مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 11 ـ 20
(11)
    وقد طُبع ـ إلى الآن ـ سبعة أجزاء من هذا التفسير لقيت ترحيباً كبيراً من قبل العلماء والمفكّرين المهتمّين بهذا النوع من البحوث القرآنيّة.
هذه الدّراسة
    وما يراه القارئ في هذه الدراسة هو نتيجة ما ألقيناه على فضلاء الجامعة الدينيّة في قم المشرّفة من ذلك النَّمط التفسيريّ الجديد.
    ولمّا انتهى البحث في الجزء الأوّل إلى التوحيد في الحاكميّة ، وقلنا : إنّ الحاكميّة مختصّةٌ باللّه سبحانه ، وذكرنا أنّ اختصاص الحكومة باللّه لاتعني اختصاص الإمرة به سبحانه ، فلأجل ذلك ، جعلنا محور البحث في هذا الجزء رفع الستار عن صيغة الحكومة الإسلاميّة نزولاً عند رغبة أكثر القرّاء من الشباب حيث ازداد تعطّشهم إلى معرفة الحكومة الإسلاميّة ، تلك الناحية الحسّاسة من النظام الإسلاميّ التي أُهملت في القرون الغابرة ، بياناً ، و تأليفاً.
شكر و تقدير
    وقد تمّ تنسيق و تأليف محتويات هذا الجزء بواسطة الكاتب الإسلاميّ الفاضل الشيخ جعفر الهادي الذي بذل جهداً كبيراً في تحرير هذه البحوث وتنظيمها وصبّها في ثوب قشيب من التعبير ، وكأنّه بذلك أفاض عليها حياةً جديدة.
    وإنّني إذ أشكر ـ بإخلاص ـ جهوده المضنية في هذا الصعيد ، أسأل اللّه تعالى أن يوفقه لتحقيق الأهداف الإسلاميّة العليا ويأخذ بيده لخدمة الفكر الإسلاميّ العظيم.


(12)
    على أنّنا نُذكِّر القرّاء الكرام بأنّنا لاندّعي أبداً بأنّ عملنا ـ هذا ـ عمل متكاملُ الأركان ، عار عن النقصان ، وأنّنا في غنىً عن النقد البنّاء والاعتراض الهادف السليم .... ولهذا، فإنّنا نرحّب بكلّ نقد في هذا المجال ، ونتلقّاه برحابة صدر آملين أنْ يُتحفنا الإخوة بما يرونه مفيداً وضرورياً لنزيد من كمال هذا المجهود فيتحقّق الهدف ، ويحصل المطلوب ، واللّه من وراء القصد.
جعفر السبحاني
5/شعبان/ 1403 هـ.


(13)
الفصل الأوّل
1
الحكومة
حاجة طبيعيّة وضروريّة
    الحديث عن الحكومة الإسلاميّة من المسائل التي تطرح نفسها اليوم بشدّة على أذهان الناس في المجتمع الإسلامي ، وتستقطب اهتمامهم في كلّ مكان.
    ولقد استوفينا الكلام حول لزوم وجود الحكومة ، وضرورة استقرارها وقيامها في الحياة البشريّة عامّةً ، وفي المجتمع الإسلامي خاصّةً ، وذلك عند دراسة « التوحيد في الحاكميّة » الذي كان آخر فصل لكتابنا : « معالم التوحيد في القرآن الكريم ».
    ونرى هنا ـ لدى البحث عن معالم الحكومة الإسلاميّة ـ أن نعيد الكرّة على ما ذكرناه هناك باختصار فنقول :
    إنّ ضرورة قيام الحكومة ووجود الدولة في الحياة البشريّة ليست أمراً تقتضيه وتؤكّده الحياة المعاصرة التي اشتدّت فيها الحاجة إلى الحكومة فحسب، بل كانت موضع تأكيد كبار الفلاسفة والمفكّرين في التاريخ القديم أيضا.


(14)
    فها هو « أرسطو » كبير الفلاسفة القدامى وزعيمهم يقول :
    « إنّ الدولة من عمل الطبع ، وإنّ الإنسان بالطبع كائن اجتماعيّ ، وإنّ الذي يبقى متوحّشاً ـ بحكم النظام لا بحكم المصادفة ـ هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع الإنسانيّ » (1).
    فإذن، تعتبر الدولة ـ حسب رأي أرسطو ـ حاجة طبيعيّة تقتضيها الفطرة الإنسانيّة بحيث يعدُّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها إمّا متوحّشاً ساقطاً ، أو موجوداً يفوق النوع الإنساني ، ويخلو عن الطبيعة البشريّة.
    وها هو « أفلاطون » يرى : « أنّ أفضل حياة للفرد لا يمكن الحصول عليها إلاّ بوجود الدولة ، لأنّ طبيعة الإنسان م آلها إلى الحياة السياسيّة ، فهي من الاُمور الطبيعيّة التي لا غنى للناس عنها » (2).
    وهذا هو ابن خلدون يستدلُّ على ضرورة وجود الدولة والحكومة بضرورة الاجتماع الإنساني التي يعبّر عنها في اصطلاح الحكماء بعبارة : « أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع ».
    ثمّ يستدلُّ على ذلك حتى ينتهي إلى إثبات ضرورة إيجاد الحكومة والدولة (3).
    وأمّا من المفكّرين المعاصرين، فيكتب ثروت بدوي : « إنّ أوّل مقوّمات النظام السياسيّ هو وجود الدولة ، بل إنّ كلّ تنظيم سياسيّ للجماعة يفترض وجود الدولة ، حتّى أنّ البعض يربط بين مدلول السياسة وفكرة الدولة ، ولايعترف بصفة الجماعة السياسيّة بغير الدولة » (4).
    هذا وما جاء في الإسلام و ورد من نصوص وسيرة أكثر دلالةً ، وأقوى برهنةً على لزوم إيجاد الدولة في الحياة البشريّة ، من أيّ دليل آخر.
    1 ـ السياسة : 96 ترجمة أحمد لطفي.
    2 ـ الجمهوريّة بتلخيص.
    3 ـ مقدّمة ابن خلدون : 41 ـ 42.
    4 ـ النُّظم السياسيّة : 1 ـ 7.


(15)
    أمّا السيرة فيكفي النظر إلى حياة الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وسيرته الشريفة للوقوف على هذه الحقيقة.

المؤسّس الأوّل للحكومة الإسلاميّة :
    فمن تتبّع تلك السيرة الشريفة وجد كيف أنّ الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أقدم بمجرّد نزوله في المدينة المنوّرة على تأسيس الدولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى ، وكيف مارس كلّ ماهو من شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظّم ، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الاخرى ، وتنظيم الشؤون الإقتصاديّة والعلاقات الإجتماعيّة ممّا يتطلّبه أيُّ مجتمع منظّم ذو طابع قانونيّ ، وصفة رسميّة وصيغة سياسيّة ، واتخاذ مركز للقضاء والإدارة ـ وهو المسجد ـ ووضع رواتب وتعيين مسؤوليات إداريّة ، وتوجيه رسائل إلى الملوك والامراء في الجزيرة العربيّة وخارجها ، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أوّل مؤسّس للدولة الإسلاميّة التي استمرّت من بعده ، واتّسعت ، وتطوّرت وتبلورت ، واتّخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسّسات وإن كانت الاسس متكاملةً في زمن المؤسّس الأوّل صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    إنّ من يراجع التاريخ النبويّ يلاحظ ـ بجلاء ـ أنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان منذ بداية بعثته الشريفة وحياته الرساليّة بصدد تأسيس الحكومة ، وإقامة الدولة.
    وقد تمّ ذلك في مرحلتين كانت المرحلة الاولى في مكة ، والاخرى في المدينة.
    ففي مكة ـ يوم لم يكن مأموراً بالظهور والإعلان عن دعوته ـ قام بتأسيس الحزب السريّ ـ إن صحّ هذا التعبير ـ حيث أخذ في إعداد وبناء الأفراد الصالحين ، وتوفير الكوادر المؤمنة عن طريق الاتّصالات الخاصّة واللقاءات السّريّة.
    ثمّ بعد أن امر باعلان رسالته لقوله سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَاَعْرِضْ عَنِالْمُشْرِكِينَ * إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِيِنَ ) (الحجر : 94 و 95) ، راح الرسول الأكرميلتقي بقادة القبائل ورؤساء الوفود الآتية إلى مكّة يدعوهم الى دينه ، والانضمام


(16)
إلى جماعته، وكان من أبرز ما فعله على صعيد التهيئة العامّة لإقامة حكومته المرتقبة، عقد البيعة مع بعض الوفود القادمة من أنحاء الجزيرة إلى مكة ، وأخذ العهد منهم على نصرته ودعم ما ينشد إقامته في ظرفه المناسب كما تمّ ذلك في بيعتي العقبة الاولى والثانية (1).
    وعندما هاجر إلى المدينة ، وسنح له الظرف المناسب باشر بتأسيس أوّل حكومة إسلاميّة وبذل في ذلك أكبر مجهود بعد أن مهّد لها بعقد ميثاق الاخوّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين ، وإقامة مسجد جعله مركزاً لتجمّع المسلمين وموضعاً لعملياته ونشاطاته الاجتماعيّة والسياسيّة.
    وقد تجلىّ العمل السياسيّ الذي قام به النبيُّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم والذي يدلُّ على أنّه كان أوّل من أقام حكومة إسلاميّة وبنى قواعدها، أنّه كان يباشر اُموراً هي من صميم العمل السياسي والنشاط الاداري الحكومي ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
    1 ـ أنّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الاخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقيةً وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلاميّة ، وقد ذكرنا بنودها في هذا الفصل من كتابنا هذا.
    2 ـ أنّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم جهّز الجيوش وبعث البعوث العسكريّة والسرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة ، وقاتل المشركين وغزاهم ، وقاتل الروم وقام بمناورات عسكريّة لإرهاب الخصوم .. وقد ذكر المؤرّخون أنّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم خاض أو قاد خلال 10 أعوام من حياته المدنيّة 85 حرباً.
    3 ـ بعد أن استتبّ له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكّة وطرد اليهود من المدينة وماحولها وقلع جذورهم وقضى على مؤامراتهم ، توجّه باهتمامه إلى خارج الجزيرة ، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته من مناطق الجزيرة ، فراح يراسل الملوك والامراء يدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظلّ دولته والقبول
    1 ـ راجع السيرة النبويّة 1 : 431 و 467 ، وإعلام الورى.

(17)
بحكومته الإلهيّة.
    فراسل قيصر ملك الروم.
    و كسرى ملك إيران وامبراطورها.
    و المقوقس عظيم القبط في مصر.
    والنجاشيّ ملك الحبشة.
    وكبار قادة الشام واليمن وغيرهم من الامراء والملوك ورؤساء القبائل الكبيرة.
    وربّما وقّع مع بعضهم المعاهدات ، وأقام بعض التحالفات العسكريّة والسياسيّة والمعاهدات الإقتصاديّة (1) كما ستعرف ذلك.
    وقد جمعت أكثر هذه الرسائل و المواثيق في كتب خاصّة أمثال( الوثائق السياسيّة) تأليف البروفسور محمد حميد اللّه الاستاذ بجامعة باريس و(مكاتيب الرسول) وإليك نماذج من هذه الرسائل والمكاتيب السياسيّة :
    كتابه إلى ملك عمان والأزد ، جيفر وعبد ابني الجلندي :
    « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد بن عبد اللّه إلى..
    سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد، فإنّي أدعوكم بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما. إنّي رسول اللّه إلى الناس كافّةً لأ نذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين. إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحلُّ بساحتكما ، وتظهر نبوّتي على ملككما » (2).
    وكتابه لرفاعة بن زيد الجذاميّ أحد امراء الجزيرة :
    « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد رسول اللّه لرفاعة بن زيد : إنّي قد بعثته إلى قومه عامّة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى اللّه ورسوله ، فمن أقبل منهم ففي
    1 ـ على نحو ما فعل مع أهل اليمن ( راجع تاريخ اليعقوبي 2 : 64).
    2 ـ المواهب اللدنيّة 3 : 440 ، السيرة الحلبيّة 3 : 284 ، أعيان الشيعة 2 : 14 ومكاتيب الرسول : 147.


(18)
حزب اللّه وحزب رسوله ومن أدبر فله أمان شهرين » (1).
    ومن رسالته إلى اسقف نجران :
    « بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمّد النبيّ رسول اللّه إلى أسقف نجران : أسلم أنتم(أي أنتم سالمون إذا أسلمتم) فإنّي أحمد اللّه إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
    أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام » (2).
    4 ـ أنّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء.
    قال الاستاذ عبد اللّه عنّان عن هذه السفارات النبويّة : « كانت هذه السفارات والكتب النبويّة عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسيّة ، بل كانت أوّل عمل قام به الإسلام في هذا الميدان.
    إن ّ هذه الدبلوماسيّة الفطنة التي لجأ إليها النبيُّ في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلُّها عبثاً كما رأينا » (3).
    5 ـ أنّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم نصب القضاة وعيّن الولاة ، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ، ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام ، وتعليم القرآن الكريم ، وجباية الضرائب الإسلاميّة كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزّين وما شابه ذلك من المصالح العامّة ، وفصل الخصومات بين الناس وحلّ مشاكلهم والقضاء على الظلم والطغيان .. وغير ذلك من المهام والصلاحيّات والمسؤوليّات الإداريّة والاجتماعيّة.
    وبالتالي لقد كان النبيُّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يعمل كلّ ما يعمله الساسة وأصحاب السلطات
    1 ـ السيرة الدحلانيّة على هامش السيرة الحلبية 3 : 131.
    2 ـ البداية والنهاية 5 : 53 والدرّ المنثور 2 : 38 وبحار الأنوار 6 : 9 الطبعة القديمة.
    3 ـ مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام : 208.


(19)
اليوم ، ولكن يفعل كلّ ذلك وفق منهج السّماء ، فكان يقوم بالعزل والنّصب ، والمراسلة وعقد الأحلاف ، وتوقيع الوثائق السياسيّة والعسكريّة والإقتصاديّة حسبما تقتضيها المصلحة الإسلاميّة والاجتماعيّة في عصره وضمن تشكيلات بسيطة..
    هذا مضافاً إلى أنّ من طالع سورة الأنفال والتوبة ومحمّد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلاميّة وبرامجها ووظائفها .. فهي تشير إلى مقوّمات الحكومة الإسلاميّة الماليّة ، واسس التعامل مع الجماعات غير الإسلاميّة ، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها ، وتعاليم في الوحدة الإسلاميّة التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلاميّة .. وكذا غيرها من السور والآيات القرآنيّة ، فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.
    وهذا يكشف عن أنّ النبيّ( محمّداً ) صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان أوّل مؤسّس للحكومة الإسلاميّة وأنّ أوّل حكومة إسلاميّة هي التي أقامها وأوجدها النبيُّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكّة.
    على أنّ هذه الحكومة ـ كما قلنا ـ وإن لم تكن من حيث التشكيلات والتنظيمات الإداريّة على النحو المتعارف الآن ، إلاّ أنّها كانت على كلّ حال تمثّل حكومةً كاملة الأركان ، ودولةً كاملة السّمات والملامح.
    وهذا يعني أنّه لابدّ أن تكون للحكومة الإسلاميّة أركان ومؤسّسات وتشكيلات للقيام بمثل ما كان يقوم به النبيُّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حسب ما تقتضيه طبيعة عصرنا الحاضر..
    وكلُّ هذا يتّضح من مطالعة ما دوّن حول السيرة النبويّة من كتب تأريخيّة على أيدي مؤرّخين من القدماء، مثل سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل للجزريّ والإرشاد للمفيد وكشف الغمّة للأربلّي ، ومن المتأخّرين، مثل كتاب تاريخ الإسلام السياسيّ (1) ، وغير ذلك من المؤلّفات التاريخيّة المختصرة والمفصّلة.
    1 ـ تأليف الكاتب المعاصر الدكتور حسن إبراهيم حسن استاذ التاريخ الإسلاميّ بجامعة القاهرة.

(20)
    ثمّ إنّ نظرةً اخرى إلى الدين الإسلاميّ نفسه تشهد بأنّ الأحكام والمناهج الإسلاميّة تقتضي ـ بنفسها ـ قيام مثل هذه الدولة وذلك من جهتين :
    الاُولى : أنّ الإسلام يدعو ـ في أكثر من نصّ ـ إلى الوحدة بين أبنائه وأتباعه ، وينهى عن التشتُّت والفرقة والاختلاف حتّى عرف الإسلام بأنّه بني على كلمتين : « كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة » قال القرآن الكريم : ( وَأنّ هَذَا صِراطِى مُسْتَقِيمَاًَ فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (الأنعام : 153).
    وقال تعالى : ( وَاعْتصِمُواْ بحَبْلِ اللّهِ جميعاً وَلا تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ اَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) (آلعمران : 103).
    وقال تعالى : ( إِنّما الْمُؤمِنُونَ إِخْوةٌ ) (الحجرات : 10).
    وقال تعالى : ( وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِِهِمْ لَوْ اَنْفَقْتَ ما فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَا أَلّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (الأنفال : 63).
    فإنّ اللّه يمنُّ على النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه وحّد بهداه قومه ، وهو يعني أنّ التوحيد ورصّ الصفوف هو غاية الإسلام الأكيدة.
    إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ القرآن يريد وحدة الاُمّة الإسلاميّة.
    ولذلك قال النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « من أتاكم وأمركم جميع( مجتمع) على رجل واحد ، يريد ان يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه » (1).
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أيضاً : « مثل المؤمن من المؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً » (2).
    وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في هذا الصّدد : « والزموا السّواد الأعظم ،
    1 ـ أخرجه مسلم في صحيحه كما في جامع الاُصول في أحاديث الرسول 3 : 48.
    2 ـ مسند أحمد 4 : 404 ورواه غيره من أصحاب الصّحاح والسُّنن.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس