كفاية الاصول ::: 466 ـ 480
(466)
    إن قلت : رجوعه إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الاصول العقلية ، ليس إلا الرجوع إلى الجاهل.
    قلت : رجوعه إليه فيها إنما هو لاجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعية فيها ، وهو عاجز عن الاطلاع على ذلك ، وأما تعيين ما هو حكم العقل وأنه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط ، فهو إنما يرجع إليه ، فالمتبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده ، فافهم.
    وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحا ، وأما إذا انسد عليه بابهما ففيه إشكال على الصحيح من تقرير المقدمات على نحو الحكومة ، فإن مثله ـ كما أشرت آنفا ـ ليس ممن يعرف الاحكام ، مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم ، كما في المقبولة ، إلا أن يدعى عدم القول بالفصل ، وهو وإن كان غير بعيد ، إلا أنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل ، إلا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات والضروريات من الدين أو المذهب ، والمتواترات إذا كانت جملة يعتد بها ، وإن انسد باب العلم بمعظم الفقه ، فإنه يصدق عليه حينئذ أنه ممن روى حديثهم ( علهيم السلام ) ونظر في حلالهم ( عليهم السلام ) وحرامهم عليهم السلام : وعرف أحكامهم عرفا حقيقة. وأما قوله ( عليه السلام ) في المقبولة ( فإذا حكم بحكمنا ) فالمراد أن مثله إذا حكم كان بحكمهم حكم ، حيث كان منصوبا منهم ، كيف وحكمه غالبا يكون في الموضوعات الخارجية ، وليس مثل ملكية دار لزيد أو زوجية امرأة له من أحكامهم ( عليهم السلام ) فصحة إسناد حكمه إليهم ( عليهم السلام ) إنما هو لاجل كونه من المنصوب من قبلهم.
    وأما التجزي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام :
    الاول : في إمكانه ، وهو وإن كان محل الخلاف بين الاعلام إلا أنه لا ينبغي الارتياب فيه ، حيث كانت أبواب الفقه مختلفة مدركا ، والمدارك متفاوتة سهولة


(467)
وصعوبة ، عقلية ونقلية ، مع اختلاف الاشخاص في الاطلاع عليها ، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها ، فرب شخص كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته في النقليات أو العقليات ، وليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها ، وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه أو لمهارة الشخص فيه مع صعوبته ، مع عدم القدرة على ما ليس كذلك ، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزي ، للزوم الطفرة. وبساطة الملكة وعدم قبولها التجزئة ، لا تمنع من حصولها بالنسبة إلى بعض الابواب ، بحيث يتمكن بها من الاحاطة بمداركه ، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها ، ويقطع بعدم دخل ما في سائرها به أصلا ، أو لا يعتني باحتماله لاجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله ، كما في الملكة المطلقة ، بداهة أنه لا يعتبر في استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلا على مدارك جميع المسائل ، كما لا يخفى.
    الثاني : في حجية ما يؤدي إليه على المتصف به ، وهو أيضا محل الخلاف ، إلا أن قضية أدلة المدارك حجيته ، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق ، ضرورة أن بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقا ، وكذا ما دل على حجية خبر الواحد ، غايته تقييده بما إذا تمكن من دفع معارضاته كما هو المفروض.
    الثالث : في جواز رجوع غير المتصف به إليه في كل مسألة اجتهد فيها ، وهو أيضا محل الاشكال ، من أنه من رجوع الجاهل إلى العالم ، فتعمه أدلة جواز التقليد ، ومن دعوى عدم إطلاق فيها ، وعدم إحراز أن بناء العقلاء أو سيرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله أيضا ، وستعرف إن شاء الله تعالى ما هو قضية الادلة.
    وأما جواز حكومته ونفوذ فصل خصومته فأشكل ، نعم لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدة بها واجتهد فيها ، بحيث يصح أن يقال في حقه عرفا أنه ممن عرف


(468)
أحكامهم ، كما مر في المجتهد المطلق المنسد عليه باب العلم والعلمي في معظم الاحكام.
فصل
    لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية في الجملة ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة ، بالرجوع إلى ما دون فيه ، ومعرفة التفسير كذلك.
    وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الاصول ، ضرورة أنه ما من مسألة الا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في الاصول ، أو برهن عليها مقدمة في نفس المسألة الفرعية ، كما هو طريقة الاخباري ، وتدوين تلك القواعد المحتاج إليها على حدة لا يوجب كونها بدعة ، وعدم تدوينها في زمانهم ( عليهم السلام ) لا يوجب ذلك ، وإلا كان تدوين الفقه والنحو والصرف بدعة.
    وبالجملة لا محيص لاحد في استنباط الاحكام الفرعية من أدلتها إلا الرجوع إلى ما بنى عليه في المسائل الاصولية ، وبدونه لا يكاد يتمكن من استنباط واجتهاد ، مجتهدا كان أو أخباريا. نعم يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والازمنة والاشخاص ، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد في الصدر الاول ، وعدم حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الازمنة اللاحقة ، مما لا يكاد يحقق ويختار عادة إلا بالرجوع إلى ما دون فيه من الكتب الاصولية.
فصل
    اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات ، واختلفت في الشرعيات ، فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا ، وأن له تبارك وتعالى في كل مسألة حكم يؤدي إليه الاجتهاد تارة وإلى غيره أخرى.
    وقال مخالفونا بالتصويب ، وأن له تعالى أحكاما بعدد آراء المجتهدين ، فما


(469)
يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى ، ولا يخفى أنه لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة إلا إذا كان لها حكم واقعا ، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلته ، وتعيينه بحسبها ظاهرا ، فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء ـ بأن تكون الاحكام المؤدي إليها الاجتهادات أحكاما واقعية كما هي ظاهرية ـ فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الاخبار ، وإجماع أصحابنا الاخيار على أن له تبارك وتعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه الكل ، إلا أنه غير محال ، ولو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الاحكام على وفق آراء الاعلام بعد الاجتهاد ، فهو مما لا يكاد يعقل ، فكيف يتفحص عما لا يكون له عين ولا أثر ، أو يستظهر من الآية أو الخبر ، إلا أن يراد التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي ، وأن المجتهد وإن كان يتفحص عما هو الحكم واقعا وإنشاء ، إلا أن ما أدى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة ، وهو مما يختلف باختلاف الآراء ضرورة ، ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة ، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة بل إنشاء ، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى ، بل لا محيص عنه في الجملة بناء على اعتبار الاخبار من باب السببية والموضوعية كما لا يخفى ، وربما يشير إليه ما اشتهرت بيننا أن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم.
    نعم بناء على اعتبارها من باب الطريقية ، كما هو كذلك ، فمؤديات الطرق والامارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقية نفسية ، ولو قيل بكونها أحكاما طريقية ، وقد مر (1) غير مرة إمكان منع كونها أحكاما كذلك أيضا ، وأن قضية حجيتها ليس إلا تنجز [ تنجيز ] مؤدياتها عند إصابتها ، والعذر عند خطئها ، فلا يكون حكم أصلا إلا الحكم الواقعي ، فيصير منجزا فيما قام عليه حجة من علم أو طريق معتبر ، ويكون غير منجز بل غير فعلي فيما لم تكن هناك حجة مصيبة ، فتأمل جيدا.
1 ـ في دفع الايراد عن إمكان التعبد بالامارة غير القطعية / ص 277 وفي التنبية الثاني من تنبيهات الاستصحاب / ص 405.

(470)
فصل
    إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأي الاول بالآخر أو بزواله بدونه ، فلا شبهة في عدم العبرة به في الاعمال اللاحقة ، ولزوم اتباع اجتهاد اللاحق مطلقا أو الاحتياط فيها ، وأما الاعمال السابقة الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد ، فلا بد من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر ، كما نهض في الصلاة وغيرها ، مثل : لا تعاد (1) ، وحديث الرفع (2) ، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي.
    وذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الاول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحل واضح ، بداهة أنه لا حكم معه شرعا ، غايته المعذورية في المخالفة عقلا ، وكذلك فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه ، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقيد أو المخصص أو قرينة المجاز أو المعارض ، بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الامارات من باب الطريقية ، قيل بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية ، أم لا على ما مر منا غير مرة ، من غير فرق بين تعلقه بالاحكام أو بمتعلقاتها ، ضرورة أن كيفية اعتبارها فيهما على نهج واحد ، ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما ، كما في الفصول (3) ، وأن المتعلقات لا تتحمل اجتهادين بخلاف الاحكام ، إلا حسبان أن الاحكام قابلة للتغير والتبدل ، بخلاف المتعلقات والموضوعات ، وأنت خبير بأن الواقع واحد فيهما ، وقد عين أولا بما ظهر خطؤه ثانيا ، ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخل بالنظام والموجب للمخاصمة بين الانام ، لو قيل بعدم صحة العقود والايقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الاول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني ،
1 ـ الفقيه : 1 / 225 ، الباب 49. الحديث 8 والباب 42 ، الحديث 17 والتهذيب 2 / 152 ، الباب 9 ، الحديث 55.
2 ـ راجع ص 339 ، في الاستدلال على البراءة بالسنة.
3 ـ الفصول : 409 ، في فصل رجوع المجتهد عن الفتوى.


(471)
ووجوب العمل على طبق الثاني ، من عدم ترتيب الاثر على المعاملة وإعادة العبادة ، لا يكون إلا أحيانا ، وأدلة نفي العسر لا ينفي إلا خصوص ما لزم منه العسر فعلا ، مع عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات ، ولزوم العسر في الاحكام كذلك أيضا لو قيل بلزوم ترتيب الاثر على طبق الاجتهاد الثاني في الاعمال السابقة ، وباب الهرج والمرج ينسد بالحكومة وفصل الخصومة.
    وبالجملة لا يكون التفاوت بين الاحكام ومتعلقاتها ، بتحمل الاجتهادين وعدم التحمل بينا ولا مبينا ، بما يرجع إلى محصل في كلامه ـ زيد في علو مقامه ـ فراجع وتأمل.
    وأما بناء على اعتبارها من باب السببية والموضوعية ، فلا محيص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الاول ، عبادة كان أو معاملة ، وكون مؤداه ـ ما لم يضمحل ـ حكما حقيقة ، وكذلك الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الاول مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية ، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف ، فإنه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال ، وقد مر في مبحث الاجزاء تحقيق المقال ، فراجع هناك.


(472)
فصل
في التقليد
    وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات ، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبدا ، بلا مطالبة دليل على رأيه ، ولا يخفى أنه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ، ضرورة سبقه عليه ، وإلا كان بلا تقليد ، فافهم.
    ثم إنه لا يذهب عليك أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة ، يكون بديهيا جبليا فطريا لا يحتاج إلى دليل ، وإلا لزم سد باب العلم به على العامي مطلقا غالبا ، لعجزه عن معرفة ما دل عليه كتابا وسنة ، ولا يجوز التقليد فيه أيضا ، وإلا لدار أو تسلسل ، بل هذه هي العمدة في أدلته ، وأغلب ما عداه قابل للمناقشة ، لبعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة ، مما يمكن أن يكون القول فيه لاجل كونه من الامور الفطرية الارتكازية ، والمنقول منه غير حجة في مثلها ، ولو قيل بحجيتها في غيرها ، لوهنه بذلك.
    ومنه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين ، لاحتمال أن يكون من ضروريات العقل وفطرياته لا من ضرورياته ، وكذا القدح في دعوى (1) سيرة المتدينين.
1 ـ الفصول : 411 في فصل جواز التقليد.

(473)
    وأما الآيات ، فلعدم دلالة آية النفر (1) والسؤال (2) على جوازه ، لقوة احتمال أن يكون الارجاع لتحصيل العلم لا للاخذ تعبدا ، مع أن المسؤول في آية السؤال هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها ، أو أهل بيت العصمة الاطهار كما فسر به في الاخبار (3).
    نعم لا بأس بدلالة الاخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة ، حيث دل بعضها (4) على وجوب اتباع قول العلماء ، وبعضها (5) على أن للعوام تقليد العلماء ، وبعضها (6) على جواز الافتاء مفهوما مثل ما دل على المنع عن الفتوى بغير علم ، أو منطوقا مثل (7) مادل على إظهاره ( عليه السلام ) المحبة لان يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام.
    لا يقال : إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز أخذه واتباعه.
    فإنه يقال : إن الملازمة العرفية بين جواز الافتاء وجواز اتباعه واضحة ، وهذا غير وجوب إظهار الحق والواقع ، حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبدا ، فافهم وتأمل.
    وهذه الاخبار على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها ، لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها ، فيكون دليلا قاطعا على جواز التقليد ، وإن لم يكن كل واحد
1 ـ التوبة : 122.
2 ـ النحل : 43.
3 ـ الكافي : 1 / 163 ، كتاب الحجة الباب 20 ، الاحاديث.
4 ـ الوسائل : 18 / 98 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الاحاديث : 4 و 5 و 9 و 15 و 23 و 27 و 33 و 42 و 45 والباب 12 ، الحديث 54.
5 ـ الاحتجاج : 2 / 457 في احتجاجات أبي محمد العسكري وجاء في الوسائل : 18 / 94 الباب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20.
6 ـ الوسائل : 18 / 9 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ، الاحاديث : 1 و 2 و 3 و 31 و 33 والباب 6 ، الحديث 48. والباب 9 ، الحديث 23 والباب 11 ، الحديث 12.
7 ـ الوسائل : 18 / 108 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 36.


(474)
بحجة ، فيكون مخصصا لما دل على عدم جواز اتباع غير العلم والذم على التقليد ، من الآيات والروايات. قال الله تبارك وتعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (1) وقوله تعالى : « إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون » (2) مع احتمال أن الذم إنما كان على تقليدهم للجاهل ، أو في الاصول الاعتقادية التي لابد فيها من اليقين ، وأما قياس المسائل الفرعية على الاصول الاعتقادية ، في أنه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها كذلك لا يجوز فيها بالطريق الاولى لسهولتها ، فباطل ، مع أنه مع الفارق ، ضرورة أن الاصول الاعتقادية مسائل معدودة ، بخلافها فإنه مما لا تعد ولا تحصى ، ولا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها فعلا طول العمر إلا للاوحدي في كلياتها ، كما لا يخفى.
فصل
    إذا علم المقلد اختلاف الاحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم والفقاهة ، فلابد من الرجوع إلى الافضل إذا احتمل تعينه ، للقطع بحجيته والشك في حجية غيره ، ولا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده ، إلا على نحو دائر.
    نعم لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله بالتساوي ، وجواز الرجوع إليه أيضا ، أو جوز له الافضل بعد رجوعه إليه ، هذا حال العاجر عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية الادلة في هذه المسألة.
    وأما غيره ، فقد اختلفوا في جواز تقليد (3) المفضول وعدم جوازه ، ذهب بعضهم إلى الجواز ، والمعروف بين الاصحاب ـ على ما قيل ـ عدمه وهو الاقوى ،
1 ـ الاسراء : 36.
2 ـ الزخرف : 23.
3 ـ في « ب » : تقديم.


(475)
للاصل ، وعدم دليل على خلافه ، ولا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن نهوضها على مشروعية أصله ، لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الاخذ بقول العالم لا في كل حال ، من غير تعرض أصلا لصورة معارضته بقول الفاضل ، كما هو شأن سائر الطرق والامارات على ما لا يخفى.
    ودعوى (1) السيرة على الاخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما ، ممنوعة.
    ولا عسر في تقليد الاعلم ، لا عليه لاخذ فتاواه من رسائله وكتبه ، ولا لمقلديه لذلك أيضا ، وليس تشخيص الاعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ، مع أن قضية نفي العسر الاقتصار على موضع العسر ، فيجب فيما لا يلزم منه عسر ، فتأمل جيدا.
    وقد استدل للمنع أيضا بوجوه :
    أحدها (2) : نقل الاجماع على تعين تقليد الافضل.
    ثانيها (3) : الاخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة ، كما في المقبولة (4) وغيرها (5) ، أو على اختياره للحكم بين الناس ، كما دل عليه المنقول (6) عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك ).
    ثالثها (7) : إن قول الافضل أقرب من غيره جزما ، فيجب الاخذ به عند
1 ـ راجع شرح مختصر الاصول / 484.
2 ـ مطارح الانظار / 303 ، في التنبيه السادس ، عند استدلاله على القول بوجوب تقليد الافضل.
3 ـ مفاتيح الاصول / 627.
4 ـ التهذيب 6 : 301 ، الباب 92 ، الحديث 6 ـ الكافي 1 : 54. باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث 10.
5 ـ التهذيب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحديث 50 و 51 ـ الفقيه 3 : 5 الباب 9 الحديث 1 و 2.
6 ـ نهج البلاغة الجزء الثالث : 104 في كتابه ( عليه السلام ) للاشتر النخعي.
7 ـ الذريعة 2 : 801 ، في باب الاجتهاد ، فصل صفة المفتي والمستفتي.


(476)
المعارضة عقلا.
    ولا يخفى ضعفها :
    أما الاول : فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكل أو الجل هو الاصل ، فلا مجال لتحصيل الاجماع مع الظفر بالاتفاق ، فيكون نقله موهونا ، مع عدم حجية نقله ولو مع عدم وهنه.
    وأما الثاني : فلان الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة ، لاجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلا به ، لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى ، كما لا يخفى.
    وأما الثالث : فممنوع صغرى وكبرى.
    أما الصغرى فلاجل أن فتوى غير الافضل ربما يكون أقرب من فتواه ، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات ، ولا يصغى إلى أن فتوى الافضل أقرب في نفسه ، فإنه لو سلم أنه كذلك إلا أنه ليس بصغري لما ادعى عقلا من الكبرى ، بداهة أن العقل لا يرى تفاوتا بين أن تكون الاقربية في الامارة لنفسها ، أو لاجل موافقتها لامارة أخرى ، كما لا يخفى.
    وأما الكبرى فلان ملاك حجية قول الغير تعبدا ولو على نحو الطريقية ، لم يعلم أنه القرب من الواقع ، فلعله يكون ما هو في الافضل وغيره سيان ، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا. نعم لو كان تمام الملاك هو القرب ، كما إذا كان حجة بنظر العقل ، لتعين الاقرب قطعا ، فافهم.
فصل
    اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي ، والمعروف بين الاصحاب (1) الاشتراط
1 ـ المعالم / 241. في « أصل : يعتبر في المفتي .. الخ » من المطلب التاسع. راجع مسالك الافهام 1 : 127 ، في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقواعد الاحكام 119

(477)
وبين العامة (1) عدمه ، وهو خيرة الاخباريين (2) ، وبعض المجتهدين (3) من أصحابنا ، وربما نقل تفاصيل :
    منها (4) : التفصيل بين البدوي فيشترط ، والاستمراري فلا يشترط ، والمختار ما هو المعروف بين الاصحاب ، للشك في جواز تقليد الميت ، والاصل عدم جوازه ، ولا مخرج عن هذا الاصل ، إلا ما استدل به المجوز على الجواز من وجوه ضعيفة.
    منها (5) : استصحاب جواز تقليده في حال حياته ، ولا يذهب عليك أنه لا مجال له ، لعدم بقاء موضوعه عرفا ، لعدم بقاء الرأي معه ، فإنه متقوم بالحياة بنظر العرف ، وإن لم يكن كذلك واقعا ، حيث أن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت ورأيه ، ولا ينافي ذلك صحة استصحاب بعض أحكام حال حياته ، كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه ، فإن ذلك إنما يكون فيما لا يتقوم بحياته عرفا بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته ، وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعا ، وبقاء الرأي لابد منه في جواز التقليد قطعا ، ولذا لا يجوز التقليد فيما إذا تبدل الرأي أو ارتفع ، لمرض أو هرم إجماعا.
    وبالجملة يكو انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه ، ويكون حشره في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم ، وإن لم يكن كذلك حقيقة ، لبقاء موضوعه ، وهو النفس الناطقة الباقية حال الموت لتجرده ، وقد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا يجدي بقاء النفس
كتاب الجهاد ، في المقصد الخامس.
1 ـ شرح البدخشي 3 : 287 والابهاج في شرح المنهاج 3 : 268 وفواتح الرحموت 2 : 407.
2 ـ الفوائد المدنية 149.
3 ـ كالمحقق القمي ، قوانين الاصول 2.
4 ـ راجع مفاتيح الاصول / 624.
5 ـ راجع مفاتيح الاصول / 624 ، في التنبيه الاول من تقليد الميت.


(478)
عقلا في صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه ، وحسبان أهله أنها غير باقية وإنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها ، فتأمل جيدا.
    لا يقال : نعم ، الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلا أن حدوثه في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته ، كما هو الحال في الرواية.
    فإنه يقال : لا شبهة في أنه لا بد في جوازه من بقاء الرأي والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون أو تبدل ونحوهما لما جاز قطعا ، كما أشير إليه آنفا. هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.
    وأما الاستمراري ، فربما يقال بأنه قضية استصحاب الاحكام التي قلده فيها ، فإن رأيه وإن كان مناطا لعروضها وحدوثها ، إلا أنه عرفا من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض.
    ولكنه لا يخفى أنه لا يقين بالحكم شرعا سابقا ، فإن جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضية الفطرة كما عرفت فواضح ، فإنه لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر فيما أخطأ ، وهو واضح. وإن كان بالنقل فكذلك ، على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية شرعا ليس إلا ذلك ، لانشاء أحكام شرعية على طبق مؤداها ، فلا مجال لاستصحاب ما قلده ، لعدم القطع به سابقا ، إلا على ما تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب (1) ، فراجع ، ولا دليل على حجية رأيه السابق في اللاحق.
    وأما بناء على ما هو المعروف بينهم ، من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدت إليه من الاحكام الواقعية التكليفية أو الوضعية شرعا في الظاهر ، فلاستصحاب ما قلده من الاحكام وإن كان مجال ، بدعوى بقاء الموضوع عرفا ، لاجل كون الرأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض ، إلا أن الانصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف ، فإنه من المحتمل ـ لولا
1 ـ التنبيه الثاني / ص 405.

(479)
المقطوع ـ أن الاحكام التقليدية عندهم أيضا ليست أحكاما لموضوعاتها بقول مطلق ، بحيث عد من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه ، بسبب تبدل الرأي ونحوه ، بل إنما كانت أحكاما لها بحسب رأيه ، بحيث عد من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدل ، ومجرد احتمال ذلك يكفي في عدم صحة استصحابها ، لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفا ، فتأمل جيدا.
    هذا كله مع إمكان دعوى أنه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي ، بسبب الهرم أو المرض إجماعا ، لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعا ، فتأمل.
    ومنها : إطلاق الآيات (1) الدالة على التقليد.
    وفيه ـ مضافا إلى ما أشرنا إليه من عدم دلالتها عليه ـ منع إطلاقها على تقدير دلالتها ، وإنما هو مسوق لبيان أصل تشريعه كما لا يخفى. ومنه انقدح حال إطلاق ما دل من الروايات على التقليد (2) ، مع إمكان دعوى الانسياق إلى حال الحياة فيها.
    ومنها : دعوى (3) أنه لا دليل على التقليد إلا دليل الانسداد ، وقضيته جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلا ، كما لا يخفى.
    وفيه أنه لا يكاد تصل النوبة إليه ، لما عرفت من دليل العقل والنقل عليه.
    ومنها (4) : دعوى السيرة على البقاء ، فإن المعلوم من أصحاب الائمة
1 ـ آية النفر / التوبة : 122 وآية السؤال / النحل : 43 وآية الكتمان / البقرة : 159 وآية النبأ / الحجرات : 5.
2 ـ إكمال الدين وإتمام النعمة : 2 / 483 ، باب ذكر التوقيعات ، الحديث 4 وللمزيد راجع الوسائل : 18 / 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.
3 ـ استدل به المحقق القمي ( ره ) قوانين الاصول : 2 / 265 في قانون عدم اشتراط مشافهة المفتي ، عند قوله : بل الدليل عليه هو ما ذكرنا من البرهان ... الخ.
4 ـ مطارح الانظار : 295 في أدلة القائلين بجواز الاستمرار على تقليد الميت.


(480)
( عليهم السلام ) عدم رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المفتي.
    وفيه منع السيرة فيما هو محل الكلام ، وأصحابهم ( عليهم السلام ) إنما لم يرجعوا عما أخذوه من الاحكام لاجل أنهم غالبا إنما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم ( عليهم السلام ) بلا واسطة أحد ، أو معها من دون دخل رأي الناقل فيه أصلا ، وهو ليس بتقليد كما لا يخفى ، ولم يعلم إلى الآن حال من تعبد بقول غيره ورأيه ، أنه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.
    [ ومنها (1) : غير ذلك مما لا يليق بأن يسطر أو يذكر ] (2).
1 ـ راجع مفاتيح الاصول للسيد المجاهد : 622 في مفتاح : اختلفوا في جواز تقليد المجتهد الميت عند ذكره أدلة المجوزين.
2 ـ أثبتناها في « ب » وشطب عليها المصنف في « أ ».
كفاية الاصول ::: فهرس