مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 71 ـ 80
(71)
التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى
باسمه وشخصه
    إن الحاكميّة كما أسلفنا (1) ، حقّ مختصّ باللّه سبحانه ، ولا حاكمية لسواه إلاّ بإذنه ، وله الحقّ وحده في تعيين من يقود البشرية ، ويسوس اُمورهم ويحكمهم..
    وهذا هو ما يؤكّده القرآن الكريم في كثير من آياته صراحة وتلويحاً ، إذ يقول :
    ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهْوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) (الأنعام : 57).
    ( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهْوَ أَسْرَعُ الْحاسِبيِنَ ) (الانعام 62).
    ( إِنِ الْحُكُمْ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) (يوسف : 40).
    يقول العلاّمة الطباطبائيّ : ( إنّ نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه، لمّا كانت تثبت حقيقة( التأثير في الوجود ) للّهسبحانه وحده لا شريك له ، وإن كان الإنتساب مختلفاً باختلاف الأشياء ، غير جار على وتيرة واحدة ، كما ترى أنّه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ، ثمّ ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة ، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشيئة والرزق والحسن ، إلى غير ذلك. وبالجملة، لمّا كان التأثير له تعالى ، كان (2) الحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى ، سواءً في
    1 ـ راجع الجزء الأول من كتابنا : 578.
    2 ـ جواب لمّا الشرطيّة.


(72)
ذلك الحكم في الحقائق التكوينيّة أو في الشرائع الوضعيّة (1) الاعتباريّة ، وقد أيدّ كلامه تعالى هذا المعنى ، كقوله : ( إِنِ الْحكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (الأنعام : 57 يوسف : 67) وقوله تعالى : ( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ) (الأنعام : 62) وقوله تعالى : ( لَهُ الْحَمْدُ فِي الاُولَى وَ الأخِرَةِ وَ لَهُ الحُكْمُ ) (القصص : 70)وقوله تعالى : ( وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ ) (الرعد : 41) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقّب حكمه ويعارض مشيئته ، وقوله تعالى : ( فَالْحُكْمُ لِلّهِ الْعَليِّ الْكَبِيرِ ) (غافر : 12) إلى غير ذلك.
    ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى ، قوله : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (يوسف : 40) فالحكم للّه سبحانه لايشاركه فيه غيره ، على ظاهر ما يدلّ عليه ما مرّ من الآيات ، غير أنّه تعالى ربّما ينسب الحكم مطلقاً وخاصةً التشريعيّة منه إلى غيره ، كقوله تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِنْكُمْ ) (المائدة : 95) وقوله لداوود (عليه السلام) : ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (ص : 26) وقوله للنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ ) (المائدة : 49) وقوله ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) (المائدة : 44) إلى غير ذلك من الآيات وضمّها إلى القبيل الأوّل يفيد، أنّ الحكم الحقّ للّه سبحانه بـ (الأصالة ) وأوّلاً ، لا يستقلّ به أحد غيره ، ويوجد لغيره بإذنه وثانياً. ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم ، لما أنّه لازم الأصالة والاستقلال والأوّليّة ، فقال : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) (التين : 8) وقال : ( وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) (الأعراف : 87) (2) ».
    وكتب حول قوله تعالى : ( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ... ) ( الأنعام : 62) أيضاً يقول : (قوله
    1 ـ المصطلح لدى الاُصولييّن في الوضعيّة هو الأحكام والقوانين المجعولة كالسببيّة والشرطيّة والرئيسيّة والمرؤوسيّة والحاكميّة والمحكوميّة ويقابله الأحكام التكليفيّة الخمسة المعروفة كالوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة.
    غير أنّ الأستاذ (قدّس سرّه) أراد منها هنا مطلق الأحكام التشريعيّة سواء أكانت بلسان الوجوب والحرمة ، أم غيرها ، ممّا تسمّى ـ اصطلاحاً بالأحكام الوضعيّة.
    2 ـ تفسير الميزان 7 : 117 ـ 118.


(73)
تعالى : ( أَلاَ لَهُ الحُكْم ) إلخ .. لمّا بيّن تعالى اختصاصه بمفتاح الغيب وعلمه بالكتاب المبين الذي فيه كل شيء ، وتدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا ، إلى أن يرجعوا إليه ، تبيّن أنّ الحكم إليه لا إلى غيره ، وهو الذي ذكره فيما مرّ من قوله : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) أعلن نتيجة بيانه فقال : ( أَلاَ لَهُ الْحُكْم ) ليكون منبّهاً لهم ممّا غفلوا عنه ) (1). فإذا لم تكن الحاكميّة إلاّ للّه تعالى ، كان إليه وحده أمر التنصيص والتعيين للحاكم الأعلى ، أمّا على الاسم والشخص، كما إذا اقتضت المصالح أن يكون لون الحكومة على هذا النمط ، أو على الصفات والشروط اللازمة فيه، كما إذا اقتضت المصلحة أن يكون لون الحكومة على هذا الطراز.
    بيد انّ المسلمين قد اتفقوا على أنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه على الاُمّة.
    ومن المعلوم، أنّه لو كان هناك تنصيب للشخص لما كان للاُمّة رفض النصّ والتعيين والركون إلى الطريق الآخر .. يقول سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) (الأحزاب : 36).
    وقد نصّ اللّه تعالى على حاكمية النبيّ ، وحاكميّة ولاة الأمر من بعده إذ قال في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُواْ اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمرِ مِنْكُمْ ) (النساء : 59).
    ومن الواضح أنّ وجوب إطاعة النبيّ و اولي الأمر (2) في كلّ ما يأمر وينهى دليل
    1 ـ تفسير الميزان 7 : 136.
    2 ـ المشهور بين الإماميّة تبعاً للأخبار أنّ المراد من اولي الأمر ، أشخاص معيّنون بأسمائهم وشخصيّاتهم ، وقد نصّ النبيّ عليهم في متواتر الأحاديث والروايات ، التي رواها أعلام الحديث من الفريقين ، فهي قضيّة خارجيّة ـ حسب المصطلح المنطقيّ ـ مقصورة على أولئك الأشخاص ، وليست قضيّةً كليّةً قانونيّةً مضروبةً على إطاعة كلّ من ولي الأمر من المؤمنين ، حتّى تصير قضيّةً حقيقيّةً حسب اصطلاح المنطق.وإن كان ـ ربّما ـ يجب إطاعة ولي الأمر من المؤمنين ، لكنّه بسبب دليل آخر لا لأجل هذه الآية ، وهناك وجه آخر في مفاد الآية قرّر في محلّه.


(74)
على حاكميّته وولايته المفوّضة إليه من جانب اللّه بتنصيصه سبحانه على ذلك.
    كيف لا وقد صرح القرآن بولاية النبيّ ، وحكومته على الأنفس فضلاً عن الأموال بقوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (الأحزاب : 6).
    فهذه الآية، تدلّ ـ بوضوح ـ على أنّه تعالى نصب النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حاكماً ، وأولاه سلطةً على نفوس المؤمنين وأموالهم ، سلطةً شرعيةً في إطار الحقّ والعدل والصلاح.
    خاصّةً أنّه ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال : « إنّها نزلت في الإمرة يعني الإمارة » (1).
    هذا والأدلة على أنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه، أكثر ممّا ذكرناه من الآيات ، وبما أنّه لم يختلف فيه أحد من المسلمين نكتفي بما أوردناه.
    إنّما البحث في صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم ، فهل هي كانت على غرار حكومة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأنّ اللّه سبحانه نصب أشخاصاً معيّنين للحكومة بلسان نبيّه ، أو أنّ الحكومة بعده صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على غرار الطريق الثاني ، أعني التنصيص على الصفات والشروط الكلية اللازمة للحاكم ، وحثّ الاُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات.
    فهناك قولان، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

ماهي صيغة الحكومة بعد النبيّ ؟
    إنّ تحليل صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من المسائل الهامّة التي فرقت المسلمين إلى طائفتين كبيرتين، تمثّل كلّ واحدة منهما شطراً كبيراً من الاُمّة الإسلاميّة.
    ورفع النقاب عن وجه الحقيقة في هذا المجال، يحتاج إلى تجرد عن الأهواء والميول
    1 ـ مجمع البحرين : 457 ، الطبعة الجديدة.

(75)
الطائفية ، ولأجل ذلك نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لإراءة ما نلمسه بالدليل فنقول :
    إنّ طائفةً كبيرةً من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول ، وإلى مدّة خاصّة من الزمن، كانت حكومةً تنصيصيةً إلهيّةً على غرا ر حكومة النبيّ الأكرم نفسه ، فاللّه تعالى نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا النبيّ ، على لسانه ، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.
    ويمكن استجلاء الحقيقة ، وصدق هذا المدّعى، بالطرق الثلاث التالية :
    1 ـ محاسبة المصالح العامّة ، وما كانت تقتضيه في تلك الفترة ، فنرى، ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ، وأيّ لون من ألوان الحكومة كانت تتطلّب ، هل كانت تقتضي الحكومة التنصيصيّة على الاسم والشخص؟ أو التنصيص على الصفات والشروط ؟
    وبتعبير آخر : هل كانت المصالح في تلك الفترة تقتضي التنصيص على أشخاص معيّنين ؟ أو ترك الأمر إلى انتخاب الاُمّة حسب الضوابط المقرّرة شرعاً ؟.
    2 ـ لاشك أنّ وفاة الرسول الأكرم وغيابه عن الساحة كان من شأنه أن يحدث فراغاً بعده ، فكان لابد من سد هذا الفراغ بمن يكون كالنبيّ علماً وسياسةً وخلقاً وقيادةً ، فهل كان يمكن سدّ هذا الفراغ بانتخاب الاُمّة ، أو لا يمكن إلاّ بالتنصيص على فرد معيّن ؟.
    3 ـ لمّا كانت مسألة القيادة موضع اهتمام المسلمين في حياة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وبعده ، فحينئذ لا بدّ أن يكون للنبيّ وأصحابه في ذلك المجال رأي ونظر ، فماذا يستفاد من النصوص الواردة حول هذه المسألة ؟.
    ولنبدأ بعون اللّه بذكر هذه الطرق على وجه التفصيل :


(76)
    الطريق الأوّل
المصالح العامّة في الصدر الأوّل
وشكل الحكومة
    1 ـ عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة.
    2 ـ الاُمّة الإسلاميّة و الخطر الثلاثيّ.
    3 ـ العشائريات تمنع من الاتفاق على قائد.

ماذا كانت تقتضيه المصالح؟
    ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ؟ هل كانت تقتضي أن يترك النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم اُمّته لتختار هي من تريد لقيادتها ؟ وهل كانت الظروف آنذاك تساعد على مثل هذا الأمر ؟ أو كان يجب النص على أشخاص معيّنين لذلك المقام الخطير؟ وبعبارة واضحة : هل كانت المصلحة تقتضي تنصيب الإمام من جانب اللّه سبحانه بلسان نبيّه ؟ أو كانت المصلحة تقتضي أن يترك مسألة الخلافة بعده إلى رأي الاُمّة ؟
    إنّ اُموراً كثيرةً تدلّ على أنّ مصالح الاُمّة كانت آنذاك تتطلّّب تنصيب الإمام والقائد الذي يخلّف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وتعيينه بلسانه في حياته ، بل كان في عدم التعيين والتنصيب ، وترك الأمر إلى اختيار الاُمّة وانتخابها، من الاختلاف والتفرّق وعدم الاتّفاق


(77)
ما يشكل أكبر الخطر على تلك الجماعة ويعرّضها للتقهقر.
    وإليك بيان هذه الاُمور :

أ ـ عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة
    إنّ الاُمّة الإسلاميّة ـ كما يدلّنا عليه التأريخ ـ لم تبلغ في القدرة على تدبير اُمورها ، وإدارة شؤونها ، وقيادة سفينتها حدّ الاكتفاء الذاتيّ ، الذي لايحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب اللّه تعالى.
    وقد كان عدم بلوغ الاُمّة هذا طبيعياً، لأنّه من غير الممكن إعداد امّة كاملة الصفات ، قادرة على إدارة نفسها ، وبالغة في الرّشد القياديّ والإداريّ حدّاً يجعلها مستغنيةً عن نصب قائد محنّك رشيد لها.
    إنّه من غير الممكن إعداد مثل هذه الاُمّة وتربيتها في فترة ثلاث وعشرين سنة مليئة بالأحداث والوقائع الجسيمة ، ومشحونة بالحروب الطاحنة والهزات العنيفة.
    وليس هذا مختصاً بالاُمّة الإسلاميّة ، بل التجارب تدلّ على أنّه من غير الممكن تربية امّة كانت متوغّلةً في العادات الوحشيّة والعلاقات الجاهليّة ، والنهوض بها إلى حدّ تصير امّةً كاملةً تدفع عن نفسها تلك الرواسب والعادات والخصائص الجاهليّة المتخلّفة ، وتتقدّم بنفسها إلى ذرى الكمال، بحيث تستغني عن نصب قائد محنّك ورئيس مدبر ، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في تعيين القائد.
    إنّ إعداد مثل هذه الجماعة ومثل هذه الاُمّة لا يمكن ـ في العادة ـ إلاّ بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلاميّة إلى أعماق تلك الاُمّة ، بحيث تخلط مفاهيم الدين بدمها وعروقها ، وتتمكّن منها العقيدة درجةً يحفظها من التذبذب ، والتشرذم والتراجع إلى الوراء.
    وهذا ممّا لم يتيسّر للمسلمين الذين تولّى النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم تربيتهم وصياغتهم ، فإنّ الأحداث التي وقعت ، أثبتت، أنّ الإسلام لم يتعمّق في نفوس أكثرية المسلمين


(78)
وعقولهم ، ولم تجتثّ الرواسب الجاهلية المتأصّلة فيهم ، فقد كانت هذه الرواسب تلوح منهم بين حين وآخر ،. وتظهر مظاهر التذبذب والتردّد، كلمّا أحكمت الصعوبات والمحن بقبضتها عليهم !!!
    ففي معركة( احد ) مثلاً عندما ترك بعض الرماة مواقعهم على الجبل( خلافاً لأمر الرسول الأكرم وتأكيداته على البقاء ) وبوغت المسلمون بهجوم الكفار عليهم وهم يجمعون الغنائم ، واصيبوا بنكسة كبرى وروّج الأعداء المشركون شائعات عن مقتل النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ، هرب بعض المسلمين من ساحة المعركة ، ولاذ بعضهم بالجبل ، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين حتّى أتاهم أحد المقاتلين ووبّخهم على فرارهم وتخاذلهم وتردّدهم قائلاً : « إن كان محمّد قد مات فربّ محمّد حيّ ، قوموا ودافعوا عن دينه » (1).
    ولم تكن هذه الواقعة وحيدة من نوعها، فقد ظهرت بادرة الارتداد من بعضهم في( هوازن ) ما لا يقلّ عمّا ظهر في أحد.
    فقد روى ابن هشام عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ ، قال : لمّا استقبلنا وادي حنين، انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف( أي متّسع ) حطوط( أي منحدر )إنّما ننحدر فيه انحداراً ، وقال : وفي عماية الصبح ، وكان القوم( العدو ) قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيّأوا وأعدّوا ، فواللّه ما راعنا ونحن منحطون إلاّ الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانشمر( أي انهزم ) الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ذات اليمين ، ثمّ قال : « أين أيّها الناس هلمّوا إلّي ، أنا رسول اللّه ».
    فانطلق الناس( أي هربوا ) إلاّ أنّه قد بقي مع رسول اللّه نفر من المهاجرين والأنصار.
    فلمّا انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من جفاة أهل مكّة الهزيمة،
    1 ـ سيرة ابن هشام2 : 83.

(79)
تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لاتنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته ، وصرخ جبلة بن الحنبل : (ألا بطل السحر اليوم ) (1).
    إلى غير ذلك من الأحداث والوقائع ، التي كشفت عن تأصّل الرواسب الجاهليّة في نفوسهم ، وعدم تغلغل الإيمان والعقيدة في قلوبهم. حتّى أنّنا نجد القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة( أحد ) إذ يقول سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الْرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِريِنَ ) (آل عمران : 144).
    ويقول في شأن من راح يبحث عن ملجأ له فراراً من الموت : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيرَ الحَ ـ قِّ ظَنَّ الْجَاهِليَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيء ) (آلعمران : 154).
    وصفوة القول، أنّنا لاننكر ـ في الوقت نفسه ـ وجود من بلغت عقيدته واستقامته حداً استوجب أن يتحدث اللّه عنه في كتابه بقوله : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْدَاً عَلَيْهِ حَقَّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (التوبة : 111).
    بيد أنّ الأكثرية منهم لم تكن قد بلغت ذلك المبلغ من رسوخ الإيمان وعمق العقيدة ، ولم يكونوا قد تخلّصوا تماماً من رواسب الجاهلية.
    ويدلّ على ما ذكر من عدم تغلغل الإيمان في نفوس أكثرية الصحابة والمعاصرين للنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بالإضافة إلى ما ورد من آيات، ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ، والمسانيد في هذا المجال من أخبار وأحاديث صحيحة.
    1 ـ سيرة ابن هشام2 : 442 ـ 444.

(80)
    فقد روى البخاري عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قوله : « ما بعث اللّه من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلاّ كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصمه اللّه » (1).
    وروى البخاري أيضاً في صحيحه (2) في باب( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) من كتب التفاسير بسنده عن ابن عباس ، قال :
    خطب رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فقال : « ألا و إنّه يجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشّمال فأقول ياربّ : أصحابي ... فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصّالح ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهيدَاً مَا دُمْتُ فِيْهمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ما فارقتهم » (3).
    فهل كان يجوز لصاحب الدعوة ـ والحال هذه ـ أنّ يتجاهل أمر القيادة من بعده ، ولا ينصب أحداً باسمه وشخصه ، ويدع تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام ، الناشئة في الدين ، التي لم تترسّخ العقيدة الإسلاميّة في مشاعر الأكثريّة من أبنائها وأفرادها ، ولمتكتسب من التربية الفكريّة ، والإداريّة ما يجعلها قادرةً على إدارة نفسها بنفسها بحزم ، ومتمكّنةً من تدبير شؤونها بدراية وحنكة ؟!
    أم لابدّ من تعيين قائد ونصب زعيم مدير لها بعد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يكون له من المؤهلات
    1 ـ صحيح البخاري 4 : باب ( بطانة الإمام وأهل مشورته ) : 150.
    2 ـ صحيح البخاري 3 : 85.
    3 ـ وقد ورد هذا الحديث بنصّه وطوله ، أو باختلاف يسير في : كتاب التفسير في باب ( كَمَا بَدَأنَا أَوّلَ خَلْق نُعِيْدُهُ ) وفي باب ( كيف الحشر ) من صحيح البخاري نفسه ، وفي صحيح مسلم في كتاب الجنّة ونعيمها ، وفي صحيح الترمذيّ بطريقتين باب ( ما جاء في شأن الحشر ) وفي أبواب ( تفسير القرآن ) ، وفي صحيح النسائيّ (ج1) في ذكر أوّل من يكسى ، وفي مستدرك الحاكم في كتاب التفسير في (سورة الزخرف) ، وفي مسند أحمد بن حنبل (ج1 : ص235 و ص 253 ) وفي مسند الطيالسيّ (ج1) في أحاديث سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.
وفي الدرّ المنثور للسيوطيّ في تفسير قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيْسَى ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسَ ) وقال أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذيّ.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس