مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 81 ـ 90
(81)
الإداريّة ، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة ، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.
    وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين ، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم ، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين ، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.
    فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم ، حيث يقول عنهم :
    1 ـ ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضيَ اللّهُ عَنْهُم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (التوبة : 100).
    2 ـ ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِيْنَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيبَاً ) (الفتح : 18).
    3 ـ ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذيِنَ أُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْواَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانَاً وَيَنْصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر : 8).
    4 ـ ( مُحَمَّدٌ رَسُوُلُ اللّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّدَاً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَ آزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الْزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرَاً عَظِيمَاً ) (الفتح : 29).
    1 ـ لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها (أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله ( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل ، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

(82)
    غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً ، بل وممدوحين ، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذَاب عَظِيم ) (التوبة : 101).
    ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيِّئاً ) (التوبة : 102).
    وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيّةِ ) (آل عمران : 154).
    وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم باللّه ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار ، قال سبحانه عنهم : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الْظُّنُونَا هُنَالِكَ ابتُلِيَ الْمُؤمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدَا ً * وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلوبِِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامُ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيْقٌ مِنْهُمُ الْنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ، وَمَا هِيَ بِعَوْرَة إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارَاً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْموتِ أَوِ الْقَتْلِ ، وَ إِذَاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذا الَّذِي يَعصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيَّاً وَلاَ نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتَ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة حِدَاد أَشِحَّةً عَلى الخَيرِ أُولَئِكَ لمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسيِراً * يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ


(83)
يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرابِ يَسْألُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيْكُمْ مَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً ) (الأحزاب : 10 ـ 20).
    وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه : ( إِذْ جَاءُوكُمْ .. مِنْ فَوقِكُمْ .. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال ( وَالَّذِينَ ) ولم يقل(الذين).
    نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل ، وهم الذين عناهم اللّه تعالى بقوله : ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قالُوا : هَذَا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانَاً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ).(الأحزاب : 22 ـ 23).

إجابةٌ عن سؤال
    ولعل القائل يقول : بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين ، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام ، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله : ( فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ) (الفتح : 29).
    فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.
    ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :
    1 ـ إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها ، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما ، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب ، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان ، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.


(84)
    2 ـ إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة ، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف ، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.
    ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم ، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.
    روى البلاذريّ : ( لمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم ، فأنتم على أمركم ، قال أهل حمصلهم :
    لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و ...
    ونهض اليهود وقالوا : والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.
    وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (1).
    3 ـ إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) كان له السهم الأوفر في القيادة ، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّ (عليه السلام) عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم : « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك ، فتلقهم فتنكب ، لاتكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلاً محرباً ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهر اللّه فذاك ما تحب ، وإن
    1 ـ فتوح البلدان للبلاذريّ : 143.

(85)
تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين » (1).
    وبالرغم من أنّه (عليه السلام) قد اقصي عن الخلافة ، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله ، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين ، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد ، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولاّه إمارتها ويقول : « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّدصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان ، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (2).
    4 ـ إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة ، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.
    وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.
    والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر الم آسي والويلات ، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر ، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.
    وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو ، أو تمزيق الوحدة ، وإنّما نريد أن نوقف القارىء الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.
    وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 130 (طبعة عبده ).
    2 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم (62).


(86)
بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم ، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب ، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة ، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ
    من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة ، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها ... وتلك الامبراطوريّتان هما : الروم ، وإيران.
    هذا من الخارج.
    وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).
    ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

1 ـ خطر إمبراطوريّة إيران
    لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً ، ذات حضارة متقدمة زاهرة ، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين ، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة ، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة امّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن ، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً ، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فمزّق رسالته المباركة التي كتبها صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة اللّه تعالى .. وكتب إلى عامله باليمن :


(87)
    (ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به ) (1).

2 ـ خطر الروم
    كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم دائماً ، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.
    ولقد كان لهذا القلق مبرّره ، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية ، كانت ذات صفة توسّعيّة ، وكان قادتها يقمعون أيّ حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.
    ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة ، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم (الحارث بن عمير الأزدي) مع رسالة إلى (الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام ، فلمّا وصل إلى(مؤتة)تعرّض له (شرحبيل بن عمرو الغساني) ، وضرب عنقه (2).
    ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف ، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل (أعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره ، وعن تعصبهم ضدّه ، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل ، ويوجّهه إلى(مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد اللّه بن رواحة ، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد ، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.
    1 ـ الكامل للجزري 2 : 145.
    2 ـ اُسد الغابة 1 : 341 ـ 342.


(88)
    ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة ، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم ، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي ، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً ، وصالح أهلها على الجزية ، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته ، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز (1).
    ولم يكتف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم (2).

3 ـ خطر المنافقين
    إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة ، والمطّلع على تركيبته يجد ، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.
    والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين ، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد ، وضرب المسلمين بعضهم ببعض ، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن ، بين أفرادها وأبنائها ، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.
    وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم الدوائر ، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة ، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع ، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد
    1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 515 ـ 529.
    2 ـ الملل والنحل 1 : 29 ( طبعة القاهرة ) ، الطبقات الكبرى4 : 65 ، الكامل في التاريخ2 : 215.


(89)
مصالحهم.
    ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أيّ شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية ، وبنحو يخفى على العاديين من الناس (1).
    وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم ، فهم مت آمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول : ( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَاْ بَرَزُواْ مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) (النساء : 81).
    وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم : ( وَإِذْا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ ) (النساء : 83).
    وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن : ( لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُواْ لَكَ الاُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة : 48).
    وهم لا يرتدعون عن أيّ عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام ، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار ، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم ، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء ، وعدم الوفاء بالوعد : ( أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدَاً أَبَدَاً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُواْ لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ ) (الحشر : 11 ـ 12).
    1 ـ لقد تصدّى القرآن الكريم ، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم ، وخططهم ، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة ، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر ، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

(90)
    ولذلك ، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أيّ جماعة اخرى إذ يقول : ( إِنَّ الْمنَافِقينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (النساء : 145).
    ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً ، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام و بعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له ، والمؤامرة عليه ، بحيث لولا وجود النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لأتوا على ذلك الدين ، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه ، وأطفأوا نوره.
    وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر (الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره ، وخاصّة بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وغياب شخصه عن الساحة.
    وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين ، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب ، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد
    لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى ، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.
    فلقد كان شعب الجزيرة العربية ، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.
    صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين (وهم اليمنيّون) والعدنانيين (وهم الحجازيّون) ، إلاّ أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة ، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس