في الحكم واقعا وإن لم يتحير فيه ظاهرا ، وهو كاف في صحته قطعا ، مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة ، وجل العناوين المأخوذة في الاسئلة لولا كلها يعمها ، كما لا يخفى.
    ودعوى أن المتيقن منها غيرها مجازفة ، غايته أنه كان كذلك خارجا لا بحسب مقام التخاطب ، وبذلك ينقدح وجه القول الثاني.
    اللهم إلا أن يقال : إن التوفيق في مثل الخاص والعام والمقيد والمطلق ، كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان الائمة عليهم السلام ، وهي كاشفة إجمالا عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي ، لولا دعوى اختصاصها به ، وأنها سؤالا وجوابا بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحير والاحتياج ، أو دعوى الاجمال وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص ، ولا ينافيها مجرد صحة السؤال لما لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنه لذلك ، فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عما هو


(450)
عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء ، من التوفيق وحمل الظاهر على الاظهر ، والتصرف فيما يكون صدورهما قرينة عليه ، فتأمل.
فصل
    قد عرفت حكم تعارض الظاهر والاظهر وحمل الاول على الآخر ، فلا إشكال فيما إذا ظهر أن أيهما ظاهر وأيهما أظهر ، وقد ذكر فيما أشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلا ، فلا بأس بالاشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها :
    منها : ما قيل (1) في ترجيح ظهور العموم على الاطلاق ، وتقديم التقييد على التخصيص فيما دار الامر بينهما ، من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا ، بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق ، فإنه معلق على عدم البيان ، والعام يصلح بيانا ، فتقديم العام حينئذ لعدم تمامية مقتضى الاطلاق معه ، بخلاف العكس ، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه إلا على نحو دائر. ومن أن التقييد أغلب من التخصيص. وفيه : إن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة ، إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الابد ، وأغلبية التقييد مع كثرة التخصيص بمثابة قد قيل : مامن عام إلا وقد خص ، غير مفيد ، فلابد (2) في كل قضية من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لاظهرية أحدهما من الآخر ، فتدبر.
    ومنها : ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ ـ كما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا أو يكون العام ناسخا ، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا للعام ، أو ناسخا له ورافعا لاستمراره ودوامه ـ في وجه تقديم التخصيص على النسخ ، من غلبة التخصيص وندرة النسخ.
1 ـ راجع فرائد الاصول 457 ، المقام الرابع من مقام التراجيح.
2 ـ في « ب » : ولا بد.
كفاية الاصول ::: فهرس