مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 121 ـ 130
(121)
ذكر هذا الدعاء إلا بتنصيب علي ( عليه السّلام ) مقاماً شامخاً يؤهله لهذا الدعاء.
    القرينة الثالثة : أخذ الشهادة من الناس ، حيث قال ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : « ألستم تشهدون أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله » فانّ وقوع « من كنت مولاه » في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة والمعاد ، يُحقق كون المراد الإمامة والخلافة الملازمة للأولوية على الناس.
    القرينة الرابعة : التكبير على إكمال الدين حيث لم يتفرقوا بعد كلامه حتى نزل إليه الوحي ، بقوله تعالى : « اليوم أكملت لكم دينكم » فقال رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي ، فبأي معنى يكمل به الدين وتتم به النعم ويرضى به الرب في عداد الرسالة ، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.
    القرينة الخامسة : نعى النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) نفسه إلى الناس حيث قال : « كأنِّي دعيت فأجبت » ، وفي نقل آخر انّه يوشك أن أُدعى فأُجيب ، وهو يعطي هذا الانطباع انّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) قد بلّغ أمراً مهمّاً كان يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشارة إليه ، وهو يعرب عن كون ما أشار إليه في هذا المحتشد هو تبليغ أمر مهم يخاف فوته وليس هو إلا الإمامة.
    القرينة السادسة : الأمر بإبلاغ الغائبين حيث أمر في آخر خطبته بأن يبلغ الشاهد الغائب ، فلو لم يكن هذا الأمر الإمامة فما معنى هذا التأكيد ؟!
    إلى غير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا الأميني في غديره. (1)
    وقد أفرغ أُدباء الإسلام حديث النبي في قالب الشعر ، فترى أنّهم يعبرون عن
1 ـ الغدير : 370/1 ـ 383.

(122)
حديث الغدير بقرائضهم وقصائدهم ، وفي ذلك دلالة باهرة على أنّ المراد من المولى هي الأولوية ، وها نحن نذكر شيئاً ممّا أنشد في عصر الرسالة أو بعده وراء مانقلناه عن حسان بن ثابت.
    قال علي ( عليه السّلام ) في أُرجوزته :
وأوجب لي ولايته عليكم رسول اللّه يوم غدير خم (1)
    وقال قيس بن سعد بن عبادة ذلك الصحابي العظيم :
وعليٌّ إمامنا وإمامٌ يوم قال النبيُّ من كنت مولا لسوانا أتى به التنزيلُ ه فهذا مولاه خطبٌ جليلٌٌ (2)
    إنّ داهية العرب عمرو بن العاص أنشد قصيدة طويلة معروفة بالجلجلية معترضاً فيها على معاوية حيث لم يف بما وعده ، وجاء فيها ما يلي :
وكم قد سمعنا من المصطفى وفي يوم خم رقى منبراً فأنحله إمرة المؤمنين وصايا مخصّصة في علي يُبلّغ والركب لم يرحلِ من اللّه مُستخلف المنحلِِ (3)
    إلى غير ذلك من القصائد والمنظومات والأراجيز لأُدباء العصر وشعراء الإسلام الَّذين يحتجّ بقولهم وكلماتهم ، فقد صَبُّوا حديث الغدير في قرائضهم ولم يفهم الجميع منها إلا الأولوية ، كأولوية الرسول التي هي مناط الإمامة والخلافة ، فلو لم يكن القائد أولى من المقود لما كان لكلامه نفوذ.
    وفي الختام نذكر نزول آية إتمام النعمة في حقّ علي ( عليه السّلام ) ليُعلم أنّ حديث
1 و 2 و 3 ـ الغدير : 2/25 و 67 و 115.

(123)
الغدير محفوف بآيتين : آية قبل النزول وهي آية التبليغ ، وآية بعده وهي آية الإكمال ، قال سبحانه : « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً » .
    أصفقت الإمامية عن بكرة أبيهم على نزول هذه الآية الكريمة حول نص الغدير بعد أصحار النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بولاية مولانا أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) بألفاظ درّية صريحة ، فتضمَّن نصّاً جليّاً عرفته الصحابة وفهمته العرب فاحتج به من بلغه الخبر ، وصافق الإماميَّة على ذلك كثيرون من علماء التفسير وأئمة الحديث وحفظة الآثار من أهل السنة ، وهو الذي يساعده الاعتبار ويؤكّده النقل الثابت في تفسير الرازي ( 529/3 ) عن أصحاب الآثار : انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) لم يُعمّر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين ، وعيَّنه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي : ( 523/3 ) وذكر الموَرخون منهم : انّ وفاته ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، وكأنّ فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين وثمانين يوماً بعد إخراج يومي الغدير والوفاة.
    وعلى أي حال فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة ، كما جاء في صحيحي البخاري و مسلم وغيرهما لزيادة الأيام حينئذ ، على أنّ ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها. (1)
    وقد أُثيرت حول الاستدلال بالآية إشكالات من قبل الإمام الفخر الرازي ( 543 ـ 608 هـ ) في تفسيره الكبير. (2)
1 ـ الغدير : 230/1.
2 ـ التفسير الكبير : 26/12. وقد أجبنا عن هذه الأسئلة بتفصيل في مقال خاص طبع في كتاب رسائل ومقالات ، لاحظ ص 568 ـ 575 من الكتاب المذكور.


(124)
    تمّ البحث حول الإمامة والخلافة ،
وكما ذكرنا في المقدّمة لمّا كان
بين الإمامة والتعرف على أهل البيت عليهم السلام
صلة وثيقة عقدنا فصلاً حول أهل البيت
في القرآن الكريم يتناول سماتهم و
حقوقهم عليهم السلام


(125)
أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم
    لقد حاز أهل البيت عليهم السلام على أهمية بالغة في القرآن الكريم ، وأشار إليهم في غير واحد من آياته ببيان سماحتهم ، وحقوقهم ، وما يمت إليهم بصلة ، لا سيما آية التطهير المعرفة بين المسلمين ، أعني : قوله سبحانه : « إِنّما يُريدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً » .
    ولأجل أهمية الموضوع ألّف غير واحد من علماء الفريقين كتباً ورسائل حوله ، أفاضوا فيها الكلام حول هوية أهل البيت ومناقبهم وفضائلهم.
    وقد استرعى انتباهي في الفترة الأخيرة كتابان حول أهل البيت : أحدهما : « حقوق أهل البيت عليهم السلام » لابن تيمية ( المتوفّى عام 728 هـ ) ، والآخر : « الشيعة وأهل البيت » للكاتب المعاصر إحسان إلهي ظهير حيث بذلا الوسع لبيان نزول الآية في نساء النبي صلي الله وعليه واله والكاتب الثاني أشدّ بخساً في هذا المجال. وقد أنصف الكتاب الأوّل بعض الإنصاف.
    هذا وذاك مّما دعاني إلى تبيين هوية أهل البيت من خلال القرائن الموجودة في الآية والروايات المتضافرة ، مضافاً إلى بيان سماتهم وحقوقهم عسى أن يجبر بعض ما هضم من حقوقهم في ذينك الكتابين خصوصاً الكتاب الأخير.
    وأود أن أشير في الختام إلى نكتة وهي انّ آية التطهير لحنها الحن الثناء والتمجيد على أهل البيت عليهم السلام في حين انّ لحن الآيات الواردة في نساء النبي صلي الله وعليه واله النصح والوعظ تارة ، والتنديد والتوبيخ أُخرى.


(126)
    أمّا الأوّل في الآيات الواردة في سورة الأحزاب.
    يقول سبحانه : « يا أَُيها النَّبيُّ قُل لأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدُّنيا وَزِينتَها فَتعأليْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسرِّحْكُنَّ سَراحاً جَميلاً » (1) « يا نِساءَ النَّبيّ مّنْ يَأتِ منُكُنَّ بِفاحِشة مُبيّنةٍ يُضاعَف لَها العَذابُ ضِعْفَينِ وَكانَ ذلِكَ عَلى الله يَسيراً » (2)
     « يا نِساءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأحَدَ منَ النِّساءِ إِن اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِه مرَضٌ وَقُلْنَ قَولاً مَعْرُوفاً » (3)
     « وَقَرَنَ فِي بُيُوتكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليّةِ الأُولى وَأَقمّنَ الصَّلاةَّ وَآتِينَ الزَّكاةَ وأَطِعْنَ الله ورَسولَهُ » (4)
    وأمّا الثاني أي التنديد والتوبيخ ففي الآيات الواردة في سورة التحريم :
     « يا أُيّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمّ ما أَحلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مرَضاةَ أَزْواجِكَ والله غَفُورٌ رَحيم » (5).
     « إن تَتُوبا إلى الله فَقَد ضَغَتُ قُلُوبُكُما وَإنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإٍنَّ الله هُوَ مَولاُه وجِبْريلُ وصَالحُ الْمؤْمِنِينَ والمَلائِكَةُ بَعَدَ ذلِكَ ظَهِير » (6)
     « عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقْكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيراً مِنْكَنَّ مُسْلِماتٍ مؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيَّباتٍ وَأَبْكاراً » (7)
    فأُمهات المؤمنين كسائر الصحابيات لهنّ من الفضل ما لغيرهنّ ، ولكن آية التطهير بلغت من الثناء على أهل البيت بمكان تأبى من الانطباق عليهن بما عرفت لهنّ من السمات في الآيات وستوافيك دلالة الآية على عصمة أهل البيت وتنزيههم من الزلل والخطأ.
1 ـ الاحزاب : 28.
2 ـ الاحزاب : 30.
3 ـ الأحزاب : 32.
4 ـ الاحزاب : 33.
5 ـ الحريم : 1.
6 ـ التحريم : 4.
7 ـ التحريم : 5.


(127)
أهل البيت ( عليهم السّلام )
سماتهم وحقوقهم
    لقد وردت لفظة « أهل البيت » مرّتين في القرآن الكريم.
    قال سبحانه حاكياً عن لسان الرسل : « قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أمرِ اللّهِ رَحمةُ اللّهِ وبَركاتُهُ عَلَيْكُمْ أهلَ البَيْتِ إنّهُ حَمِيدٌ مَجِيد » . (1)
    وقال تعالى : « وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَّ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى وأقِمْنَ الصلاةَ وآتِينَ الزكاةَ واطِعْنَّ اللّهَ ورَسُولَهُ إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُم تَطهِيراً » . (2)
    فالآية الأُولى تخاطب أهل بيت خليل اللّه عند ما جاءتهم الرسل فبشّروا امرأته بإسحاق ومن وراء إسحاق بيعقوب.
    ولمّا كانت هذه البشارة على خلاف السنن الكونية حيث كان الخليل شيخاً وزوجته طاعنة في السن ، فلذلك تعجبت وقالت مخاطبة الرسل : « يا وَيْلَتي ءَأَلِدُ وأنَا عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إنّ هَذا لَشَيْءٌ عَجِيب » (3) فوافاها الجواب من
1 ـ هود : 73.
2 ـ الأحزاب : 33.
3 ـ هود : 72.


(128)
جانب الرسل الذين كانوا ملائكة وتمثّلوا بصورة الإنسان ، قائلين : « أتعجبين من أمر اللّه رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت انّه حميد مجيد » .
    وأمّا الآية الثانية فقد وردت في ثنايا الآيات التي نزلت في شأن نساء النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بدعوتهنّ إلى التخلّي عن الدنيا والتحلّي بالتقوى إلى غير ذلك من الوصايا التي وردت ضمن آيات. (1)
    والمهم في هذا المقام هو معرفة أهل البيت في الآية الثانية وما هي سماتهم وحقوقهم في الذكر الحكيم ؟
    فهناك مباحث ثلاثة :
    من هم أهل البيت ( عليه السّلام ) ؟
    وماهي سماتهم ؟
    وماهي حقوقهم ؟
    وها نحن نقوم بدراسة هذه المواضيع في فصول ثلاثة مستمدين من اللّه العون والتوفيق.
1 ـ انظر سورة الأحزاب ، الآيات : 28 ـ 34.

(129)
    الفصل الأوَّل
من هم أهل البيت ( عليهم السّلام )
    إنّ المعروف بين المفسرين والمحدّثين ، هو انّ المراد من أهل البيت في الآية المباركة ، العترة الطاهرة الذين عرّفهم الرسول ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) في حديث الثقلين ، وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي » .
    غير انّ تحقيق مفاد الآية وتبيين المراد من أهل البيت فيها وانطباقها على حديث الثقلين يستدعي البحث في موردين :
    أ. أهل البيت لغة وعرفاً.
    ب. أهل البيت في الآية المباركة.
    وإليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر.


(130)
    أ. أهل البيت لغة وعرفاً :
    هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم ، ويمكن تحديد مفهوم « الأهل » من موارد استعماله فيقال :
    1. أهل الأمر والنهي.
    2. أهل الإنجيل.
    3. أهل الكتاب.
    4. أهل الإسلام.
    5. أهل الرجل.
    6. أهل الماء.
    وهذه الموارد توقفنا على أنّ كلمة « أهل » تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أُضيف إليه ، فأهل الأمر والنهي هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر ، وأهل الإنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الإسلام.
    وقد اتفقت كلمة أهل اللغة على أنّ الأهل والآل كلمتان بمعنى واحد ، قال ابن منظور : آل الرجل : أهله ، وآل اللّه وآل رسوله : أولياؤه ، أصلها أهل ثم أُبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل ، فلمّا توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفاً ، كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل آمن وآزر.
    وقد أنشأ عبد المطلب عند هجوم ابرهة على مكة المكرمة ، وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال :
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
    وعلى ما ذكرنا ، فهذا اللفظ إذا أُضيف إلى شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه ، فأهل الرجل مثلاً هم أخص الناس به ، وأهل المسجد ، المتردّدون كثيراً إليه ، وأهل الغابة القاطنون فيها ... فإذا لاحظنا موارد
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس