معارج الاصول ::: 211 ـ 224
(211)
بطلان ذلك ظاهر.
    احتج الخصم :
    بأن ( النفي ) (1) عدم ، والعدم لا يفتقر الى الدلالة.
    وبأن اثبات الاحكام موقوف على ثبوت الأدلة ، فيكون عدمها مستندا الى عدم الأدلة ، كما أن المعجز دلالة على النبوة ، وعدمها دليل على عدم النبوة ، ويؤيد ذلك قوله ـ عليه السلام ـ : « البينة على المدعي واليمين على ( من انكر ) (2) ».
    والجواب :
    قوله : النفي عدم. قلنا : هذا صحيح ، لكن الجزم بذلك النفي هو المفتقر الى الدلالة.
    قوله : اثبات الاحكام يفتقر الى الدلالة ، فيكفي في نفيها عدم الدلالة. قلنا : هذا محض الدعوى ، فما الدليل عليه ؟ فان من علم دليل الثبوت جزم به ، ومن عدمه فانه يجوز ثبوت الحكم كما يجوز عدمه ، إذ عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول كما يدعيه.
    قوله : عدم المعجز دليل على عدم النبوة. قلنا : لا نسلم ، فان من لا يعلم معجز النبي ، لا يجوز له الجزم بنفي ( نبوته ) (3) ، أما إذا ادعى النبوة ولا معجز له ، فانا ننفي ( نبوته ) (4) لا لعدم المعجز ، [ بل ] لعلمنا عقلا أنه لو كان نبيا لكان له معجز ، فنستدل بعدم اللازم على عدم الملزوم ، وذلك من الأدلة القاطعة ، فكان مستند الحكم بانتفاء ( نبوته ) (5) إلى ذلك الدليل ، لا إلى مجرد عدم المعجز
1 ـ في نسخة : المنع.
2 ـ في نسخة : المنكر.
3 و 4 و 5 ـ في نسخة : ثبوته.


(212)
وكذا إذا حكمنا بانتفاء واقعة ، لو وقعت لعلمت ، مثل انكار مدينة قريبة لم يسمع ببنائها ، أو وقوع حادثة في ملأ ولم تسمع منهم ، فانا نحكم بانتفاء ذلك كله ، لأن ذلك مما لو كان لظهر ، فلما لم يظهر ، دل ذلك على عدمه.
    وأما قوله عليه السلام : « واليمين على من أنكر » فانا نقول : لا نسلم أن القول قوله من غير حجة ، بل الحجة معه بتقدير عدم البينة من طرف المدعي ، و ذلك انه إذا ادعى عليه عينا فانها تكون في يده ، واليد دلالة [ على ] الملك ، فكان الحكم باليد لا بعدم البينة بمجرده ، وان ادعى عليه دينا ، فالاصل براءة الذمم ، فهو مستدل بالاصل على أن ايجاب اليمين عليه يجرى مجرى الحجة في جنبه شرعا ، وذلك مما يدل على أنه لم يثبت قوله بعدم البينة ، إذ لو ثبت ثبوتا باتا [ تاما ] لما كلف [ اليمين ].
    وإذا ثبت هذا ، فاعلم : أن الاصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية ، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا ، جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الاصلية ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا ، [ لكان ] عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه ، ولا يستمر (1) هذا الدليل الا ببيان مقدمتين :
    احداهما : انه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ( نضبط ) (2) طرق الاستدلالات الشرعية ، ونبين عدم دلالتها عليه.
    والثانية : أن ( نبين ) (3) أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه احدى تلك الدلائل ، لأنه لو لم يكن عليه دلالة ، لزم التكليف [ بما لا طريق للمكلف الى
1 ـ كذا في النسخ ولعل الصحيح : ولا يتم.
2 ـ في نسخة تضبط.
3 ـ في نسخة : أن يتبين.


(213)
العلم به ، وهو تكليف ] بما لا يطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك ( الأدلة ) (1) لما كانت أدلة الشرع منحصرة [ فيها ] ، لكن قد بينا انحصار الاحكام في تلك الطرق.
    وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم. والله أعلم.

( فيما ألحق ) (2) بأدلة الاصول وليس منها ، وفيه مسائل :
    المسألة الاولى : إذا اختلف الناس على أقوال ، وكان بعضها يدخل في بعض ـ كما اختلف في حد الخمر ، فقال قوم : ثمانون ، وآخرون : أربعون وفي دية اليهودي ، فقيل : كدية المسلم ، وقيل : ثمانون ، وقيل : على النصف وقيل : على الثلث ـ هل يكون الاخذ بالاقل حجة ؟ حكم بذلك قوم ، وأنكر [ ه ] آخرون.
    أما القائلون [ بذلك ] فقالوا : قد حصل الاجماع على وجوب الأقل ، و الاجماع حجة ، واختلف في الزائد ، والبراءة الاصلية نافية له ، فيثبت الأقل بالاجماع ، ( وينفى ) (3) الزائد بالاصل ، لأن التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية وقد بينا أن مع عدمها يكون العمل بالبراءة الاصلية [ لازما ].
    لا يقال : الذمة مشغولة بشيء ، وقد اختلف فيما تبرأ به الذمة ، وفي الأقل خلاف ، وبالاكثر تبرأ الذمة يقينا ، فيجب الاخذ به احتياطا لبراءة الذمة.
1 ـ في نسخة : الدلالة.
2 ـ في نسخة : فيما يتعلق
3 ـ في نسخة : وينتفى.


(214)
    لأنا نقول : لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا ، لأن الاصل دال على خلوها ، فلا تشتغل الا مع قيام الدليل ، وقد ثبت اشتغالها بالاقل ، فلا يثبت اشتغالها بالاكثر ، [ والاشتغال بالاكثر ] مغاير للاشتغال المجرد ، ومغاير للاشتغال بالاقل فيكون الاشتغال بالاكثر والاشتغال المطلق منفيا بالاصل.
    لا يقال : فان لم يثبت دلالة على الأكثر ، فانه من الممكن أن يكون هناك دليل ، ولا يلزم من عدم الظفر به عدمه ، فكان العمل بالاكثر أحوط.
    لأنا نقول : ذلك الدليل المحتمل لا يعارض الاصل ، لأنا قد بينا أن مع تقدير عدم الدلالة الشرعية يجب العمل بالبراءة الاصلية ، وذلك يرفع ما أوما [ نا ] إليه من الاحتمال.
    المسألة الثانية : إذا اختلف ( الامة ) (1) على قولين ، هل يجب الاخذ بأخفهما حكما بتقدير عدم الدلالة على كل واحد منهما ـ ؟ صار إلى ذلك قوم وقال آخرون : بالاثقل ، والكل باطل.
    واحتج الاولون : بالنقل والعقل.
    أما النقل : فقوله تعالى : « يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » (2) و قوله : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (3) وقوله ـ عليه السلام ـ : « لا ضرر في الاسلام » وقوله : « بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ».
    [ و ] أما العقل : فلان احتمال الاخف مساو لاحتمال الاثقل في عدم الدلالة والاخذ ( بالاثقل ) (4) احتياط لحق الله سبحانه ، وهو غني لا يتضرر ، وبالاقل
1 ـ في بعض النسخ : الامامية.
2 ـ البقرة / 185.
3 ـ الحج / 78.
4 ـ في نسخة : بالاكثر.


(215)
تخفيف عن العبد ، وهو فقير يتضرر ، فيكون ( الترخيص ) (1) في حق من لا ( يتضرر ) (2) أولى.
    احتج القائلون بالاثقل بوجهين :
    أحدهما : أن العمل بالاثقل أحوط ، فيجب الاخذ به.
    الثاني : أن العمل بالاثقل افضل ، فيجب العمل به ، أما أنه أفضل : فلقوله عليه السلام : « أفضل العبادات أحمزها » وأما انه إذا كان أفضل وجب العمل به فلان الافضل خير ، فيجب الاستباق إليه بقوله : « فاستبقوا الخيرات » (3).
    والجواب :
    أما الآيات ، فالجواب عن الاولى : لا نسلم أن ارادة اليسرلا تتناول الاثقل بل هو يسر [ كما أن الاخف يسر ] ، ثم لا يلزم من ارادة اليسر اختصاصها بالايسر.
    وعن الثانية : لا نسلم أن الاثقل حرج ، فان قال : الحرج هو الضيق ، وهو يتناول الاثقل ، قلنا : لو تناول الاثقل لاجل ضيق المشقة ، لتناول الاخف فالاولى : صرف الضيق إلى ما يقصر عنه الطاقة ، [ فيكون متناولا للاثقل ، لأنه مما يدخل تحت الطاقة ].
    والجواب عن الخبر الاول : أن نقول : نفي الضرر يتناول الجميع ، و هو متروك الظاهر ، فيحمل على ما وقع الاتفاق على تركه.
    وعن الخبر الثاني : أن الخفيف والثقيل سهل سمح ، إذ كل واحد منهما دون طاقة العبد.
    ثم الخبران معارضان بقوله ـ عليه السلام ـ : « الحق ثقيل مري ، والباطل خفيف وبي ».
1 ـ في نسخة : الترجيح.
2 ـ في نسخة : يستضر.
3 ـ البقرة / 148.


(216)
    والجواب عن المعقول : أن نقول : قوله : ان الله سبحانه غني لا يتضرر فيكون الترخيص في حقوقه. قلنا : حقوق الله لا تنفك عن مصلحة عائدة الى العبد ، فيكون الترخيص فيها ترخيصا في حق المتضرر ، فعدوله حينئذ يكون تركا ( لمصلحة ) (1) ، وهو غير جائز.
    ويمكن أن يجاب الآخرون بأن نقول : قوله : العمل بالاثقل أحوط. قلنا : سنبين أن الاحتياط دلالة ضعيفة ، بل باطلة.
    قوله : العمل بالاثقل أفضل. قلنا : متى ؟ إذا ثبت أنه مأمور [ به ] ، أو إذا لم يثبت ، ونحن فلا نسلم أنه مأمور [ به ] ، قوله عليه السلام : « أفضل العبادات أحمزها » قلنا : لا نسلم ( أنه ) (2) عبادة ، وانما يثبت ذلك إذا ثبت أنه مأمور به.
    المسألة الثالثة : العمل بالاحتياط غير لازم. وصار آخرون : إلى وجوبه وقال آخرون : مع اشتغال الذمة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب.
    مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الاناء فقد نجس ، واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة ؟ أم لابد من سبع ، وفيما عدا الولوغ ، هل يطهر بغسلة ؟ أو لابد من ثلاث.
    احتج القائلون بالاحتياط : بقوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ، وبأن الثابت اشتغال الذمة يقينا ، فيجب أن لا يحكم ببراءتها الا بيقين ، ولا يقين الا مع الاحتياط.
    والجواب عن الحديث : أن نقول : هو خبر واحد ( لا نعمل ) (3) بمثله في
1 ـ في نسخة : لمصلحته.
2 ـ في نسخة : أنها.
3 ـ في نسخة : لا يعمل.


(217)
مسائل الاصول ، سلمنا [ ه ] ، لكن الزام المكلف بالاثقل مظنة الريبة ، لأنه الزام مشقة لم يدل الشرع عليها ، فيجب اطراحها بموجب الخبر.
    والجواب عن الثاني : أن نقول : البراءة الاصلية ـ مع عدم الدلالة الناقلة ـ حجة ، وإذا كان التقدير [ تقدير ] عدم الدلالة الشرعية على الزيادة ، كان العمل بالاصل أولى ، وحينئذ لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا ، بل لا نسلم اشتغالها الا بما حصل الاتفاق عليه ، أو اشتغالها بأحد الامرين.
    ويمكن أن يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الاناء ، واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن يؤخذ بما حصل الاجماع عليه في الطهارة ( ليزول ) (1) ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة.
    المسألة الرابعة : شريعة من قبلنا هل هي حجة في شرعنا ؟ قال قوم : نعم ما لم يثبت نسخ ذلك الحكم بعينه ، وأنكر الباقون ذلك ، وهو الحق.
    لنا : وجوه.
    الاول : قوله تعالى : « وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى » (2).
    الثاني : لو كان متعبدا بشرع غيره ، لكان ذلك الغير أفضل ، لأنه يكون تابعا لصاحب ذلك الشرع ، لكن ذلك باطل بالاتفاق.
    الثالث : لو كان متعبدا بشرع غيره ، لوجب عليه البحث عن ذلك الشرع لكن ذلك باطل ، لأنه لو وجب لفعله ، ولو فعله لاشتهر ، ولوجب على الصحابة والتابعين بعده والمسلمين إلى يومنا هذا متابعته عليه السلام على الخوض فيه ، ونحن نعلم من الدين خلاف ذلك.
    الرابع : لو كان متعبدا بشرع من قبله ، لكان طريقه إلى ذلك اما الوحي أو
1 ـ في نسخة : فيزول.
2 ـ النجم / 3.


(218)
النقل [ و ] يلزم من الاول أن يكون شرعا له لا شرعا ليغره ، ومن الثاني التعويل على نقل اليهود ، وهو باطل ، لأنه ليس بمتواتر ، لما تطرق إليه من القدح المانع من افادة اليقين ، ونقل الآحاد منهم لا يوجب العمل لعدم الثقة.
    واحتج الآخرون :
    بقوله تعالى : « فبهديهم اقتده » (1) وبقوله : « ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا » (2) وبقوله : « شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا » (3) وبقوله : « انا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين » (4) وبقوله : « انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون » (5).
    وبأنه عليه السلام رجع في معرفة الرجم في الزنا إلى التوارة.
    أجاب الاولون :
    عن الآية الاولى : بانها تتضمن الأمر بالاقتداء بهديهم كلهم ، فلا يكون ذلك اشارة إلى شرعهم ، لأنه مختلف ، فيجب صرفه إلى ( ما اتفقوا ) (6) عليه ، وهو دلائل العقائد العقلية ، دون الفروع الشرعية.
    وعن الثانية : بأن ملة ابراهيم ـ عليه السلام ـ المراد بها العقليات ، دون الشرعيات يدل على ذلك قوله : « ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه » (7) فلو
1 ـ الانعام / 90.
2 ـ النحل / 123.
3 ـ الشورى / 13.
4 ـ النساء / 163.
5 ـ المائدة / 44.
6 ـ في نسخة : ما اتفق.
7 ـ البقرة / 130.


(219)
أراد الشرعيات لما جاز نسخ شيء منها ، [ وقد نسخ كثير من شرعه ، فتعين أن المراد منه العقليات ].
    وعن الآية الثالثة : أنه لا يلزم من وصية نوح بشرعنا ، أنه أمره به ، بل يحتمل أن يكون ( وصاته ) (1) به أمرا منه بقبوله عند ( انتهاء اعقابهم ) (2) إلى زمانه عليه السلام ، أو وصاه به بمعنى أطلعه عليه وأمره بحفظه.
    ولو سلمنا أن المراد أنه شرع لنا ما شرع لنوح ، لاحتمل أن يكون المراد به من الاستدلال بالمعقول على العقائد الدينية ، ولو لم يحتمل ذلك لم يبعد أن يتفق الشرعان ( ثم ) (3) لا يكون شرعه حجة علينا من حيث ورد على نبينا صلى الله عليه وآله بطريق الوحي ، فلا تكون شريعته شريعة لنا ، باعتبار ورودها عنه.
    وعن الآية الرابعة : أن المساواة في الوحي لا تستلزم المساواة في الشرع.
    وعن الآية الخامسة : ان ظاهرها يقتضي اشتراك الانبياء جميعا في الحكم بها ، وذلك غير مراد ، لأن ابراهيم ونوحا وادريس وآدم لم يحكموا بها ، لتقدمهم على نزولها ، فيكون المراد : أن الانبياء عليهم السلام يحكمون بصحة ورودها عن الله ، وأن فيها نورا وهدى ، ولا يلزم أن يكونوا متعبدين بالعمل بها ، كما أن كثيرا من آيات القرآن منسوخة وهي عندنا نور وهدى.
    وأما رجوعه عليه السلام في ( تعرف ) (4) حد الرجم [ في التوارة ] ، فلا نسلم أن مراجعته ( التوراة ) (5) ليعرفه ، بل لم لا يجوز أن يكون ذلك لاقامة الحجة على
1 ـ في نسخة : وصاية.
2 ـ في نسخة : انتهائهم.
3 ـ في بعض النسخ : لم.
4 ـ في نسخة : تعريف.
5 ـ في نسخة : للتوراة.


(220)
من أنكر وجوده في التوراة ؟!.
    المسألة الخامسة : الاستقراء : هو الحكم على جملة بحكم ، لوجوده فيما اعتبر من جزئيات تلك الجملة ، ومثاله : أن تستقرئ الزنج ، فتجد ( كل موجود منهم ) (1) أسود ، فتحكم بالسواد على من لم تره كما حكمت على من رأيته. وحاصله التسوية من غير جامع ، ومثاله من الفقهيات : إذا اختلف في الوتر ، فنقول : هو مندوب ، لأنه لو كان واجبا لما جاز أن يصلى على الراحلة (2) ، لكنه يصلى على الراحلة ، والمقدم مستفاد من الاستقراء إذ لا شيء من الواجب يصلى على الراحلة ، والاستثناء معلوم بالاجماع.
    وهل مثل ذلك حجة في الاحكام ؟ الحق أنه ليس بحجة ، لأن موارد الاحكام مختلفة ، فلا يلزم من اختصاصها ببعض الاعيان ، وجودها في الباقي ، [ و لأن ثبوت الحكم فيما وجد ، قد يكون مع وجوده في الباقي ] ، وقد يكون مع فقده ، ومع الاحتمال لا يجوز الحكم بأحدهما دون الآخر [ و ] لأن وجود الحكم في فرد من أفراد النوع ، لا يلزم منه وجوده في باقى الافراد ، فكذا وجوده فيما هو أكثر من الواحد.
    فان قيل : مع كثرة الصور يغلب الظن أن الباقي مماثل لما وجد والعمل بالظن واجب.
    قلنا : لا نسلم أنه يغلب على الظن [ ان الباقي مماثل لما وجد ] ، إذ لاتعلق بين ما رأيت وما لم تره ، ولا بين ما علمته من ذلك وما لم تعلمه ، ولو سلمنا حصول الظن ، لكن الظن الحاصل من غير امارة لا عبرة به ، وليس وجود الحكم فيما رأيته من أجزاء الجملة ، امارة لوجوده في الباقي ، سلمناه ، لكن
1 ـ في بعض النسخ : الموجود منهم.
2 ـ اضاف في نسخة : إليه.


(221)
الظن قد يخطئ فلا يعمل به الا مع وجود دلالة تدل عليه.
    فان قيل : مع الظن يرجح في ذهن المجتهد ارادة الشارع لتعميم الحكم فتصير المخالفة مظنة الضرر.
    قلنا : غلبة الظن المذكور معارض بغلبة الظن أن شرعية الحكم تستدعي الدلالة ، ومع ارتفاع الدلالة بغلب على الظن انتفاء الحكم ، فينتفي ظن الضرر على أن مع النهي عن العمل بالظن يزول ظن الضرر ، والنهي موجود بقوله : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (1) وقوله : « ان الظن لا يغني من الحق شيئا » (2).
    المسألة السادسة : في المصالح.
    المصلحة : هي ما يوافق الانسان في مقاصده لدنياه أو لاخرته أولهما ، و حاصله : تحصيل منفعة أو دفع مضرة ، ولما كانت الشرعيات مبتنيات على المصالح ، وجب النظر في رعايتها ، والمصالح تنقسم ثلاثة أقسام : معتبرة شرعا ، وملغاة ، ومرسلة.
    فالمعتبرة : كتحريم القتل وشرع القصاص ، لاستبقاء الانفس ، وفرض الجهاد وقتل المرتد ، لحفظ الدين ، وتحريم الزنا واقامة الحد ، لحفظ الانساب ، والقطع في السرقة ، لحفظ الاموال.
    والملغاة : كما يقال : الغنى في كفارة الوطء في نهار شهر رمضان عمدا يصوم شهرين ( تحتما ) (3) ، لأن ذلك يكون أزجر له عن المعاودة ، لكن الشرع أسقط هذه المصلحة عن درجة الاعتبار.
    والمرسلة : ما عدا القسمين ، وهذه المصلحة ان كان معها مفسدة راجحة
1 ـ الاسراء / 36.
2 ـ يونس / 36.
3 ـ في نسخة : تحتيما.


(222)
أو مساوية ، كانت ملغاة ، وان كانت المصلحة صافية عن المفسدة ، أو راجحة حكي عن مالك ، أنها حجة ، حتى قال : ( نضرب ) (1) المتهم بالسرقة محافظة على المال ، وأنكر ذلك الأكثر ، ومنهم من اعتبر في العمل بها شروطا ثلاثة أن تكون ضرورية ، وكلية ، وقطعية ، وأما ما لا يكون كليا كالفروع ( الجزئية ) (2) مثل مسائل الاجارة ، وجزئيات المساقاة ، ورعاية الكفاءة في النكاح ، فانه لا يجوز التعويل على المصالح المرسلة فيها الا مع دلالة شرعية تدل على اعتبارها.
    احتج الاولون : بأن الحكمة باعثة على رعاية المصلحة ، فحيث ( ثبت ) (3) أن في الشيء مصلحة ( يعلم تعلق ) (4) داعي ( الحكم ) (5) به تحصيلا لتلك المصلحة
    [ والجواب : متى تكون الحكمة باعثة على رعاية المصلحة ؟ ] إذا تحقق خلوها من جميع المفاسد ، أم إذا لم يتحقق ؟ الاول مسلم ، والثاني ممنوع ، والتقدير تقدير عدم ( التحقق ) (6) ، غاية ما في الباب أن يغلب [ على ] الظن ، لكن التكليف من فعل الله سبحانه ، فيبنى على ما علمه ، لاعلى ما ظنناه نحن.
    لا يقال : المكلف يبني في كثير من الشرعيات على الظن.
    لأنا نقول : حيث دل الدليل الشرعي على العمل به ، لا بمجرد الظن.
    ثم نقول : لو جاز العمل بالمصلحة المرسلة ، لوجب حضور مجالس
1 ـ في نسخة : يضرب.
2 ـ في النسخ : الغريبة ، ولكن كتب في هامش احدى النسخ : الجزئية ظ ، و هو الصواب
3 ـ في بعض النسخ : يثبت.
4 ـ في نسخة : تعلم تعلق.
5 ـ في نسخة : الحكمة.
6 ـ في النسخ : التحقيق ، والصحيح ما أثبتناه.


(223)
الوعظ ، تحصيلا لمصلحة الانزجار ، ولوجب الحد في الغصب ، ( تحصينا ) (1) للمال.
    وما حكي عن مالك من جواز ضرب المتهم [ بالسرقة ، باطل ، لأنه لو جاز ذلك ، لجاز ضرب المتهم ] بالقتل والمتهم بالغصب ، محافظة على الانفس والاموال ، لكن ذلك باطل اجماعا.
    وأما الفريق الثاني : فانا نفرض لما ذكروه مثالا ، فنقول : إذا تترس أهل الحرب بالاسارى من المسلمين ، هل يجوز رميهم وان أدى ذلك إلى تلف ( الاسرى ) (2) ؟ قال هؤلاء : نعم ، إذ علمنا أنا إذا لم نرمهم ظهروا على الاسلام فقالوا : هذه ضرورية ، لأنه [ لا ] يندفع استئصال المسلمين الا بالرمي ، وكلية لأن الضرر عام في المسلمين كافة ، وقطعية ، لأنا نتيقن تسلط أهل الكفر مع عدم الرمي ، واحتجوا لوجوب [ مثل ] هذا القدر بأن قالوا : المحافظة على الدماء مقصود للشارع ، والرمي مفض إلى ذلك القصد ، فيكون واجبا وان أدى إلى قتل الاسير.
    والجواب : ما الذي تعنى بالقصد ؟ ان عنيت أن الشرع منع من القتل و أوجب القصاص ، فمسلم ، وان عنيت أنه قصد حفظها بغير ذلك ( مما لم يدل ) (3) عليه الشرع ، فلا نسلم ، أو نقول : لا نسلم أن المحافظة على الدماء مقصودة كيف كان ، بل لم لا يجوز أن تكون المحافظة مقصودة بتحريم القتل والقصاص لاغير ، ولا يلزم من تشريع هذه الزواجر شرع طريق آخر.
    ثم نقول : هذه المصلحة دل الشرع على الغائها ، فيجب سقوطها عن
1 ـ في نسخة : تحصيلا.
2 ـ في نسخة : الاسارى.
3 ـ في بعض النسخ : مما يدل.


(224)
الاعتبار ، يدل على ذلك قوله تعالى : « ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها » (1) وقوله : « ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق » (2) وقوله عليه السلام « من سعى في دم امرء مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوبا على جبينه آيس من رحمة الله » وغير ذلك من الاحاديث الدالة على المنع من قتل المسلم ومع وجود النص لا اعتبار بغيره.
    فعلى هذا النهج يكون احتجاجك على ما يرد عليك من هذا الباب.
والله العاصم ، [ والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ]

1 ـ النساء / 93.
2 ـ الانعام / 151.
معارج الاصول ::: فهرس