كفاية الاصول ::: 451 ـ 465
(451)
    ولا يخفى أن دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام إنما هو بالاطلاق لا بالوضع ، فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضا ، وإن غلبة التخصيص إنما توجب أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المكتنفة بالكلام ، وإلا فهي وإن كانت مفيدة للظن بالتخصيص ، إلا أنها غير موجبة لها ، كما لا يخفى.
    ثم إنه بناء على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص ، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، يشكل الامر في تخصيص الكتاب أو السنة بالخصوصات الصادرة عن الائمة عليهم السلام ، فإنها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما ، والتزام نسخهما بها ولو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم عليهم السلام كما ترى ، فلا محيص في حله من أن يقال : إن اعتبار ذلك حيث كان لاجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وكان من الواضح أن ذلك فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إبدائها ، كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصدر الاول ، لم يكن باس بتخصيص عموماتهما بها ، واستكشاف أن موردها كان خارجا عن حكم العام واقعا وإن كان داخلا فيه ظاهرا ، ولاجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار والدوام أيضا ، فتفطن.
فصل
    لا إشكال في تعيين الاظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين ، وأما إذا كان بين الزائد عليهما فتعينه ربما لا يخلو عن خفاء ، ولذا وقع بعض (1) الاعلام في اشتباه وخطأ ، حيث توهم أنه إذا كان هناك عام وخصوصات وقد خصص ببعضها ، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد
1 ـ هو المولى النراقي ( ره ) العوائد / 119 ـ 120 ، العائدة 40.

(452)
تخصيصه به ، فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه ، فلابد من رعاية هذه النسبة وتقديم الراجح منه ومنها ، أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح ، لا تقديمها عليه ، إلا إذا كانت النسبة بعده على حالها.
    وفيه : إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات ، وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره ، وإن انثلم به حجيته ، ولذلك يكون بعد التخصيص حجة في الباقي ، لاصالة عمومه بالنسبة إليه.
    لا يقال : إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم قطعا ، فكيف يكون ظاهرا فيه ؟
    فإنه يقال : إن المعلوم عدم إرادة العموم ، لا عدم استعماله فيه لافادة القاعدة الكلية ، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها ، وإلا لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي ، لجواز استعماله حينئذ فيه وفي غيره من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص ، وأصالة عدم مخصص آخر لا يوجب إنعقاد ظهور له ، لا فيه ولا في غيره من المراتب ، لعدم الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها ، كما لا يخفى ، لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها.
    نعم ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة التمام ، وهو غير ظهور العام فيه في كل مقام.
    فانقدح بذلك أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا ، ولو كان بعضها مقدما أو قطعيا ، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا ، ولو لم يكن مستوعبة لافراده ، فضلا عما إذا كانت مستوعبة لها ، فلا بد حينئذ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه ، فلو رجح جانبها أو اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا ، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييرا ، فلا يطرح منها إلا خصوص ما لا يلزم مع طرحة المحذور من التخصيص بغيره ، فإن التباين إنما كان بينه وبين


(453)
مجموعها لا جميعها ، وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا ، فلا تغفل.
    هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة ، وقد ظهر منه حالها فيما كانت النسبة بينها متعددة ، كما إذا ورد هناك عامان من وجه مع ما هو أخص مطلقا من أحدهما ، وأنه لابد من تقديم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح والتخيير بينهما ، وإن انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما ، لما عرفت من أنه لا وجه إلا لملاحظة النسبة قبل العلاج.
    نعم لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيدا جدا ، لقدم على العام الآخر ، لا لانقلاب النسبة بينهما ، بل لكونه كالنص فيه ، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه ، كما لا يخفي.
فصل
    لا يخفي أن المزايا المرجحة لاحد المتعارضين الموجبة للاخذ به وطرح الآخر ـ بناء على وجوب الترجيح ـ وإن كانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة ، من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل : الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الاصحاب ، إلى غير ذلك مما يوجب مزية في طرف من أطرافه ، خصوصا لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة ، إلا أنها موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر ، فإن أخبار العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية ، فإنها أيضا مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجيته فعلا وطرح الآخر راسا ، وكونها في مقطوعي الصدور متمحضة في ترجيح الجهة لا يوجب كونها كذلك في غيرهما ، ضرورة أنه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية ، فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه للقطع بصدوره ؟.
    ثم إنه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي وإناطة الترجيح


(454)
بالظن أو بالاقربية إلى الواقع ، ضرورة أن قضية ذلك تقديم الخبر الذي ظن صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما ، والتخيير بينهما إذا تساويا ، فلا وجه لاتعاب النفس في بيان أن أيها يقدم أو يؤخر إلا تعيين أن أيها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.
    وأما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه لما يتراءى من ذكرها مرتبا في المقبولة (1) والمرفوعة (2) ، مع إمكان أن يقال : إن الظاهر كونهما كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان أن هذا مرجح وذاك مرجح ، ولذا إقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجح واحد ، وإلا لزم تقييد جميعها على كثرتها بما في المقبولة ، وهو بعيد جدا ، وعليه فمتى وجد في أحدهما مرجح وفي الآخر آخر منها ، كان المرجع هو إطلاقات التخيير ، ولا كذلك على الاول بل لابد من ملاحظة الترتيب ، إلا إذا كانا في عرض واحد.
    وانقدح بذلك أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات ، في أنه لابد في صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أيهما فعلا موجب للظن بصدق ذيه بمضمونه ، أو الاقربية كذلك إلى الواقع ، فيوجب ترجيحه وطرح الآخر ، أو أنه لا مزية لاحدهما على الآخر ، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بماله من المزية مساويا للخبر المخالف لها بحسب المناطين ، فلا بد حينئذ من التخيير بين الخبرين ، فلا وجه لتقديمه على غيره ، كما عن الوحيد البهبهاني (3) ـ قدس سره ـ وبالغ فيه
1 ـ التهذيب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحديث 52.
2 ـ الكافي 1 / 67 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث 10.
3 ـ راجع ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد ( ره ) / 120 في الفائدة 21.
المولى محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني مروج المذهب رأس الماة الثالثة تولد سنة 1118 في اصفهان وقطن برهة في بهبهان ، ثم انتقل إلى كربلا ونشر العلم هناك ، صنف ما يقرب من ستين كتابا. منها شرحه على المفاتيح وحواشيه على المدارك وعلى المعالم وغير ذلك توفي في الحائر الشريف سنة 1208 ه‍ ( الكنى والالقاب 2 / 97 ).


(455)
بعض (1) أعاظم المعاصرين ـ أعلى الله درجته ـ ولا لتقديم غيره عليه ، كما يظهر من شيخنا العلامة (2) ـ أعلى الله مقامه ـ قال :
    ( أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور ، بأن كان الارجح صدورا موافقا للعامة ، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامة ، بناء على تعليل الترجيح بخالفة العامة بإحتمال التقية في الموافق ، لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو تعبدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر ، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور.
    إن قلت : إن الاصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبدنا بصدورهما إقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما ، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدما على الترجيح بحسب الصدور.
    قلت : لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية ، لانه إلغاء لاحدهما في الحقيقة ).
    وقال بعد جملة من الكلام :
    ( فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إما علما كما في المتواترين ، أو تعبدا كما في المتكافئين من الاخبار ، وأما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين دون الآخر فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه ، لان جهة الصدور متفرع على أصل الصدور ) إنتهى موضع الحاجة من كلامه ، زيد في علو مقامه.
    وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أن حديث فرعية جهة الصدور على أصله إنما يفيد
1 ـ هو صاحب البدائع في البدائع / 455 و 457 ، المقام الرابع في ترتيب المرجحات.
2 ـ فرائد الاصول / 468.


(456)
إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجحات أصل الصدور بل من مرجحاتها ، وأما إذا كان من مرجحاته بأحد المناطين ، فأي فرق بينه وبين سائر المرجحات ؟ ولم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة ، مع كون الآخر راجحا بحسبها ، بل هو أول الكلام ، كما لا يخفى ، فلا محيص من ملاحظة الراجح من المرجحين بحسب أحد المناطين ، أو من دلالة أخبار العلاج ، على الترجيح بينهما مع المزاحمة ، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحكم هو إطلاق التخيير ، فلا تغفل.
    وقد أورد بعض أعاظم تلاميذه (1) عليه بإنتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور ، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور ، مع حمل أحدهما على التقية ، لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها ، لانه إلغاء لاحدهما أيضا في الحقيقة.
    وفيه ما لا يخفى من الغفلة ، وحسبان أنه التزم ـ قدس سره ـ في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور ، إما للعلم بصدورهما ، وإما للتعبد به فعلا ، مع بداهة أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا ، ضرورة أن دليل حجية الخبر لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين ، بل ولا بأحدهما ، وقضية دليل العلاج ليس إلا التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.
    والعجب كل العجب أنه رحمه الله لم يكتف بما أورده من النقض ، حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به ، وبرهن عليه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق ، لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله ، وبين صدوره تقية ، ولا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة ، كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق ، بل الامر في الظني الصدور أهون ، لاحتمال عدم
1 ـ وهو الشيخ المحقق الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي ( طاب ثراه ). راجع بدائع الافكار / 457.

(457)
صدوره ، بخلافه.
    ثم قال : فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة ، مع نص الامام ـ عليه السلام ـ على طرح موافقهم ، من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة ، فضلا عمن هو تالي العصمة علما وعملا.
    ثم قال : وليت شعري ، إن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه ؟ مع أنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر.
    وأنت خبير بوضوح فساد برهانه ، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية وعدم الصدور رأسا ، لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعا ، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلا ، ولا يكاد يحتاچ في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة ، وإنما دار احتمال الموافق بين الاثنين إذا كان المخالف قطعيا صدورا وجهة ودلالة ، ضرورة دوران معارضه حينئذ بين عدم صدوره وصدوره تقية ، وفي غير هذه الصورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة ، لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذ أيضا.
    ومنه قد إنقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضا ، وإنما لم يكن التعبد بصدوره لذلك إذا كان معارضه المخالف قطعيا بحسب السند والدلالة ، لتعيين حمله على التقية حينئذ لا محالة ، ولعمري إن ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله ، إلا أن الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان ، عصمنا الله من زلل الاقدام والاقلام في كل ورطة ومقام.
    ثم إن هذا كله إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حيث الجهة ، وأما بما هو موجب لاقوائية دلالة ذيه من معارضه ، لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقية دونه ، فهو مقدم على جميع مرجحات الصدور ، بناء على ما هو المشهور من تقدم التوفيق ـ بحمل الظاهر على الاظهر ـ على الترجيح بها ، اللهم إلا أن يقال : أن باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية ، إلا أنه


(458)
حيث كان بالتأمل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر ، بحيث يكون قرينة على التصرف عرفا في الآخر ، فتدبر.
فصل
    موافقة الخبر لما يوجب الظن بمضمونه ولو نوعا من المرجحات في الجملة ـ بناء على لزوم الترجيح ـ لو قيل بالتعدي من المرجحات المنصوصة ، أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها كما ادعي (1) ، وهي لزوم العمل بأقوى الدليلين ، وقد عرفت أن التعدي محل نظر بل منع ، وأن الظاهر من القاعدة هو ما كان الاقوائية من حيث الدليلية والكشفية ، ومضمون أحدهما مظنونا ، لاجل مساعدة أمارة ظنية عليه ، لا يوجب قوة فيه من هذه الحيثية ، بل هو على ما هو عليه من القوة لو لا مساعدتها ، كما لا يخفى ، ومطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمه الطن بوجود خلل في الآخر ، إما من حيث الصدور ، أو من حيث جهته ، كيف ؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية المخالف لولا معارضة الموافق ، والصدق واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية ، كما لا يكاد يضر بها الكذب كذلك ، فافهم. هذا حال الامارة الغير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها.
    أما ما ليس بمعتبر بالخصوص لاجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس ، فهو وإن كان كالغير المعتبر لعدم الدليل ، بحسب ما يقتضي الترجيح به من الاخبار بناء على التعدي ، والقاعدة بناء على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين ، إلا أن الاخبار الناهية عن القياس ( 2 وأن السنة إذا قيست محق الدين (3) ، مانعة عن الترجيح به ، ضرورة أن استعماله في ترجيح أحد الخبرين
1 ـ راجع فرائد الاصول / 469.
2 ـ الكافي 1 : 46 باب البدع والرأي والمقاييس. الاحاديث 13 و 16.
3 ـ المصدر المتقدم ، الحديث 15 والكافي 7 : 299 ، كتاب الديات ، باب الرجل يقتل المرأة و ... الخ ، الحديث 6.
وللمزيد راجع جامع أحاديث الشيعة 1 : 269 ، الباب 7 عدم حجية القياس والرأي و .. الخ.


(459)
استعمال له في المسألة الشرعية الاصولية ، وخطره ليس بأقل من استعماله في المسألة الفرعية.
    وتوهم أن حال القياس ها هنا ليس في تحقق الاقوائية به إلا كحاله فيما ينقح به موضوع آخر ذو حكم ، من دون اعتماد عليه في مسألة أصولية (1) ولا فرعية ، قياس مع الفارق ، لوضوح الفرق بين المقام والقياس في الموضوعات الخارجية الصرفة ، فإن القياس المعمول فيها ليس في الدين ، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه ، وهذا بخلاف المعمول في المقام ، فإنه نحو إعمال له في الدين ، ضرورة أنه لولاه لما تعين الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار ، والتخيير بينه وبين معارضه بمقتضى أدلة العلاج ، فتأمل جيدا.
    وأما ما إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه ، كالكتاب والسنة القطعية ، فالمعارض المخالف لاحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية ، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح ، لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله ، ولو مع عدم المعارض ، فإنه المتيقن من الاخبار الدالة على أنه زخرف أو باطل ، أو أنه : لم نقله ، أو غير ذلك (2).
    وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق ، فقضية القاعدة فيها ، وإن كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعيينا أو تخييرا ، لو لم يكن الترجيح في الموافق ، بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، إلا أن الاخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة ، لو قيل بأنها في مقام ترجيح أحدهما لا تعيين الحجة عن اللاحجة ، كما نزلناها عليه ، ويؤيده أخبار (3) العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من
1 ـ في « ب » : في مسألة الاصولية ولا فرعية.
2 ـ وسائل الشيعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي / الاحاديث 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 18.


(460)
أصله ، فإنهما تفرغان عن لسان واحد ، فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما على خلاف المخالفة في الاخرى ، كما لا يخفى.
    اللهم إلا أن يقال : نعم ، إلا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة ـ بقرينة القطع بصدور المخالف الغير المباين عنهم عليهم السلام كثيرا ، وإباء مثل : ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف أو باطل عن التخصيص ـ غير بعيدة ، وإن كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه ، فالظاهر أنها كالمخالفة في الصورة الاولى كما لا يخفى.
    وأما الترجيح بمثل الاستصحاب ، كما وقع في كلام غير واحد من الاصحاب ، فالظاهر أنه لاجل اعتباره من باب الظن والطريقية عندهم ، وأما بناء على اعتباره تعبدا من باب الاخبار وظيفة للشاك ، كما هو المختار ، كسائر الاصول العملية التي يكون كذلك عقلا أو نقلا ، فلا وجه للترجيح به أصلا ، لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته ، ولو بملاحظة دليل اعتباره كما لا يخفى.
    هذا آخر ما اردنا إيراده ، والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.
والمحاسن 1 : 220 ، كتاب مصابيح الظلم ، الباب 11 ، الاحاديث 128 إلى 131. وص 225 ، الباب 12. الحديث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحديث 150.
1 ـ في « ب » : احدهما.


(461)
الخاتمة
الاجتهاد والتقليد


(462)

(463)
أما الخاتمة : فهي فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد
فصل
    الاجتهاد لغة : تحمل المشقة ، واصطلاحا كما عن الحاجبي (1) والعلامة (2) : استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي ، وعن غيرهما (3) : ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الاصل فعلا أو قوة قريبة.
    ولا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا ، ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته ، لوضوح أنهم ليسوا في مقام بيان حده أو رسمه ، بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه والاشارة إليه بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه ، كاللغوي في بيان معاني الالفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر ، ولو كان أخص منه مفهوما أو أعم.
    ومن هنا انقدح أنه لا وقع للايراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطراد ، كما هو الحال في تعريف جل الاشياء لولا الكل ، ضرورة عدم الاحاطة بها بكنهها ، أو بخواصها الموجبة لامتيازها عما عداها ، لغير علام الغيوب ، فافهم.
1 ـ راجع شرح مختصر الاصول / 460 ، عند الكلام عن الاجتهاد.
2 ـ التهذيب ـ مخطوط ـ.
3 ـ زبدة الاصول للشيخ البهائي ( ره ) / 115 المنهج الرابع في الاجتهاد والتقليد.


(464)
    وكيف كان ، فالاولى تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه ، فإن المناط فيه هو تحصيلها قوة أو فعلا لا الظن حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا ، أو بعض الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالاحكام ، فإنه مطلقا عندهم ، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة ، ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها ـ من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية الغير المفيدة للظن ولو نوعا ـ اجتهادا أيضا.
    ومنه قد انقدح أنه لا وجه لتأبي الاخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى ، فإنه لا محيص عنه كما لا يخفى ، غاية الامر له أن ينازع في حجية بعض ما يقول الاصولي باعتباره ويمنع عنها ، وهو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى ، ضرورة أنه ربما يقع بين الاخباريين ، كما وقع بينهم وبين الاصوليين.
فصل
    ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجز ، فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة ، أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التي لم يظفر فيها بها ، والتجزي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام.
    ثم إنه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للاعلام ، وعدم التمكن من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها والتردد منهم في بعض المسائل إنما هو بالنسبة إلى حكمها الواقعي ، لاجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه ، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم ، لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع. وأما بالنسبة إلى حكمها الفعلي ، فلا تردد لهم أصلا.
    كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به ، وأما لغيره فكذا لا إشكال فيه ، إذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالاحكام مفتوحا له ـ على ما يأتي من الادلة على جواز التقليد ـ بخلاف ما إذا انسد عليه بابهما ، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الاشكال ، فإن رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ،


(465)
وأدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى ، وقضية مقدمات الانسداد ليست إلا حجية الظن عليه لا على غيره ، فلا بد في حجية اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد وغير دليل الانسداد الجاري في حق المجتهد ، من إجماع أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه ، بحيث تكون منتجة لحجية الظن الثابت حجيته بمقدماته له أيضا ، ولا مجال لدعوى الاجماع ، ومقدماته كذلك غير جارية في حقه ، لعدم انحصار المجتهد به ، أو عدم لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط وان لزم منه العسر ، إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره.
    نعم ، لو جرت المقدمات كذلك ، بأن انحصر المجتهد ، ولزم من الاحتياط المحذور ، أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه حينئذ ، كانت منتجة لحجيته في حقه أيضا ، لكن دونه خرط القتاد ، هذا على تقدير الحكومة.
    وأما على تقدير الكشف وصحته ، فجواز الرجوع إليه في غاية الاشكال لعدم مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص حجية ظنه به ، وقضية مقدمات الانسداد اختصاص حجية الظن بمن جرت في حقه دون غيره ، ولو سلم أن قضيتها كون الظن المطلق معتبرا شرعا ، كالظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص ، فتأمل.
    إن قلت : حجية الشيء شرعا مطلقا لا يوجب القطع بما أدى إليه من الحكم ولو ظاهرا ، كما مر تحقيقه (1) ، وأنه ليس أثره إلا تنجز الواقع مع الاصابة ، والعذر مع عدمها ، فيكون رجوعه إليه مع انفتاح باب العلمي عليه أيضا رجوعا إلى الجاهل ، فضلا عما إذا انسد عليه.
    قلت : نعم ، إلا أنه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام ، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم.
1 ـ في بيان الامارات غير القطعية ، ص 277.
كفاية الاصول ::: فهرس