مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 31 ـ 40
(31)
    فهكذا الدعوة إلى الشريعة إذا كانت مقرونة بالشدة والضعف تنتج عكس المطلوب حيث لا تجد لها أُذناً صاغية ، بل يخرج الناس منها أفواجاً. ولأجل ذلك صدع النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بسهولة شريعته ، وقال : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة » . (1)
    10. دلّت الآيات القرآنية على أنّ التكليف على القدر المستطاع وقد أطبق عليه العقل والنقل ، إذ كيف يمكن تكليف الناس بأعمال ، كإدخال الشيء الكبير في الظرف الصغير ، من دون تغيّر في الظرف والمظروف ؟ أو التحليق في الهواء دون وسيلة ، إلى غير ذلك من الأُمور الممتنعة التي تدخل في نطاق التكليف بما لايُطاق ، حتى أنّ محقّقي العدلية ذهبوا إلى أنّ هذا النوع من التكليف المحال ، بمعنى أنّه لا ينقدح في ذهن الآمر ، الطلب والإرادة الجدية المتعلِّقة ببعث العاجز إلى المطلوب ، ولو تظاهر به فإنّما تظاهر بظاهر التكليف لا بواقعه.
    فتكون النتيجة : انّامتناع المكلف به يلازم امتناع نفس التكليف أيضاً ، يقول سبحانه : « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفساً إِلا وُسْعها » . (2)
    وقال في آية أُخرى : « لا يُكلِّفُ اللّهُ نَفساً إِلا ما آتاها » . (3)
    ومضمون كلتا الآيتين واحد ، وهو أنّاللّه يكلّف الإنسان بقدر طاقته وقابليته.
    هذه نماذج استعرضناها لإثبات أنّ التشريع الإسلامي يتمتّع بمرونة ، وأنّه مبنيٌّ على أساس العدل.
    وفي الحقيقة انّ التشريع الإسلامي من مظاهر عدله في هذا المجال.
1 ـ سفينة البحار : 1/695.
2 ـ البقرة : 286.
3 ـ الطلاق : 7.


(32)
    الأشاعرة والتكليف بما لا يطاق
    ذهب لفيف من متكلّمي الإسلام ـ و للأسف الشديد ـ إلى جواز التكليف بما لا يطاق ، ولم يُصغوا لنداء العقل ولا الشرع ، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحّة التكليف بما لا يطاق.
    وقد اتَّخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذاالمجال ، و ها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلّى الحق.
    1. « الّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ * أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزين َفِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ من أَولياءَ يُضاعََفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون » . (1)
    استدل الإمام أبو الحسن الأشعري ( 260 ـ 324 هـ ) على أنَّّهم كانوا مكلَّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يُبصرون ، فدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق.
    وهذا الاستدلال يتبدَّد بالتوضيح التالي :
    وهو أنَّهم وإن كانوا مأمورين مكلّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقروناً بهم منذ بلوغهم وتكليفهم ، وإنّما أدّى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والأبصار ، فقد سُلِبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها ، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها ، وآذان لا يسمعون بها ، يقول سبحانه : « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئكَ كالأَنْعامِ بَلْ هُمْ
1 ـ هود : 19 ـ 20.

(33)
أَضَلّ » . (1)
    إنّ التمادي في المعصية والإصرار عليها يترك انطباعات سيِّئة في القلوب على وجه يتجلّى الحسن سيّئاً والسيّء حسناً ، يقول سبحانه : « ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الّذينَ أَساءُوا السُّوأى أنْ كذَّبوا بآياتِ اللّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزءُونَ » . (2)
    فالآية تصرح بأنّ اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات اللّه.
    فتحصل من ذلك أنّ عدم استطاعتهم للسماع والإبصار كان نتيجة قطعية لأعمالهم السيئة ، كما يقول سبحانه : « وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أصْحابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهمْ فَسُحقاً لأَصحابِ السَّعيرِ » . (3)
    2. « وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عرَضَهُمْ عَلى المَلائِكةِ فَقالَ أَنْبئونِي بِأَسْماءِ هؤلاءِ إِنْ كُنتُمْ صادِقين * قالُوا سُبحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلا ما عَلَّمْتَنا إِنَّك أَنْتَ الْعَليمُ الحَكيم » . (4)
    استدلّ الإمام الأشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال : فقد أمروا بالإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.
    ولكن غاب عنه أنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب ، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات ، فتارة تكون الغاية من الإنشاء ، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً ، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه ، و تشترط فيه القدرة والاستطاعة ، وأُخرى تكون الغاية أُموراً
1 ـ الأعراف : 179.
2 ـ الروم : 10.
3 ـ الملك : 10 ـ 11.
4 ـ البقرة : 31 ـ 32.


(34)
غيره ، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي ، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة ، وكالتسخير في قوله سبحانه : « كُونُوا قِرَدَةً خاسِئين » (1) والإهانة مثل قوله : « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الكَريم » (2) ، أو التمنّي مثل قول أمرئ القيس في معلّقته :
ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلي بصُبحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأمثلِ

    إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.
    3. « يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خاشِعَةًً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلئ السُّجُُودِ وَهُمْ سالِمُونَ » . (3)
    استدلّ بها الشيخ الأشعري على مقصوده ، وقال : إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون ، جاز ذلك في الدنيا.
    والحقّ أنّ الإمام الأشعري وأتباعه لا سيما الفطاحل منهم أجلُّ من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها ، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جدّ وإرادة حقيقة ، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا ، والآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع والامتثال ، وعند العجز ـ بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأُمّ أعينهم ـ همّوا بالسجود ولكن أنّى لهم ذلك.
    وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة :
    أ : « يوم يُكشف عن ساق » كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه ، لأنّ الإنسان
1 ـ البقرة : 65.
2 ـ الدخان : 49.
3 ـ القلم : 42 ـ 43.


(35)
عند الشدة يكشف عن ساقه ويخوض غمار الحوادث.
    ب : « ويُدعون إلى السجود » لا طلباً وتكليفاً جدياً ، بل لازدياد الحسرة ، فلا يستطيعون ، إمّا لسلب السلامة عنهم ، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم.
    ج : « وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون » والمعنى أنّهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا امتنعوا عنه مع صحّة أبدانهم ، وهؤلاء يُدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون ، وما ذلك إلا لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرَّطوا.
    4. « وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ فتَذَرُوها كَالمُعلّقَةِ وإن تُصْلِحُوا وتَتَّقُوا فَإنّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً » . (1)
    وقد استدل بها الشيخ الأشعري على ما يروم من جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال : وقد أمر اللّه تعالى بالعدل ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يُعدل. (2)
    أقول : لا شكّ أنّه سبحانه أمر من يتزوج بأكثر من واحدة بإجراء العدالة بينهنّ ، قال سبحانه : « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تعْدِلُوا فَواحِدَة » (3) وفي الوقت نفسه صرَّح في آية أُخرى بأنَّ إجراء العدالة بينهنّ ، أمر غير مقدور ، ومع ذلك نهى عن التعلّق بواحدة منهن والإعراض عن الأُخرى حتى تُصبح كالمعلّقة لا متزوجة ولا مطلقة.
    وبالتأمل في الآية يظهر بأنّ العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها ، فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة ، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من الحقوق
1 ـ النساء : 129.
2 ـ لاحظ الاستدلال بهذه الآيات في كتاب اللمع للإمام الأشعري : 99 ـ 114.
3 ـ النساء : 3.


(36)
الزوجية التي تقع على عاتق الزوج ويقوم بها بجوارحه ولا صلة لها بباطنه.
    وأمّا غير المستطاع فهي المساواة في قسمة الحب بينهنّ لأنّ الباعث لها هو الوجدان والميل القلبي وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ، لأنّه رهن أُمور خارجة عن الاختيار.

    مظاهر العدل الإلهي في تنفيذ العقوبات
    قد مضى أنّ لعدله سبحانه مظاهر في التكوين والتشريع ، ومن مظاهر عدله في التشريع أنّه لا يساوي بين المطيع والعاصي ، والمسلم والمجرم ، والمؤمن والمفسد ، و لذلك صار يوم البعث مظهراً لعدله سبحانه بحيث لو لم يكن ذلك اليوم الموعود لما ظهر عدله في مجال الجزاء ، وبذلك أصبح يوم القيامة أمراً لا مفرّ منه لظهور عدله فيه ، وتشير آياتٌ كثيرة إلى هذا المضمون :
    1. « أَمْ نَجْعَلُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالمُفْسِدينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقينَ كَالفُجّارِ » . (1)
    2. « أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمينَ كالْمُجِرمينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون » . (2)
    وهاتان الآيتان تدلاّن على أنَّ التسوية بين الطائفتين على خلاف العدل ، فلا محيص من إحقاق الفرق ، وبما انّ الطائفتين يتعامل معهما في الدنيا على نحو سواء فلابدّ من تحقيقه في يوم ما وليس هو إلا يوم القيامة ، ويعرب عمّا ذكرناه قوله سبحانه : « إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إنّهُ يَبْدوَُُ الخَلقَ ثُمّ يُعيدُهُ لِيجزيَ
1 ـ ص : 28.
2 ـ القلم : 35 ـ 36.


(37)
الّذينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ بالقِسْطِ وَالّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَميمٍ وعَذابٌ أَليمٌ بِما كانوا يَكْفُرُون » . (1)
    ثمّ إنّه سبحانه يحقّق عدله يوم القيامة بوضع موازين القسط ليجزي كلّ نفس بما كسبت ، يقول سبحانه :
     « وَنَضَعُ المَوازينَ القِسْط لِيَومِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَردلٍ أتَيْنا بِها وََكَفى بِنا حاسِبينَ » . (2)
     « وَالوَزْنُ يَوَْْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازينُهُ فَأُولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَمَنْ خَفّت مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظلِمُون » . (3)
    هذه إلمامة عابرة لبيان مظاهر عدله في مجالات مختلفة ، والسابر في آيات القرآن الكريم يجد آيات كثيرة في مجال عدله سبحانه.
1 ـ يونس : 4.
2 ـ الأنبياء : 47.
3 ـ الأعراف : 8 ـ 9.


(38)
    الفصل الرابع
العدل الإلهي
وفاعلية الإنسان
    قد تعرفت على مظاهر عدله في التكوين والتشريع ، وحان البحث في بيان باقي المباحث التي لها صلة بالعدل الإلهي ، وهي تتمحور حول فاعلية الإنسان ، ونقاطها الرئيسية هي :
    1. العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية.
    2. العدل الإلهي وعلمه السابق بأفعال العباد.
    3. العدل الإلهي والقضاء والقدر القطعيان.
    4. العدل الإلهي وخلود العقاب.
    وقد تناول الحكماء والمتكلّمون هذه الأبحاث من زوايا مختلفة واحتدم النقاش حولها ، وبما أنّ رائدنا في هذه البحوث هو القرآن الكريم فنحن نتناولها من ذلك الجانب ونترك جوانبها الأُخرى إلى الكتب المعدّة في هذا المجال.


(39)
    العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية
    البحث عن حرية الإرادة ، وأنّ الإنسان هل هو فاعل مجبور أو فاعل مختار ؟ من المسائل الفلسفية الّتي تمتد جذورها في تاريخ الفكر الإنساني ، ومنذ ذلك الحين اتجهت أنظار كافة الناس صوبها لأنّها تمسّ جانباً من حياتهم العملية ، وبذلك أصبحت دراسة تلك المسألة لا تقتصر على الحكماء فحسب بل شملت أكثر الناس.
    إنّ الرؤية القرآنية تتلخص في أنّ الإنسان حرّ فيما شاء وأراد ، وهي تشطب بقلم عريض على مزعمة المشركين بتعلّق مشيئة اللّه سبحانه بعبادتهم الأوثان ولذلك صاروا مجبورين على الشرك. يقول سبحانه في ردّ تلك المزعمة : « سَيَقُولُ الّذينَ أَشْرَكُوا لَو شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباوَُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إن تَتَّبِعُونَ إِلا الظََّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ » . (1)
    فهذه الآية تعكس لنا بوضوح جانباً من عقيدة المشركين في عصر الرسالة وانّهم كانوا يؤمنون بالجبر ، وإنّ كلّ ما يصدر منهم فهو خاضع لإرادته سبحانه إرادة سالبة للاختيار.
    ويقول سبحانه في موضع آخر مبيّناً تلك العقيدة الفاسدة : « وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءنا وَاللّهُ أمََرنا بِها قُل إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون » . (2)
1 ـ الأنعام : 148.
2 ـ الأعراف : 28.


(40)
فإنّ الفقرة الأُولى من الآية تعكس عقيدة المشركين وأنّه لولا أمره ومشيئته لما كنّا مشركين ، لكن الفقرة الثانية تردُّ عليها ببيان أنّ الشرك ظلم وقبيح ، واللّه لا يأمر بهما ، وبالتالي لا تتعلق مشيئته بهما.
    والعجب أنّ تلك العقيدة السخيفة لم تُجْتثّ بل بقيت عالقة في أذهان عدّة من الصحابة حتى بعد بزوغ نجم الإسلام.
    روى السيوطي عن عبد اللّه بن عمر : انّه جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال : أرأيت الزنا بقدر ؟
    قال : نعم. قال : فإنّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذِّبني ؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (1)
    وليس الخليفة الأوّل وحده ممن كان يحتج بالقدر السالب للاختيار ، بل كان غيره على هذه الفكرة. روى الواقدي عن أُم الحارث الأنصارية ، وهي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين ، قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً ، فقلت : ما هذا ؟ فقال عمر : أمر اللّه. (2)
    نرى أنّ عمر يلجأ إلى أمر اللّه وقضائه ، وأنّ الهزيمة كانت أمراً قطعياً لأنّه سبحانه شاءها وأرادها ، دون أن ينظر إلى سائر الأسباب التي حدت بهم إلى تلك الهزيمة.
    لقد اتخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيِّئة وكانوا ينسبون وضعهم بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر ، قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها. (3)
1 ـ تاريخ الخلفاء : 95.
2 ـ مغازي الواقدي : 3/904.
3 ـ الأوائل : 2/125.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس