معارج الاصول ::: 196 ـ 210
(196)

(197)
في المفتي والمستفتي ، وفيه مسائل :
    المسألة الاولى : يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الاحكام الشرعية ، وقال الجبائي : يجوز ذلك في مسائل الاجتهاد ، دون ما عليه دلالة ( قطعية ) (1) ومنع بعض المعتزلة ذلك في الموضعين.
    لنا : اتفاق علماء ( الاعصار ) (2) على الاذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر ، وقد ثبت أن اجماع أهل كل عصر حجة.
    الثاني : لو وجب على العامي النظر في أدلة الفقه ، لكان ذلك اما قبل وقوع الحادثة أو عندها ، والقسمان باطلان ، أما قبلها فمنفي بالاجماع ، ولأنه يؤدي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك ، فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه ، وأما عند نزول الواقعة فذلك متعذر ، لاستحالة اتصاف كل عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين.
    لا يقال : هذا لازم في المسائل العقلية الاعتقادية ، مع انه لا يسوغ فيها التقليد.
1 ـ في بعض النسخ : قاطعة.
2 ـ في نسخة : الامصار.


(198)
لأنا نقول : تلك حصولها سهل بأوائل الأدلة ، وهي عقائد مضبوطة ، وليس كذلك الفقه وحوادثه ، لانتشارها ، وانفراد كل مسألة منها بدليل [ على ] حياله.
    واحتجوا لذلك أيضا : بقوله : « فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون » (1)
    ويمكن أن يقال : سلمنا وجوب السؤال ، ولكن لا نسلم وجوب العمل.
    واحتجوا أيضا : بقوله تعالى : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون » (2).
    ولقائل أن يقول : الانذار مما يوجب الحذر لكن قد يكون باعثا على النظر في الأدلة ، فلم لا يجوز أن يكون هو المراد ؟!
    واحتج المانعون بوجوه :
    الاول : قوله تعالى : « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » (3) ، و « لا تقف ما ليس لك به علم » (4) ، و : « ان الظن لا يغني من الحق شيئا » (5)
    وثانيها : أنه عمل بما لا يؤمن كونه مفسدة ، فيكون قبيحا ، لأن المفتي جائز الخطأ ، فكل ما يفتي به يجوز أن يكون مخطئا فيه ، فيكون الاقدام على العمل ، على ما لا يؤمن كونه مفسدة ، وقبح ذلك ظاهر.
    وثالثها : لو جاز التقليد في الشرعيات ، لجاز في ( العقليات ) (6) ، والثاني
1 ـ الانبياء / 7.
2 ـ التوبة / 122.
3 ـ البقرة / 169.
4 ـ الاسراء / 36.
5 ـ يونس / 36.
6 ـ في نسخة : القطعيات.


(199)
محال ، ( فالأول ) (1) مثله.
    والجواب عن الآيات أن نقول : خص منها العمل بشهادة الشاهدين ، و استقبال [ جهة ] القبلة مع الظن عند عدم العلم ، والظن بأروش الجنايات وقيم المتلفات ، وانما خص لوجود الدلالة ، كذا هنا.
    وعن الثاني : أن الامن من المفسدة ، بما أشرنا إليه من الدلالة الدالة على جواز العمل بالفتوى.
    وعن الثالث : بالفرق بين الامرين بتشعب مسائل الفقه وكثرة أدلتها ، و سهولة أدلة الكلام وقلتها ، وبأن العقليات الغرض فيها الاعتقاد ، فلا يبنى الا على العلم ، والشرعيات يجوز التعويل فيها على الظنون عند وجود الدلائل الدالة على اشتمالها على المصلحة.
    المسألة الثانية : لا يجوز تقليد العلماء في اصول العقائد ، خلافا للحشوية.
    ويدل على ذلك وجوه :
    أحدها : قوله تعالى : « وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » (2).
    الثاني : ان التقليد : قبول قول الغير من غير حجة ، فيكون جزما في غير موضعه ، وهو قبيح عقلا.
    الثالث : لو جاز تقليد المحق لجاز تقليد المبطل ، لأنه اما أن يكون تقليد المحق مشروطا بالعلم بكونه حقا أو لم يكن ، ويلزم من الاول طلب العلم ( وأن لا ) (3) يكون تقليدا » ، وان جاز تقليد المحق [ من ] دون العلم بكونه حقا لزم
1 ـ في نسخة : والاول.
2 ـ البقرة / 169.
3 ـ في نسخة : وان ، وفي أخرى : والا.


(200)
تقليد المبطل ، لاشتراكهما في سبب الاتباع ، وهو مجرد التقليد ، ( وإذا ) (1) ثبت أنه غير جائز ، فهل هذا الخطأ موضوع عنه ؟ قال شيخنا أبو جعفر « ره » : نعم ( وخالفه ) (2) الأكثرون.
    احتج « ره » : باتفاق فقهاء ( الاعصار ) (3) على الحكم بشهادة ( العامي ) (4) مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلة القاطعة.
    لا يقال : قبول الشهادة انما كان لأنهم يعرفون أوائل الأدلة ، وهو سهل المأخذ.
    لأنا نقول : ان كان ذلك حاصلا لكل مكلف لم يبق من يوصف بالمؤاخذة فيحصل الغرض وهو سقوط الاثم ، وان لم يكن معلوما لكل مكلف لزم أن يكون الحكم بالشهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلة ( للشاهد ) (5) منهم ، لكن [ ذلك ] محال ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يحكم باسلام الاعرابي [ من ] غير أن يعرض عليه أدلة الكلام ، ( ولا يلزمه ) (6) بها ، بل يأمره بتعلم الأمور الشرعية اللازمة كالصلاة وما أشبهها.
    المسألة الثالثة : الذي [ يسوغ ] له الفتوى هو العدل العالم بطرق العقائد الدينية الأصولية ، وبطرق الاحكام الشرعية وكيفية استنباط الاحكام منها.
    وبالجملة : يجب أن يعرف جميع ما يتوقف عليه كل واقعة يفتي فيها ،
1 ـ في نسخة : وان
2 ـ في نسخة : وخالف
3 ـ في اكثر النسخ : الامصار
4 ـ في نسخة : الراوى
5 ـ في نسخة : للمشاهد
6 ـ في نسخة : ولا يلزم


(201)
بحيث إذا سئل عن لمية ذلك الحكم أتى به وبجميع أصوله التي ( يبتنى ) (1) عليها. وانما وجب ذلك ، لأن الفتوى مشروطة بالعلم بالحكم ، وما لم يكن عارفا بتلك الأمور لا يكون عالما به ، لأن الشك في احدى مقدمات الدليل (2) أو في مقدمات مقدماته ، شك في الحكم ، ولا تجوز الفتوى مع الشك في الحكم.
    [ و ] إذا تقرر هذا : فلا يجوز ( للمفتي ) (3) أن يتعرض للفتوى حتى يثق من نفسه بذلك ، ولا يجوز للمستفتي أن يستفتيه حتى يعلم منه ذلك من ممارسته وممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى وبلوغه اياه ، ولا يكتفي العامي بمشاهدة المفتي متصدرا ، ولا داعيا إلى نفسه ، ولا مدعيا ، ولا باقبال العامة عليه ، ولا اتصافه بالزهد والتورع ، فانه قد يكون غالطا في نفسه أو مغالطا.
    وإذا ثبت ذلك : فان كان في البلد واحد بهذه الصفة تعين للفتوى ، وان كان أكثر : فان تساووا في العلم والعدالة جاز استفتاء كل منهم ، فان اختلفوا في الفتوى ـ والحال هذه ـ كان المستفتي مخيرا في العمل بقول أيهم شاء وان كان أحدهم أرجح في العلم والعدالة وجب العمل ( بفتواه ) (4). وان اتفق اثنان أحدهما أعلم والاخر أكثر عدالة وورعا ، قدم الاعلم ، لأن الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع ، والقدر الذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر.
1 ـ في بعض النسخ : يبنى.
2 ـ في نسخة اضافة : أو في مقدمات الدليل.
3 ـ في نسخة : من المفتى.
4 ـ في نسخة : بقوله.


(202)
تفريع
    العالم إذا كان من أهل الاجتهاد وحصل له حكم الواقعة بنظر صحيح ، لم يجز له العدول إلى العمل بفتوى من هو أعلم [ منه ] ، لأنه عدول عما يعلم الى ما يظن ، وكذا ( ان ) (1) لم يجتهد ، لم يجز له الرجوع إلى قول الاعلم ، لأن تحصيل العلم ممكن في حقه.
    أما إذا أشكل عليه طريق الواقعة جاز له الرجوع الى الاعلم ، لأنه بالنسبة إليه في تلك الواقعة كالعامي.
    المسألة الرابعة : لا يجوز للعامي أن يفتي بما ينقله عن العلماء ، سواءا نقل عن حي أو ميت ، لأنه قول بما لا يعلم فكان حراما.
    المسألة الخامسة : إذا أفتى المجتهد عن نظر في واقعة ، ثم وقعت بعينها في وقت آخر ، [ فان ] كان ذاكرا لدليلها جاز له الفتوى ، وان نسيه افتقر الى استئناف نظر ، فان أدى نظره إلى الاول فلا كلام ، وان خالفه وجب الفتوى بالأخير ، والاولى تعريف من استفتاه [ أولا ] ، لأنه عامل بقوله وقد رجع عنه ، فلو استمر لبقي عاملا بالفتوى من غير دليل ولا فتوى مفت.

في مسائل مختلفة :
    المسألة الاولى : اتفق أهل العدل على قبح التصرف فيما فيه مضرة خالية ( من ) (2) نفع ، وكذا ما لا منفعة فيه ، وكذا ما علم وجه قبحه كالظلم.
1 ـ في نسخة : إذا.
2 ـ في بعض النسخ : عن.


(203)
    واختلفوا فيما عدا ذلك مما ينتفع به ولا يعلم كونه واجبا ولا مندوبا ، فقال قوم : انه على الحظر ، وهو مذهب طائفة منا وقال الآخرون : على الاباحة ، و هو اختيار المرتضى « ره » ، وتوقف آخرون فيه عقلا ، وأباحوا منها ما دل عليه الشرع ، وهو اختيار شيخنا المفيد ره.
    احتج القائلون بالحظر بأنه تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، فيكون قبيحا.
    أجاب الآخرون بأنا لا نسلم أنه تصرف بغير اذن المالك ، وهذا لأن الأدلة التي نذكرها يلزم منها الاذن ، سلمنا أنه لم يأذن ، لكن كما لم يأذن لم يحظر ، ثم نقول : لا نسلم أن مال الغير يحرم التصرف فيه الا مع المنع ، أو مع مضرة تتوجه على المالك ، أو فوت مصلحة له ، يدل على ذلك أنا نستبيح الاستناد الى جدار الغير من غير اذنه ، وكذا نستضيء بضوء مصباحه ، ولا علة لذلك الا خلوه من غرض يقتضي المنع ، والاشياء بالنسبة إلى الله سبحانه تجري هذا المجري.
    ثم ما ذكر تموه منقوض بالتنفس في الهواء فانه يستباح عقلا من غير توقف على اذن.
    لا يقال : ذلك لمكان الضرورة ، لأنا نقول : لو كان كذلك لما جاز أن نستبيح منه الا ما يدفع الضرورة ، وليس كذلك ثم نقول : لو قبح منه الاقدام لأنه تصرف في مال الغير ، لقبح الاحجام ( لمثل ) (1) ذلك ، إذ تصرف في نفسه ـ اقداما ( أو ) (2) احجاما ـ تصرف في ملك الغير ، فيلزم الجمع بين النقيضين.
    احتج القائلون [ بالاباحة ] بوجوه :
1 ـ في نسخة : بمثل.
2 ـ في نسخة : و.


(204)
    الاول : ان ذلك تحصيل لمنفعة خالية عن الضرر ، فتكون حسنه ، أما الاولى : فلان المالك سبحانه لا ينتفع ولا يستضر ولا ينقص ملكه شيء ، وأما المنتفع فلانا نتكلم على هذا التقدير ، وأما الثانية : فيدل عليها وجهان : الاول : أن مثل ذلك خال عن وجوه القبح ، والثاني : أن الاستظلال بجدار الغير يحسن من غير اذن مالكه ، ولا وجه لحسنه الا عدم استضرار المالك وانتفاع المستظل ، وهذا الوجه حاصل فيما ذكرنا [ ه ] فيجب أن يحسن.
    لا يقال : هذا باطل بالربا والزنا وغير ذلك من المحرمات ، فان المالك لا يستضر بفعلها ، وهي نافعة للفاعل ، فلو كان وجها يقتضي الحسن لما قبح شيء منها.
    لأنا نقول : ورود النهي عنها دليل على اشتمالها على مفسدة عائدة إلى المكلف تقتضي المنع ، وليس كذلك ما نحن فيه.
    الوجه الثاني : لو لم تكن ( المشتهيات ) (1) على الاباحة لزم أن يكون تعالى فاعلا للقبيح ، لكن هذا اللازم محال ، وبيانه : ( انه ) (2) بتقدير أن لا يكون مخلوقه للانتفاع : اما أن يكون في خلقها غرض حكمي ، واما أن لا يكون ، ويلزم من الثاني العبث ، وان كان : فاما النفع عائد إليه تعالى وهو محال ، واما الضرر عائد إلى غيره ، وهو قبيح ، لعدم الوجوه المقتضية لحسنه ، فتعين أن تكون للانتفاع.
    ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون فيه غرض غير الانتفاع ؟ وهو اما امتناع المكلف منه ، لتحصيل الثواب بمنع النفس عن تناوله ، أو ليستدل بها على الصانع سبحانه ، أوغير ذلك من الوجوه.
1 ـ في بعض النسخ : المشتبهات.
2 ـ في نسخة : أن.


(205)
    فان قالوا : خلقها يحسن مع عدم التكليف.
    كان لقائل أن يمنع ذلك. وكذلك ( ان قالوا ) : (1) يمكن الاستدلال على الصانع سبحانه من دونها بغيرها.
    قلنا : العقل لا يمنع من ترادف الأدلة ولا يقبحه.
    الوجه الثالث : قالوا قد علمنا حسن التنفس في الهواء من دون اذن المالك والاستظلال بجدار الغير والاستضاءة (2) بمصابيحه ، والعلة في ذلك أنه لا ضرر فيه على المالك ولا على غيره ، إذ لا وجه يضاف إليه الجواز الا ( ذاك ) (3) ولأن ذلك الحكم يدور مع هذه العلة وجودا وعدما ، فيجب أن يحسن التصرف فيما ذكرناه للاشتراك في الموجب.
    الوجه الرابع : الاستدلال بالشرع على الاباحة ، وهو أمران : القرآن ، و الاجماع.
    أما القرآن : فقوله تعالى : « خلق لكم ما في الارض جميعا » (4) وقوله تعالى : « قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق » (5) وقوله : « احل لكم الطيبات » (6).
    وأما الاجماع : فلان أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر الى تناول شيء من المشتهيات ، سواء علم الاذن فيها من الشرع أو [ لم ] يعلم ، ولا
1 ـ في نسخة : أن يقول.
2 ـ في النسخ : الاستضواء.
3 ـ في بعض النسخ : ذلك.
4 ـ البقرة / 29
5 ـ الاعراف / 32
6 ـ المائدة / 5.


(206)
يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكل أن يعلم التنصيص على ( الاباحة ) (1) ويعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لاسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الاذن.
    المسألة الثانية : إذا ثبت حكم في وقت ، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، هل يحكم ببقائه على ما كان ؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دلالة ، كما يفتقر نفيه الى الدلالة.
    حكي عن المفيد « ره » : أنه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه ، وهو المختار.
    وقال المرتضى « ره » : لا يحكم بأحد الامرين الا لدلالة.
    مثال ذلك : المتيمم إذا دخل في الصلاة ، فقد أجمعوا على المضي فيها ، فإذا رأى الماء في اثناء الصلاة ، هل يستمر على فعلها استصحابا للحال الاول ؟ أم يستأنف الصلاة ( بوضوء ) (2) فمن قال بالاستصحاب قال بالاول ، ومن ( اطرحه ) (3) قال بالثاني.
    لنا وجوه :
    الاول : ان المقتضي للحكم الاول ثابت فيثبت الحكم ، والعارض لا يصلح ( رافعا ) (4) له ، فيجب الحكم بثبوته ( في ) (5) الثاني.
    أما أن مقتضي الحكم الاول ثابت ، فلانا نتكلم على هذا التقدير.
1 ـ في بعض النسخ : اباحته.
2 ـ في بعض النسخ : لوضوء.
3 ـ في نسخة : طرحه.
4 ـ في نسخة : دافعا ، و ( له ) محذوفة من احدى النسخ.
5 ـ في نسخة : على.


(207)
    وأما أن العارض لا يصلح رافعا ، فلان العارض انما هو احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم ، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه ، فيكون كل واحد منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن ( رافع ) (1).
    الوجه الثاني : الثابت أولا قابل للثوبت ثانيا ـ والا لانقلب من الامكان الذاتي الى الاستحالة ـ فيجب أن يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم الا ( لمؤثر ) (2) ، لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفيه الى الآخر ( لا ) (3) لمؤثر ، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثر ، فيكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح واجب.
    الوجه الثالث : عمل الفقهاء باستصحاب الحال في كثير من المسائل ، و الموجب للعمل هناك موجود في موضع الخلاف ، ( فيثبت ) (4) العمل به.
    أما الاولى : فكمن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، فانه يعمل على يقينه ، وكذلك بالعكس ومن تيقن طهارة ثوبه في حال ، بني على ذك حتى يعلم ( رافعها ) (5) ومن ( شهد ) (6) بشهادة بنى على بقائها حتى يعلم رافعها ، ومن غاب غيبة منقطعة ، [ حكم ] ببقاء أنكحته ، ولم تقسم أمواله ، وعزل نصيبه في المواريث ، وما ( ذاك ) (7) [ الا ] لاستصحاب حال حياته.
1 ـ في نسخة : دافع.
2 ـ في نسخة : بالمؤثر.
3 ـ في بعض النسخ : الا.
4 ـ في نسخة : فثبت.
5 ـ في بعض النسخ : خلافها.
6 ـ في نسخة : يشهد.
7 ـ في نسخة : ذلك.


(208)
    وهذه العلة موجودة في مواضع الاستصحاب ، [ فيجب العمل به ].
    الوجه الرابع : أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب ( بقاء ) (1) الحكم على ما تقتضيه البراءة الاصلية ، ولا معنى للاستصحاب الا هذا.
    فان قال : ليس هذا استصحابا ، بل هو ابقاء الحكم على ما كان ، لا حكما بالاستصحاب.
    قلنا : [ نحن ] نعني بالاستصحاب هذا القدر ، لا نعني به شيئا سوى ذلك.
    احتج المانع :
    بأن ذلك ( حكم ) (2) بغير دليل ، فيكون باطلا.
    أما انه حكم بغير دليل ، فلأن ثبوت الحكم بالدليل في وقت أو في حال لا يتناول ما عدا تلك الحال وذلك الزمان ، فلو حكم بذلك الحكم في الحال الثاني ، لكان حكما بغير دليل.
    وأما أن الحكم بغير دليل باطل ، فبالاتفاق.
    الوجه الثاني : لو كان الاستصحاب حجة ، لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم خروجه أن يقطع ببقائه فيها وكذا كان يلزم إذا علم أن زيدا حي ، [ ثم ] انقضت مدة ولا يعلم فيها موته ، أن يقطع ببقائه ، وكل ذلك باطل.
    الوجه الثالث : استدل بعض الجمهور بأن العمل بالاستصحاب يلزم منه التناقض ، فيكون باطلا ، وذلك أن الاستدلال به كما يصح أن يكون حجة للمستدل ، يصح مثله لخصمه ، فانه إذا قال : الثابت قبل وجود الماء للمصلي المضي في صلاته ، فيثبت ذلك الحكم إذا وجد الماء ، كان لخصمه أن يقول :
1 ـ في نسخة : ابقاء.
2 ـ في بعض النسخ : عمل.


(209)
الثابت اشتغال ذمته بصلاة متيقنة ، فيجب أن يبقى الشغل ، ( أو ) (1) يقول : قبل الصلاة لو وجد الماء لما جاز [ له ] الدخول فيها بتيممه ، فكذلك بعد الدخول فيها.
    والجواب عن الاول : أن نقول : قوله : ان ذلك عمل بغير حجة. ( قلنا ) : (2) لا نسلم ، لأن الدليل دل على أن الثابت لا يرتفع الا برافع ، فإذا كان التقدير تقدير عدمه ، كان بقاء الثابت راجحا في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح لازم.
    قوله في الوجه الثاني : لو كان الاستصحاب حجة ، لوجب القطع ببقاء ما يعلم الانسان وقوعه في الازمان المنقضية إذا لم يعلم له رافعا. قلنا : نحن لا ندعي القطع ، ولكن ندعي رحجان الاعتقاد لبقائه ، وذلك يكفي في العمل به.
    قوله في الوجه الثالث : يلزم منه التناقض.
    ( لا نسلم ) (3) ، إذ ليس كل موضع يستعمل فيه الاستصحاب يفرض فيه ذلك الفرض ، ووجود التعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث تسلم عن المعارض ، كما في أخبار الآحاد والقياس ، عند من يعمل بهما.
    والذى نختاره نحن : أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم ، فان كان يقتضيه مطلقا ، وجب القضاء باستمرار الحكم ، كعقد النكاح مثلا ، فانه يوجب حل الوطء مطلقا ، فإذا وقع الخلاف في الالفاظ التي يقع بها الطلاق كقوله أنت خلية ، وبرية ، فان المستدل على [ أن ] الطلاق لا يقع ( بها ) (4) لو قال : حل الوطء
1 ـ في نسخة : و.
2 ـ في نسخة : قلت.
3 ـ في نسخة : فلا نسلم.
4 ـ في بعض النسخ : بهما.


(210)
ثابت قبل النطق بهذه ، فيجب أن يكون ثابتا بعدها ، لكان استدلالا صحيحا ، لأن المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أن الالفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيكون الحكم ثابتا ، عملا بالمقتضي.
    لا يقال : المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنه باق ، فلم يثبت الحكم.
    لأنا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا بوقت ، ( فلزم ) (1) دوام الحل ، نظرا الى وقوع المقتضي لا الى دوامه ، فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع ، فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ، فليس ذلك عملا بغير دليل. وان كان يعني به أمرا وراء ذلك ، فنحن مضربون عنه.
    المسألة الثالثة : النافي للحكم : ان قال : لا أعلم ، لم يكن عليه دليل ، لأن قوله لا يعد مذهبا ، وان قال : أعلم انتفاء الحكم ، كان عليه اقامة الدليل كما يلزم المثبت ، وسواء نفى حكما شرعيا أو عقليا ، ويدل على ذلك وجهان :
    الاول : ان النافي جازم بالنفي فيكون مدعيا للعلم به ، فاما أن يكون علمه اضطرارا أو استدلالا ، والاول : باطل ، لأنا [ لا ] نعلم ذلك ، فتعين الثاني ويلزم من ذلك تعويله على مستنده ان كان معتقدا ، وابرازه ان كان مناظرا ، ليتحقق دعواه وليتمكن من تركيب الحجة على مناظره.
    الثاني : [ لو لم يلزم ] النافي اقامة الدلالة ، لزم من ذلك ( التفصي ) (2) من الأدلة في كل دعوى ، لكن ذلك باطل.
    وبيان ذلك : ان المدعي لقدم العالم إذا طولب بالدلالة ، عدل عن هذا اللفظ ، بأن يقول : ليس العالم بحادث ، فيسقط عنه الدليل ، لكن لو صح ذلك له ، لامكن خصمه أن يقول : ليس العالم بقديم ، فيسقط عنه الدليل أيضا ، و
1 ـ في نسخة : فيلزم.
2 ـ في بعض النسخ : التقضى.
معارج الاصول ::: فهرس