مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 71 ـ 80
(71)
لا تتأثر بالزلازل إلا القليل.
    وبذلك تبيَّن انّ ما يسميه البشر بالبلايا والمصائب ليس على إطلاقها بلاءً بل لها فوائد وآثار اجتماعية وأخلاقية مهمة.
    وإليك الكلام في المحور الثاني.

    الثاني : اختلاف الناس في المواهب العقلية والاستعدادت
    إنّ الاختلاف في الاستعدادات أساس النظام وبقاء الحضارة ، فلو خلق الناس على استعداد واحد لانفصم النظام وتقوّضت أركانه.
    يقول الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السّلام ) : « لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا » . (1)
    فالمجتمع الإنساني يزهو باستعدادات مختلفة كلّ يتحمل مسؤولية في المجتمع ، فمقتضى الحكمة خلق الناس بمواهب مختلفة كي يقوم كلّ حسب استعداده ، و مثل هذا يؤكد الحكمة ولا ينافي العدل.
    وإنّما يلزم الجور إذا كانت هناك طوائف متنعمة بكافة المواهب ، وطوائف أُخرى محرومة منها ، ولكن الواقع خلاف ذلك.

    الثالث : الفواصل الطبقية بين الناس
    لا شكّ انّ المجتمع الإنساني يضمّ في طياته طبقات اجتماعية مختلفه من حيث الفقر والغنى ، فهناك طبقة تهلكها التخمة ، وطبقة أُخرى تموت جوعاً ، وقد
1 ـ أمالي الصدوق : 267.

(72)
عدّ ذلك مظهراً لخلاف عدله. ولكن الحقّ غير ذلك ، فالإنسان الجاهل ينسب تلك المحنة إلى خالق الكون ، مع أنّ الصواب أن ينسبه إلى نفسه ونتيجة عمله ، فانّ الأنظمة الجائرة هي التي سبَّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث ، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على أُسس إلهية لما تعرض البشر لها.
    يقول الإمام الصادق ( عليه السّلام ) في حديث : « إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم إنّهم لم يوَتوا من قبل فريضة اللّه عزّوجلّ (1) ولكن أوتوا مِن منع مَن مَنعهم حقّهم لا ممّا فرض اللّه لهم ، ولو أنّ النّاس أدّوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير » . (2)
    إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة انّ الظواهر غير المتزنة حسب النظرة السطحية متزنة بالقياس إلى مجموع النظام ولها آثار اجتماعية وتربوية هامة قد بسطنا الكلام فيها في بعض مسفوراتنا.
1 ـ اي لم يؤتوا عدم السعة من قبل فريضة اللّه بل مِن منع مَن منعهم.
2 ـ الوسائل : 6 ، الباب 1 من أبواب ماتجب فيه الزكاة ، الحديث 1.


(73)
    الفصل السابع
العدل الإلهي
والعقوبة الأُخروية
    لقد وقعت العقوبات الأُخروية ذريعة لإنكار عدله ، حيث يقولون ما هو الغرض من العقوبة ، فهل هو التشفّي الذي جاء في قوله سبحانه : « وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنّهُ كانَ مَنْصُوراً » (1) واللّه سبحانه منزّه من هذا الغرض لاستلزامه طروء الانفعال على ذاته.
    أو الغرض من العقوبة الأُخروية هو اعتبار الآخرين ، الذي يشير إليه سبحانه في قوله : « الزّّانِيَةُ والزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وليَشْهَدْ عَذابَهُمَا طائِفَةٌ مِنَ المؤمِنِينََ » . (2)
    ومن المعلوم أنّ تلك الغاية تختص بالدنيا التي هي دار التكليف ولا توجد في دار الجزاء ، أعني : الآخرة.
    والجواب : انّ السؤال عن الغاية وانّها هل هي التشفِّي أو اعتبار غيره ، إنّما
1 ـ الإسراء : 33.
2 ـ النور : 2.


(74)
يتوجه إلى العقوبات المفروضة عن طريق التقنين والتشريع ، فالتعذيب في ذلك المجال رهن إحدى الغايتين : التشفّي أو الاعتبار.
    وأ مّا إذا كانت العقوبة أثراً وضعيّاً للعمل فيسقط السؤال ، لأنّ هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم والعقوبة التي تلابس وجودَه في الحياة الأُخروية ، فعند ذلك لا يصحّ السؤال عن حكمة التعذيب ، وإنّما هي تتوجه إلى التعذيب الذي يمكن التفكيك بينه و بين المجرم كالعقوبات الوضعية.
    وأمّا إذا كانت العقوبة من لوازم وجود الإنسان الأُخروي ، فالسؤال عن التعذيب ، ساقط جداً.
    توضيح ذلك : انّ الإنسان إنّما يحشر بذاته وعمله ، وعمله لازم وجوده وكلّ ما اقترف من الأفعال فله وجود دنيوي ، يتجلّى باسم الكذب والنميمة ، وله وجود أُخروي يتجلّى بالوجود المناسب له ، فهكذا أعماله الصالحة فلها صورة دنيوية ، باسم الأذكار ، وصورة أُخروية تناسب وجود الإنسان في هذا الظرف.
    فالصوم هنا إمساك ، وفي الحياة الأُخروية جُنَّة من النار ، وهكذا سائر الأعمال من صالحها وطالحها ، فلها وجودان : دنيوي وأُخروي ، وإليك ما يدلُّ على ذلك في القرآن الكريم.
    يقول سبحانه : « إِنّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَموالَ اليَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً » . (1)
    ويقول سبحانه : « وَلا يَحْسَبَنَّ الّذينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونََ ما بَخِلُوا بِهِ يَومَ القِيامة » . (2)
1 ـ النساء : 10.
2 ـ آل عمران : 180.


(75)
    وقال سبحانه : « يَومَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُون » . (1)
    على أنّ تعذيب المجرم وإثابة المحسن مظهر من مظاهر عدله ، فلو لم يعاقب المجرم تلزم تسوية المؤمن والكافر ، يقول سبحانه : « أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمينَ كالمُجْرِمينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون » (2) ويقول أيضاً : « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وأنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرجَعُون » . (3)

    شبهة عدم التعادل بين الجريمة والعقوبة
    وربما يقال كيف يصحّ الخلود الدائم مع كون الذنب منقطعاً ، وهل هذا إلا نقض للمساواة المفروضة بين الجريمة و العقوبة ؟!
    والجواب عن الشبهة بوجهين :
    الأوّل : انّه لم يدل دليل على وجوب المساواة بين الجرم والعقوبة من حيث الكمِّية ، بل المراد المساواة في الكيفية أي عظمة الجرم ، فربما يكون الجرم آناً واحداً وتتبعه عقوبة دائمة ، كما إذا قتل إنساناً وحكم عليه بالحبس المؤبد.
    فالإنسان المقترف للذنوب وإن خالف ربه في زمن محدد ، لكن آثار تلك الذنوب ربما تنتشر في العالم.
    الثاني : قد عرفت أنّ العذاب الأُخروي تجسيد للعمل الدنيوي وهو المسؤول عمّا اقترفه.
    وقد عرّفه سبحانه نتيجة عمله في الآخرة وانّ أعماله المقطعية سوف تورث
1 ـ التوبة : 35.
2 ـ القلم : 35 ـ 36.
3 ـ المؤمنون : 115.


(76)
حسرة طويلة أو دائمة ، وأنّ عمله هنا سيتجسَّد له في الآخرة ، أشواكاً تؤاذيه أو وروداً تطيبه ، وقد أقدم على العمل عن علم واختيار ، فلو كان هناك لوم فاللوم متوجه إليه ، قال سبحانه حاكياً عن الشيطان : « وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأََمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فلأ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيِّ إنّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إنَّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » . (1)
    وفيما مرّ من الآيات التي تعد الجزاء الأُخروي حرثاً للإنسان تأييد لهذا النظر ، على أنّ من المحتمل أنّ الخلود في العذاب مختص بما إذا بطل استعداد الرحمة وإمكان الإفاضة ، قال تعالى : « بَلى من كَسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتهُ فَأُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون » . (2)
    ولعلّ المراد من قوله : « وأحاطت به خطيئته » إحاطتها به إحاطة توجب زوال أيَّة قابلية واستعداد لنزول الرحمة ، والخروج عن النقمة.
    وكيف كان فتظهر صحّة ما ذكرنا إذا أمعنت النظر فيما تقدم في الجواب عن السؤال الأوّل وهو أنّ الجزاء إمّا مخلوق للنفس أو يلازم وجود الإنسان وفي مثله لا تجري شبهة التعادل بين الجريمة والعقوبة كما هو واضح.
    تمّ الكلام في الأصل الأوّل من أُصول المذهب ، أعني : العدل الإلهي وركّزنا البحث فيه على الموضوعات التي تطرقت إليها الآيات القرآنية. ومن أراد التبسيط فليرجع إلى الكتب المفصَّلة في هذا الصدد.
    ويليه البحث في الأصل الثاني وهو الإمامة والخلافة في الكتاب العزيز.
1 ـ إبراهيم : 22.
2 ـ البقره : 81.


(77)
الإمامة والخلافة


(78)

(79)
الإمامة والخلافة
    قد تقدّم في صدر الكتاب انّ هناك أصلين انفرد بهما مذهب الشيعة الإمامية ، ولذلك يُعدّان من أُصول المذهب ، دون أُصول الدين ، لأنّ الثاني عبارة عن الأُصول التي يشترك فيها جميع المسلمين بخلاف أُصول المذهب ، فانّها من خصوصيات مذهب دون مذهب آخر ، وقد تقدّم انّ التوحيد والمعاد والنبوة العامة والخاصة ممّا اتفقت عليه عامة المسلمين دون العدل والإمامة ، فالأوّل قالت به المعتزلة والشيعة ، والثاني انفردت به الشيعة وبالأخص الإمامية منهم ، وقد فرغنا عن بيان العدل ودلائله و شبهاته و حلولها ، فحان البحث في الأصل الثاني وهو الإمامة والخلافة.
    وليُعلم انّ أصل الإمامة ممّا اتّفقت عليه كلمة المسلمين إلا بعض الفرق الشاذة ، فالجميع على لزوم وجود إمام يقود الأُمة إلى الصلاح والفلاح ، ويقوم بإدارة البلاد على أفضل وجه ، ويُطبّق الشريعة على صعيد الحياة إلى غير ذلك ممّا كان النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) يقوم به. وهذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين.
    إنّما الكلام في أنّ تعيين النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ونصبه لهذا المنصب ، هل هو بيد اللّه سبحانه وبذلك يُعَدُّ منصب الإمامة كالنبوة ، منصباً إلهياًً ؟ أو بيد الأُمَّة أو بعضهم فتصير الإمامة منصباً اجتماعياً كسائر المناصب الاجتماعية أو السياسية التي يقوم


(80)
به آحاد الأُمَّة أو طبقة منهم ؟
    فالإمامية عن بكرة أبيهم على القول الأوّل ، حيث يرون انّ نصب الإمام بيد اللّه تبارك وتعالى ويسوقون على ذلك دلائل عقلية وتاريخية ، كما أنّ أهل السنة على القول الثاني ، وبذلك تجاذب تيّاران مختلفان الأُمَّة الإسلامية.
    بما انّ أهل السنة يرون الإمامة منصباً اجتماعياً أو سياسياً ، قالوا بأنّ الإمامة من فروع الدين لا من أُصوله ، وهي من أغصان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك لأنّ تحقيق ذلك الأصل في المجتمع ، أي إشاعة المعروف وتحجيم دور المنكر يتوقف على وجود إمام عادل مبسوط اليد يتمتع بنفوذ على نطاق واسع ، ولذلك يجب على الأُمّة نصب إمام بغية تحقّق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإليك سرد كلماتهم في هذا المجال :
    1. يقول الإيجي ( المتوفّى عام 757 هـ ) في كتاب « المواقف » : وهي عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا. (1)
    2. يقول سعد الدين التفتازاني ( المتوفّى عام 791 هـ ) : لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات ، ولا خفاء انّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية. (2)
    وعلى هذا فالإمامة أمر لا يناط به الإيمان والكفر ، بل موقفه كسائر الأحكام الشرعية الفرعية التي لا يكفر المنكر إلا إذا استلزم إنكارهُ إنكارَ الرسالة والنبوة لنبينا ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ). فلا فرق بين مسألة الإمامة ، ومسألة المسح على الخفين حيث أصبحت
1 ـ المواقف : 395.
2 ـ شرح المقاصد : 2/271.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس