مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 11 ـ 20
(11)
المعدل الإلهي
وفيه فصول


(12)

(13)
    الفصل الأوّل
العدل الإلهي في الكتاب العزيز
    آيات الموضوع
    1. « شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لا إلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ لا إلهَ إِلا هُوَ الْعَزيزُ الحَكِيم » . (1)
    2. « ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيد » . (2)
    3. « إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً » . (3)
    4. « فَمَا كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكن كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون » . (4)
    5. « وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيّئاتُ ما عَمِلُوا » . (5)
    6. « وَمَا اللّهُ يُريدُظُلْماً لِلْعِباد » . (6)
1 ـ آل عمران : 18.
2 ـ آل عمران : 182.
3 ـ النساء : 40.
4 ـ التوبة : 70.
5 ـ النحل : 33 ـ 34.
6 ـ المؤمن : 31.


(14)
    وقبل أن نخوض في تفسير الآيات ، نشير إلى مقدمة ، وهي :
    إنّ العدلية تصف اللّه سبحانه بالعدل بالمعنى المتفق عليه بين العقلاء ، وبرهانها على ذلك هو انّ العقل قادر على تمييز الحسن عن القبيح ، والعدل عن الظلم ، واللّه سبحانه بما انّه حكيم لا يجور أبداً ، فهاهنا دعويان :
    الأُولى : انّ العقل له القابلية على تمييز الحسن عن القبح ، وانّ التحسين والتقبيح من الأُمور المنوطة بقضاء العقل.
    الثانية : إذا تبيَّن أنَّ العدل حسن والظُّلم قبيح فاللّه سبحانه موصوف بالعدل ، نزيه عن فعل الظلم. وإليك بيان كلا الدعويين.
    أمّا الدعوى الأُولى فتدلُّ عليها أُمور :

    الأوّل : التحسين والتقبيح من الأُمور البديهية
    إنّ التحسين والتقبيح من الأُمور البديهيَّة التي يدركها كلّ إنسان سليم الفطرة ، فمثلاً يدرك انّ العمل بالميثاق حسن ، والتخلّف عنه قبيح ، أو انّ جزاء الإحسان بالإحسان جميل ، وجزاءه بالسيّء قبيح. وهكذا سائر الأفعال التي توصف بالحسن والقبح.
    وموضوع قضاء العقل بالحسن والقبح هو نفس الفعل بما هوهو ، سواء أكان الفاعل واجباً أم ممكناً ، خالقاً أم مخلوقاً ، فيوصف الفعل من أي فاعل صدر بأحد الوصفين.
    وبعبارة أُخرى : كما أنّ مسائل الحكمة النظرية تنقسم إلى نظرية وبديهية ، ويستنبط حكم الأُولى من الثانية ، ولذلك عدّوا مسألة امتناع اجتماع النقيضين أو


(15)
ارتفاعهما من المسائل البديهية في الحكمة النظرية.
    فهكذا الأمر في الحكمة العملية فمسائلها تنقسم إلى بديهية وغير بديهية ، ويستنبط حكم الثانية من الأُولى.
    والتحسين والتقبيح من المسائل البديهية في الحكمة العملية ، وقد حازتا على اهتمام واسع نظراً لدورهما في استنباط سائر مسائل الحكمة العملية.
    ولأجل إيضاح المراد نقول : إنّ تحسين بعض الأفعال وتقبيحها من الأُمور البديهية للعقل ، ويدلّك على ذلك اتّفاق عامة العقلاء مع اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم على وصف أفعال بالحسن ، وأفعال أُخرى بالقبح ، نظير :
    أ : حسن العدل وقبح الظلم.
    ب : حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه.
    ج : حسن جزاء الإحسان بالإحسان و قبح جزائه بالسيّء.
    د : حسن الصدق وقبح الكذب.
    هـ : حسن أداء الأمانة وقبح الخيانة بها.
    إلى غيرها من الأُمور التي لا يختلف فيها اثنان ، وهذا يدل على أنّ تلك الأفعال موصوفة بالحسن والقبح بالبداهة ، وإلا لما اتفق عليه العقلاء كافة ، ولذلك قلنا : إنّ التحسين والتقبيح أمران عقليان.
    الثاني : إنكار إدراك العقل يلازم النفي مطلقاً
    لقد أنكرت الأشاعرة قابلية إدراك العقل حسنَ الأفعال وقبحها ، وذهبوا إلى أنّ القضاء بالتحسين والتقبيح بيد الشرع ، فكلّ ما أخبر بحسنه فهو حسن ،


(16)
وما أخبر بقبحه فهو قبيح ، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم بإنكارهم قابلية العقل لإدراك الحسن والقبح ، أثبتوا عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتى مع تصريح الشرع ، وذلك لأنّه إذا كان تمييز الحسن عن القبيح بيد الشرع دون العقل فإذا أخبر النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بحسن شيء وقبحه ، فمن أين نعلم أنّه يصدق في أخباره ولا يكذب ، والمفروض انّ العقل عاجز عن درك حسن الأوّل وقبح الثاني ؟ فلا يصحّ إثبات حسن شيء أو قبحه من خلال تصريح الشارع ، إلا أن يثبت قبلاً انّ الصدق حسن والكذب قبيح ، ويثبت انّه سبحانه نزيه عن فعل القبيح ، ولولا هذان الأمران لذهب الإخبار بحسن الشيء أو قبحه سدى.
    الثالث : لولا التحسين العقلي لما ثبتت شريعة
    لو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين يلزم عدم ثبوت شريعة من الشرائع السماوية ، حتى تثبت بها شريعة تحكم بحسن شيء أو قبحه ، وذلك لأنّ القائل بالتحسين والتقبيح العقليين ، يقول : إنّ حكمته سبحانه تصدّه عن تزويد الكاذب بالمعجزة ، فلو ادّعى رجل النبوة من اللّه وأتى بمعجزة عجز الناس عن مباراته ، فهي دليل على صدقه في دعوته.
    وأمّا إذا أنكرنا قدرة العقل واستطاعته على درك الحسن والقبح ، لكان باب احتمال تزويد الكاذب بالمعجزة مفتوحاً على مصراعيه ، وليس هنا دليل يردّ هذا الاحتمال فلا يحصل يقين بصدق دعواه.
    وهذه الأدلّة الثلاثة التي سردناها على وجه الإيجاز ، تُشرف القارئ على القطع بأنّ العقل له المقدرة على درك الحسن والقبح.هذا كلّه حول الدعوى الأُولى.


(17)
    وأمّا الدعوى الثانية وهي انّه بعد ما تبيَّن انّ العدل حسن ، والظلم قبيح ، فاللّه سبحانه موصوف بالعدل ومنزّه عن الظلم ، وذلك ، مضافاً إلى أنَّه سبحانه حكيم ، والحكيم يعدل ولا يجور ـ أنّ الجور رهن أحد أمرين ، إمّا الجهل بقبح العمل ، أو الحاجة إليه ، والمفروض انتفاء كلا المبدأين عنه سبحانه.
    وربما يقال إنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً عند الإنسان لا يلازم كونه كذلك عند اللّه ، فكيف يمكن استكشاف انّه سبحانه لا يفعل القبيح ؟
    والجواب عنه واضح لأنّ المدرَك للعقل هو حسن الفعل على وجه الإطلاق ، أو قبحه كذلك ، من دون أن تكون للفاعل مدخلية فيه سوى كونه فاعلاً مختاراً ، وأمّا كونه واجباً أو ممكناً فليس بموَثرٍ في قضاءالعقل. وعلى ذلك فإذا ثبت كون الشيء جميلاً أو قبيحاً فهو عند الجميع كذلك.

    شمولية عدله سبحانه
    يظهر من الآية الأُولى انّ عدله يعمُّ جميع شؤونه ، حيث يقول : « شَهِدَ اللّهُ أنّهُ لا إلهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولوا العلمِِ قائِماً بِالقِسْطِ » (1) فقوله : « قائماً » حال من لفظ الجلالة ، في قوله : شهد اللّه ، أو الضمير المنفصل ، أعني : إلا هو.
    والمتبادر منه أنّه سبحانه يجري العدل في عامة شؤونه في خلقه وتشريعه فهو عادل ذاتاً وفعلاً.
    وتشهد على ذلك مضافاً إلى شهادته سبحانه به ، شهادة الملائكة وأُولي العلم ، فكأنّ الآية تنحل إلى الجمل التالية :
1 ـ آل عمران : 18.

(18)
    1. « شهد اللّه انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط » .
    2. « شهدت الملائكة انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط » .
    3. « شهد أُولو العلم انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط » .
    فالآية تدلُّ على شهادته سبحانه على أمرين : (1)
    الأوّل : لا إله إلا هو ، لا نظير له.
    الثاني : انّه قائم بالقسط.
    ومن المعلوم انّ الشهادتين ليستا من مقولة الشهادة اللفظية ، وإنّما هي من مقولة الشهادة التكوينية ، ففعله سبحانه في عالم الخلقة يدل على أمرين :
    الأوّل : لا خالق ولا مدبّر إلا هو ، فانّ اتقان النظام ، وسيادته على جميع الكائنات من الذرّة إلى المجرّة ، لأوضح دليل على أنّ الخالق والمدبّر واحد ، وإلا لانفصمت عرى الانسجام والاتصال بين أجزاء الكون ، وقد أوضحنا في محلّه أنّ تعدّد العلة واختلاف السببين يستلزم اختلافاً في المسبب ، فلا يمكن أن يكون النظام الواحد معلولاً لفاعلين مدبّرين مختلفين في الحقيقة.
    الثاني : يشهد فعله سبحانه في عالم التكوين والتشريع انّه سبحانه عادل وقائم بالعدل.
    وأفضل كلمة قيلت في تعريف العدل هي ما روي عن علي ( عليه السّلام ) ، حيث قال :
     « العدل يضع الأُمور مواضعها » . (2)
1 ـ ما ذكرنا مبنيٌّ على أنَّ قيامه بالقسط منالمشهود به خلافاً للسيّدالطباطبائي حيث خصَّ الشهادة بالتوحيد.
2 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 437.


(19)
    بيان ذلك انّ لكلّ شيء وضعاً خاصاً يقتضيه إمّا بحكم العقل ، أو بحكم الشرع والمصالح الكلية في نظام الكون ، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط.
    نعم موضع كلّ شيء بحسبه ، ففي التكوين بوجه ، وفي المجتمع البشري بوجه آخر ، وهكذا. وبلحاظ اختلاف موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيانها ، إلا أنّ العدل بالنسبة إلى اللّه تعالى على أنحاء ثلاثة :
    1. العدل التكويني : وهو إعطاوَه تعالى كلّ موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود فلا يهمل قابلية ، ولا يعطل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.
    2. العدل التشريعي : وهو انّه تعالى لا يهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته ، وبه قوام حياته المادية والمعنوية الدنيوية ، والأُخروية ، كما أنّه لا يكلّف نفساً فوق طاقتها.
    3. العدل الجزائي : وهو انّه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد ، والمؤمن والمشرك ، في مقام الجزاء والعقوبة ، بل يُجزي كلّ إنسان بما كسب ، فيُجزي المحسن بالإحسان والثواب ، والمسيء بالإساءة والعقاب ، كما أنّه تعالى لا يعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلا بعد البيان والإبلاغ.
    وبذلك تبيَّن معنى الآية ، وشهادته سبحانه على كونه قائماً بالقسط في جميع الأنحاء.
    وأمّا شهادة الملائكة و أُولي العلم وذلك فبتعليم منه سبحانه.
    وأمّا سائر الآيات التي أوردناها في صدر الفصل ، فهي غنية عن التفسير ، لأنّها بصدد بيان أنّ العذاب في الدنيا والآخرة رهن عمل الإنسان ، فلو عُذّب فإنّما


(20)
هو لأجل القبائح والذنوب التي اقترفها ، يقول سبحانه : « ذلِكَ بِما قَدَّمَت أيديكُمْ وَأنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيد » . (1)
    وقال عزّ من قائل : « فََمَا كانَ اللّهُُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهم يَظْلِمُون » . (2)
    واللّه سبحانه لا يظلم عباده ولو جاء العبد بحسنة يضاعفها ، كما قال سبحانه : « وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُوَْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً » . (3)
    ولأجل إيضاح عدله سبحانه في عالم التكوين والتشريع نعطف النظر إلى آيات تدل على ذلك في الفصل التالي.
1 ـ آل عمران : 182.
2 ـ التوبة : 70.
3 ـ النساء : 40.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس