مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 61 ـ 70
(61)
    الثاني : إنّ الملوكية التي اتّصف بها الأنبياء، كانت معطاة من اللّه سبحانه ، لا أنّهم اكتسبوها بالقوّة والقهر كما هو شأن ملوك الأرض.
    ولو كانت الملوكية مجردةً عن ذينك الأمرين، لأدّى إلى الفساد ، والتفرعن كما يشهد به التأريخ.
    وأقصى ما يمكن أن يقال حول توصيف اللّه سبحانه لبعض الأنبياء الصالحين بالملوكيّة : أنّ التأريخ وإن كان يشهد على أنّ الملوكيّة وإن كانت مقرونة بالاستكبار والتفرعن والفساد ، غير أنّه لم يكن يتبادر من تلك الكلمة ـ في عصر نزول القرآن ـ ما يتبادر في العصور المتأخّرة عن نزوله وبالأخصّ في هذه الأعصار الأخيرة.
    ولأجل ذالك وصف اللّه سبحانه طالوت بالملوكيّة ( بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكَاً ) ومنّ على بني اسرائيل بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً ، قال سبحانه : ( اذْكُرُوُا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكَاً ) (المائدة : 20).
    كما وصف آل ابراهيم بقوله : ( فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وَ ءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكَاً عَظِيمَاً ) (النساء : 54).
    إلى أن عاد سبحانه ينقل عن داود بأنّه طلب من اللّه سبحانه أن يهب له ملكاً ، قال تعالى : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكَاً لاَ يَنْبَغِي لأحَد مِنْ بَعْدِي ) (ص : 35).
    إنّ الملكيّة بكلّ أنواعها، مرفوضة في نظر الإسلام وخاصّة الوراثيّة منها ، لما في ذلك من الفساد وضياع الحق والعدل .. كما أثبتته التجارب التأريخيّة في حياة البشريّة.
    يقول المؤرّخ المعروف ابن خلدون في مقدّمته في الفصل الحادي والعشرين تحت عنوان( فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه ) :
    ( إذا استقر الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به ، ودفعوا سائر القبيل عنه ، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد ، بحسب الترشيح ، فربّما حدث التغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم ، وسببه في الأكثر ولاية صبيّ


(62)
صغير ، أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه ، أو بترشيح ذويه وخوله ، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك ، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ، ويورّيء بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعةً للملك ، فيحجب الصبيّ عن الناس ، ويعوده اليها ترف أحواله ، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه ، وينسيه النظر في الاُمور السلطانيّة حتّى يستبدّ عليه ، وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السلطان من الملك، إنّما هو الجلوس على السرير ، وإعطاء الصّفقة ، وخطاب التهويل ، والقعود مع النساءخلف الحجاب ، وأنّ الحلّ والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة ، وتفقُّدها من النظر في الجيش والمال والثغور ، إنّما هو للوزير ، ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد ، ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبعض البلاد.
    وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه ، فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ، ويرجع الملك إلى نصابه ، ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه ، إمّا بقتل أو برفع عن الرتبة فقط ، إلاّ أنّ ذلك في النادر .. وإنّما يحدث لأبناء الملوك ذلك، لأنّهم ينشأون منغمسين في نعيمه وقد نسوا عهد الرجولة ) (1).
    وصفوة القول، أنّ النظام الملكيّ المطلق منه والدستوري والوراثي ّ ، أمر ملازم للاستعلاء والطغيان.

2 ـ الحكومة الأشرافيّة
    إنّ المقصود من هذا النوع، هو أن يتسلّم فريق من أعيان المجتمع ووجوهه زمام الحكم والسلطة بحجّة تفوّقهم الروحيّ والفكريّ أو النسبيّ على الآخرين ، وهذا هو ما يصطلح عليه الآن بالحكومة ( الارستقراطيّة ) أو حكومة طبقة( الأعيان ).
    ولا يخفى ، أنّ مجرّد التفوّق الروحيّ أو الفكريّ أو النسبيّ ما لم يقترن بسائر
    1 ـ مقدمة ابن خلدون : 185 ـ 186.

(63)
الصلاحيّات والمؤهلات، لايمكن أن يكون مسوّغاً للقيادة والحاكميّة ، ولأجل ذلك لا تكون الأشرافية بهذا المعنى ملاكاً لها.
    أضف إلى ذلك، أنّه ربّما تتصدّر شرذمة من الطغاة الحريصين على الحكم والسلطة مسند الحاكميّة بادعاء تفوّقهم الروحيّ أو الفكريّ أو النّسبيّ على الآخرين من دون أن يكون فيهم شيء من ذلك.

3 ـ حكومة الأغنياء (1)
    وهي تتحقّق باستيلاء جماعة من ذوي الثراء الكبير على زمام الحكم لثرائهم ، وهذا النمط هو ما يسمّى بحكومة الخاصّة أيضاً.
    ويبرّر هذا الفريق حقّهم في الأخذ بزمام الحكم دون غيرهم، بقدرتهم الاقتصادية وتفوّقهم الإداريّ.
    ولكن هذا النوع وما تقدمه من الحكومات، لا يلتقي ولا ينسجم مع النظام الإسلاميّ مالم يرتضيه الشعب ، ولم يكن موافقاً للاسس والضوابط الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم ، لأنّ هذه الحكومات تؤول ـ لا محالة ـ إلى الديكتاتورية والاستغلال ، وإن كانت تغطّي نفسها ـ أحياناً ـ برداء الديمقراطيّة ، وتدّعي خدمة الشعوب.

4 ـ النمطُ الديمقراطيّ
    ويعني هذا النوع من الحكومة : « حكومة الشعب على الشعب » ، وهو في ظاهره يختلف عن الأنواع السابقة بأنّه يستند إلى إرادة الشعب ، ورأيه ، ويتحقّق بأن يكون الحاكم أو الرئيس منتخباً من جانبهم ، أو يكون موضع قبولهم على الأقلّ.
    وهذا النمط، وهو الذي تدّعيه أكثر الحكومات الحاضرة وخاصّةً في الغرب بل،
    1 ـ وتسمّى حكومة الاستئثار.

(64)
ويتبجّح به العالم الغربي ّ ويفتخر به ويدّعي أنه السبيل الوحيد لضمان الحريات التي يتطلبها الإنسان ، طيلة حياته ، ويشتريها بأغلى ثمن ولكنّه ادعاء خال عن الحقيقة ، مجرد عن الواقع.
    فإنّ الديمقراطيّة الدارجة في الغرب ديمقراطيّة ظاهريّة ، وحريّة صوريّة غير حقيقّية ، فالناخبون هناك ينتخبون نوّابهم وحكاّمهم مجبورين ومضطّرين في الواقع وإن كانوا مختارين في الظاهر.
    فهم ينتخبون تحت تأثير الوسائل الإعلاميّة الفعّالة ، والمؤثرات الخفيّة والجليّة التي تدفع بالناخب الغربيّ إلى أن ينتخب ـ بصورة لا إرادية ـ ما تروّج له أجهزة الإعلام ، أو تسوّله دعايات اصحاب الشركات والمعامل الكبرى ، أو تدعو له الراقصات والمغنّيات والمغنون.
    إنّ المرء يتصوّر ـ في بادىء الأمر ـ ، أنّ الغرب يمارس ديمقراطيّةً حقيقيّةً ، غير أنّ من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفيّة، يرى صورةً عن الديمقراطيّة لا روح فيها ، وشكلاً من حرية الانتخاب لاواقع لها ، فالإنسان في تلك الديار مسيّر بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح ، فالإنسان الغربي يمارس ديمقراطيّةً كاذبةً ، لأنّه لا يختار إلاّ ـ تحت التأثير الإعلاميّ ـ من تريده تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه ، أو يحكم به عقله ، وتقتضيه مصالحه.
    وهل يستطيع أحد أن ينكر تأثير الأجهزة الإعلاميّة والدعائية في بذر فكرة خاصّة وإلقائها في أذهان الناس ، وتوجيههم الوجهة التي تريد ، ودفعهم إلى اختيار من تشاء؟.
    أم هل يمكن إنكار الدور المؤثر لوسائل الطّرب ، وللفنّ ، والحفلات الغنائيّة والموسيقيّة؟ فكيف لايؤثر في الأذهان، جعل صورة المرشّح للرئاسة أو للنيابة على صدور الفتيات الشبه عاريات والراقصات أمام الجماهير ، أو ترديد اسم المرشّح في أناشيد


(65)
المطربين والمطربات وفي أغاني المغنّين والمغنّيات؟.
    أم هل يمكن أن ينسى تأثير الوعود البرّاقة الكاذبة ، أو شراء الأصوات بالأموال الطائلة أو التحالفات العشائريّة ، وغير ذلك من الوسائل المتّبعة في الغرب وفي النظم الديمقراطية السائدة في عالمنا الحاضر؟.
    وليس من شكّ في أنّ انتخاب الإنسان المسيّر في اختياره ، المدفوع تلقائياً إلى انتخاب مرشّح شرذمة معينة ، لاقيمة له في ميزان العدل والحق ، ولا يمكن أن يسمى انتخاباً حرّاً واختياراً صحيحاً ، ولا يكون مثل هذا في الغرب إلاّ لأنّهم لا يشترطون في الانتخاب شرطاً من الاُمور المعنويّة عدا كونه منتخباً لأكثريّة الشعب فحسب. ولكن الإسلام يشترط في الناخب والمنتخب شروطاً كثيرةً عدا كونه مقبولاً للشعب ومرضيّاً عندهم ، ولا يأذن لأحد أن يتجاوز هذه الشروط أو يتغافلها ، بلغ الأمرما بلغ.
    إنّ النمط الديمقراطيّ للحكم ـ على ما يراه الغرب ومن تبعهم في الشرق ـ لايهتمُّ إلاّ بكثرة الأصوات والتفوق في عدد الآراء لا غير. !!
    يكتب( فرانك كنت ) الكاتب السياسيّ في هذا الصدد قائلاً : (إنّ مسألة « ضرورة تحصيل أغلبيّة الأصوات » موضوع مهم جداً ، وفي سبيل تحصيلها لايمكن أن يسمح أبداً بأن تتدخّل فيها مواضيع تافهة مثل قضية الأخلاق ، ومراعاة الحقّ ، والباطل).
    ويكتب هذا الكاتب نفسه أيضاً : ( إنّ أهمّ نقد وجّهه النائب « آشورست » إلى أحد زملائه الذي كان يخوض حملةً انتخابيةً في انتخابات (1920 م) هو : أنّك لاتريد أن تتحايل على الناس، يعني أنّك لا تريد في سبيل الوصول إلى المركز النيابي ّ أن تسحق وجدانك ، إنّك يجب أنّ تتعلّم بأنّ على الرجل السياسيّ ـ في بعض الموارد ـ أن يتجاهل ضميره ، ويتناسى وجدانه) (1).
    1 ـ اقتبس من مقال لجون اف كندي الرئيس الأسبق للولايات المتّحدة.

(66)
    ثمّ إنّ هذا النوع من نظام الحكم وإن لم يكن من مصاديق الاستعلاء المذموم في القرآن الكريم، غير أنّ مجرد كونه شعبياً لا يكفي في شرعيّته وصحته ، بل لابدّ أن يكون ناشئاً من حاكميّة اللّه سبحانه، إمّا بالنصّ ، أو موضع تأييده برعاية الضوابط والسنن التي نصّ عليها في الشريعة الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم. وبذلك تختلف صيغة الحكومة الإسلاميّة ـ التي سيأتي ذكرها ـ عن سائر الصيغ والأنماط الرائجة لنظام الحكم ، وإن كانت بعض هذه الصيغ موضع قبول الشعوب ورضاها.
    إنّ الحاكميّة ـ حسب منطق العقل والدين ـ مخصوصة باللّهسبحانه ومحض حقّ له دون سواه ، ولذلك، لابدّ أن تكون حاكميّة غيره ناشئةً منه ، أوموضع تأييده سبحانه.
    وبعد استجلاء هذه الحقيقة ، ينطرح هذا السؤال : ما هي إذن صيغة الحكومة الإسلاميّة؟.


(67)
الفصل الثاني
1
صيغة الحكومة الإسلاميّة
كيف ؟
تلخيصٌ لما سبق :
    لقد أثبتت الأبحاث السابقة اُموراً ، هي :
    1 ـ أنّ العقل ـ فضلاً عن الآيات القرآنيّة ، والأحاديث الشريفة ـ يقضي بلزوم وجود( دولة )تدير دفّة البلاد ، وتتولّى ادارة شؤون المجتمع ، إذ بدون الدولة لن يكون أمر الاُمّة إلاّ فوضى واختلاف.
    2 ـ أنّ طبيعة القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات المدنية والاقتصاديّة والدفاعيّة تقتضي وجود مثل هذه الدولة ، و إلاّ كان تشريعها لغواً وعبثاً.
    3 ـ أنّ على المسلمين إذن ، أن يقوموا بتشكيل مثل هذه الدولة لتطبيق الإسلام في جميع الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.


(68)
    4 ـ أنّ الحكومة الإسلاميّة ليست على نمط النظام الملكيّ ، أو حكومة الأشراف أو حكومة الخاصّة ، أو النظام الديمقراطي الرائج في الغرب ، أو المتّبع في بلدان العالم الثالث.
    بعد أن ثبت كلّ ذلك في الأبحاث السابقة ينطرح السؤال التالي :

ماهي صيغة الحكومة الإسلاميّة إِذنْ ؟
    إنّ البحث عن شكل وصيغة « الحكومة الإسلاميّة » رغم أنّه من أهمّ المباحث في هذا المجال ، لكننا لا نجد دراسةً وافيةً شاملةً عنها.
    إنّ علماء الشيعة لمّا كانوا يمثّلون ـ طوال العصور ـ ، جبهة الرّفض والمعارضة للحكومات الجائرة ، فإنّهم كانوا بسبب ذلك يعانون من أشدّ أنواع الملاحقة والمضايقة ، فلم تسمح لهم تلك الظروف العصيبة أن يتحدثوا عن صيغة الحكومة الإسلاميّة ، أو يتفرّغوا للكتابة عنها ، وتوضيح ملامحها ، ورسم خطوطها ، ويؤلّفوا فيها كما ألّفوا عن بقيّة المجالات الإسلاميّة.
    نعم، لقد قام بعض علماء السّنّة بتأليف بعض الكتب في هذا المجال ، ولكن هذه الكتب لم تشرح إلاّ الوضع الذي كانت عليه الحكومات السائدة حينذاك في المجتمعات الإسلاميّة ، من دون أن ترفع النّقاب عن وجه الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة كما تحدّث عنها القرآ ن الكريم والسّنّة المطهّرة ودلّ عنها العقل السليم.
    ولأجل ذلك، لايرى القارىء في( الأحكام السلطانيّة ) للماورديّ وما يماثله من الكتب والمصنّفات إلاّ هذا الأمر .. وأما تصوير الحكومة الإسلاميّة كما ينبغي أن تكون فلا يكاد أن يجده كما ستعرف.
    ويمكن أن نعزي غياب الصورة الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة إلى عدّة اُمور أخرى :
    1 ـ توالي الحكومات المنحرفة على دفّة الحكم في الاُمّة الإسلاميّة ، الأمر الذي حال


(69)
دون قيام الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة ، وكان ذلك من أسباب غياب النمط الواقعيّ لنظام الحكم الإسلاميّ ، وعدم معرفتنا به.
    أضف إلى ذلك ، أنّ تأريخ المسلمين في العصور الماضية كان له صبغة الإسلام وصبغة القيادة الإسلاميّة ، لا أنّه كانت تتوفّر فيه جميع عناصر الدولة الإسلاميّة وشرائط المجتمع الإسلاميّ ومواصفاته ، ولأجل ذلك لم تكن تلك الحكومات المنصبغة بصبغة الإسلام ممثّلةً لواقع القيادة الإسلاميّة.
    2 ـ بعدنا الزمني عن العهد النبويّ وتطوّر اللغة ، ممّا جعلنا لا نفهم الكثير من مقاصد المصطلحات القرآنيّة التي تدلّ على ملامح الحكومة الإسلاميّة كما كان يفهم العربي المعاصر لذلك العهد.
    وتتعيّن على الكتّاب المعاصرين، لاستجلاء الملامح الغائبة للحكومة الإسلاميّة، اُمور :
    أوّلاً : العودة إلى المصادر الأساسيّة للإسلام ، ونعني بها الكتاب والسّنّة المطهّرة والسيرة الشريفة التي سار عليها الأئمّة الواقعيّون.
    ثانياً : أن لايخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلاميّة في مجال الحكم ، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.
    ثالثاً : أن لا يخلطوا بين تأريخ المسلمين ونظام الدين ، لأنّ ذلك التأريخ لايكون ممثلاً واقعيّاً لكلّ تعاليم الدين ، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.
    فإذا تجاوزنا جميع هذه الحواجز المانعة عن رؤية الحقيقة، استطعنا أن نقف على الصورة الحقيقيّة لنظام الحكم الإسلاميّ وأبعاده ، وجميع خصوصياته وامتيازاته.
    إنّا مع تقديرنا لكلّ ما قام به علماؤنا الأقدمون من خدمات عظيمة في تدوين الفكر الإسلاميّ وحمايته وصيانته وتعميقه وتوضيحه، نعذرهم في عدم توضيحهم لصورة الحكومة الإسلاميّة ، نظراً للظروف الصعبة وغير العاديّة التي عاشوها وقاسوا منها الأمرّين كما ستعرف ، ولكنّنا نعتبر القيام بهذا الأمر واجباً حتميّاً بالنسبة إلى كتّابنا


(70)
ومفكّرينا المعاصرين ، وخاصّةً أنّ الحاجة إلى ذلك ـ بعد قيام أوّل حكومة إسلاميّة من نوعها في بلد إسلاميّ هو إيران ـ قد أصبحت شديدةً وماسةً في الوقت الذي يتطلّع فيه الكثير من المسلمين إلى إقامة الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة في بلادهم أيضاً.
    إنّ غموض موضوع ( الحكومة الإسلاميّة ) جعل أكثر المسلمين في هذا العصر لايعرفون عنها سوى، أنّها كبقية الحكومات القائمة في بعض البلاد الإسلاميّة التي تنتحل لنفسها صفة الإسلام واسمه ، وهي أبعد ما تكون عن الإسلام جوهراً وشكلاً ، أسلوباً وسياسة.
    إنّ الحكومة الإسلاميّة تمتاز بخصوصيّات وخصائص عديدة تميّزها عن جميع الحكومات الحاضرة ـ والغابرة ـ التي تتقمّص رداء الإسلام كذباً وزوراً.
    إنّ التتبّع في الكتاب والسّنّة يقضي، بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين ، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :
    1 ـ التنصيص الألهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكميّة شخص معيّن على الاُمّة كما في النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم باتّفاق المسلمين ، أو الأئمة المعصومين حسب ما يذهب إليه الشيعة.
    ومن المعلوم، أنّه لو كان هناك نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.
    2 ـ التنصيص الإلهيّ على صفات الحاكم الأعلى ، وشروطه ، ومواصفاته الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص ، أو كان ولكن الظروف تحول دون الوصول إليه ، والانتفاع بقيادته.
    ومن المعلوم، أنّ الطريق الثاني يؤخذ به في ظرف عدم الطريق الأوّل.
    وعلى كلّ تقدير، فالحاكميّة تنصيصيّة منه سبحانه مطلقاً ، فهي إمّا بالتنصيص على الشخص المعيّن ، أو التنصيص على المواصفات الكليّة ، وإلى هذا القسم الثاني يرجع انتخاب الاُمّة حسب الشرائط والضوابط.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس