مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 101 ـ 110
(101)
ماذا يُراد من الخلافة عن رسول الله ؟
    إنّ الإمامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلافة عنه تتصوّر بمعنيين :
    الأوّل : أنّها إمرة إلهيّة واستمراراً لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهيّ ، وهذا ما تعتقده الشيعة الإماميّة في الإمامة والخلافة ، ويشترط فيه كلّ ما يشترط في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ما استثني.
    الثاني : أن تكون رئاسةً دينيّةً لتنظيم اُمور الاُمّة ، من تدبير الجيوش وسدّ الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم وإقامة الحدود وقسم الفيء بين المسلمين وقيادتهم في حجّهم وغزوهم (1). وهذا ما يعتقده اخواننا أهل السنّة في الخلافة ، ولأجل ذلك لا يشترط فيها نبوغ في العلم زائداً على علم الرعيّة ، بل هو والاُمّة في علم الشريعة سيّان ، كما لا يشترط سائر الصفات سوى القدرة على التدبير.
    فلو كانت الخلافة بالمعنى الثاني الذي اختاره إخواننا أهل السّنّة، فيكفي في لزوم نصب الإمام ما مرّ في البحث السابق.
    وأمّا إذا قلنا بما اختاره الشيعة الإماميّة ، فيجب أن يكون الإمام ذات صفات وملكات يملأُ بها كلّ الفراغات الحاصلة بوفاة النبيّ ، والإمام بهذه الخصائص يحتاج إلى تربية إلهيّة كما في النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يعرف تلك الشخصيّة مع ما تتصف به من الصفات إلاّ الله سبحانه ، فيجب أن يعرّفها إلى الاُمّة وإلاّ جهلها الناسن ويلزم نقض الغرض.
    ولأجل الاختلاف في معنى الإمامة ، عقدنا هذا البحث وفصلناه عن البحث السابق.
    1 ـ وقد أجمل الماورديّ مسؤوليّات الإمام في عشرة ، لاحظ الأحكام السلطانيّة : 15 ـ 16.

(102)
الطريق الثاني
2
وفاة النبيّ والفراغات الهائلة
    1 ـ الفراغ في بيان الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة.
    2 ـ الفراغ في تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده.
    3 ـ الفراغ في مواصلة تكميل الاُمّة روحياً ونفسياً.
    4 ـ الفراغ في مجال الردّ على الأسئلة والشبهات.
    5 ـ الفراغ في صيانة الدين من محاولات التحريف.

دراسة الفراغات لماذا ؟
    إنّ دراسة الفراغات الهائلة المذكورة والحاصلة بوفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم والوقوف على كيفيّة سدّها بعده ، تعيننا على معرفة لون الحكومة الإسلاميّة ـ بعده ـ.
    وعلى القارىء، أن يتأمّل في هذه النقاط الحساسة ، بتجرّد وموضوعية ، حتّى يقف على ضالّته المنشودة.
    لاشكّ أنّ وجود النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان يملأُ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الاُمّة الإسلاميّة.
    فالرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لم تقتصر مسؤوليّاته وأعماله على تلقيّ الوحي الإلهيّ وتبليغ الرسالة الإلهيّة إلى الناس ، بل كانت تتجاوز ذلك بكثير.


(103)
    فقد كان النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقوم بـ :
    1 ـ بيان الأحكام الإسلاميّة من كليات وجزئيات.
    2 ـ تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده وبيان أهدافه ، وكشف رموزه وأسراره.
    3 ـ دفع اُمّته ـ بحسن قيادته ودرايته ـ في طريق الكمال والرّقيّ والتقدّم. وتربية المسلمين ، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية ، وإعداد المسلم القرآني الكامل.
    4 ـ الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام ، ويوجّهونها ضد الدعوة الإسلاميّة.
    5 ـ صون الدين الإسلاميّ والرسالة الإلهيّة من أيّة محاولة تحريفية .. ومن أيّ دس في التعاليم المقدّسة.
    وقد كانت كلّ هذه الاُمور تعتمد بالإضافة إلى (الوحي) إلى قدرات نفسيّة عالية ، وقابليات فكريّة هائلة ، ومعنويّات خاصّة تؤهّل النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم للقيام بكلّ تلك المهام الجسيمة ، والاضطلاع بجميع تلك المسؤوليات الكبرى.
    ولا ريب أنّ من كان يقوم بمثل هذه المسؤوليات ، يعتبر فقده وغيابه من الساحة ملازماً لحدوث فراغ هائل في الحياة الاجتماعيّة ، وثغرة كبرى في القيادة لايسدّها إلاّ من يقوم مقام النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في القدرة القياديّة ، والإداريّة ، ويتمتّع بكلّ تلك الكفاءات الذاتيّة ، ويتحلّى بجميع تلك الصفات النفسية العليا ، والمؤهّلات الفكريّة والعلميّة والسياسيّة ، ما عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي.
    ولمّا كانت هذه الكفاءات النفسيّة والمؤهّلات المعنويّة من الاُمور الباطنيّة الخفيّة التي لايمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلاّ بتعريف من اللّه تعالى وتعيينه وتشخيصه.
    كما أنّها لمّا كانت لا تحصل للشخص بطريق عاديّ وبالتربية البشريّة المتعارفة بل لابدّ من اعداد إلهيّ خاص ، وتربية إلهيّة خاصّة ، ينطرح هذا السؤال :


(104)
    هل كان يمكن للاُمّة أن تتعرفّ بنفسها على هذا الشخص .. وتكتشف من تتوفر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات الخفيّة بالطرق العاديّة ؟ أو كان يحتاج ذلك إلى تشخيص اللّه تعالى ، وتعيينه وتنصيبه ؟.
    ولو قلت : إنّ رحيل النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يوجد فراغاً في الرسالة واستمرار الوحي فكيف يمكن سد هذا الفراغ ؟ أو هل يمكن ملؤه أيضاً ؟.
    قلنا : إنّ خصيصة الخاتميّة التي أخبر عنها القرآن الكريم ، واتّصفت بها النبوّة المحمّديّة ، تخبر عن عدم حصول مثل هذا الفراغ ، وعدم احتياج الاُمّة إلى تتابع الرسالات واستمرار الوحي ، والاتصال السماويّ بالأرض، لأنّ الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم جاء بأكمل الشرائع وأتمّها ، وأوفاها بحاجات البشريّة.
    وبعبارة اخرى ، إنّ الرسول الخاتم قد أتى بكلّ ما تحتاج إليه البشريّة من تشريعات للحاجات الفعليّة ، ومن اُصول للتشريعات اللازمة للحاجات المستجدّة فلا توجد وفاة الرسول فراغاً في ذلك الجانب ، وإنّما الفراغ هو في الجوانب القياديّة الخمس المذكورة، التي تحتاج إلى الكفاءات والمؤهّلات الذاتيّة والنفسيّة التي كان يتمتّع بها الرسول القائد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    إنّ الوجوه التي تدلّ بصراحة كافية على أنّ الاُمّة الإسلاميّة لم يكن في مقدورها اختيار ومعرفة القائد المناسب الذي يخلّف الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ويقود الاُمّة بنفس المؤهّلات والكفاءات التي كان يتحلّى بها النبيّ الراحل ـ ماعدا الوحي ـ بل كان يجب تعريفه من جانب اللّه سبحانه ، وتعيينه ونصبه لقيادة الاُمّة وسدّ ما حدث ـ بوفاة النبيّ القائد المعلّم ـ من فراغ بل فراغات..
    إنّ هذه الوجوه هي :

1 ـ الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة
    لاشكّ أنّ الوحي الإلهيّ انقطع بوفاة الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كما لا شكّ أنّ


(105)
الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم التحق بربه وقد أدّى ما عليه من مهمّة التبليغ والدعوة خير أداء ، وقام بتثقيف الاُمّة الإسلاميّة أفضل قيام ، ولكن الاُمّة كانت تعاني ـ بعد وفاة النبيّ ـ من مشكلات كبيرة تشريعيّة بالنسبة للحوادث المستجدّة والوقائع الجديدة ، فماذا كان السبب ؟ فهل كان هناك نقص في التشريع الإسلاميّ ، أم كان هناك أمر آخر يتعلّق بالاُمّة نفسها ؟.
    وبعبارة اخرى : إنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة أعلنا من جانب عن إكمال الشريعة وأنّه ما من شيء تحتاج إليه الاُمّة إلاّ وقد جاء به الكتاب والسنّة ، وبيّنه وأتمّه النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    وهذا ممّا لا يشكّ فيه أحد من المسلمين ، خصوصاً بعد القول بخاتميّة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وانسداد باب الوحي الإلهيّ.
    ومن جانب آخر ، نرى بأن الاُمّة الإسلاميّة فوجئت بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بحوادث جمّة لم تجد لها حلولاً في الكتاب والسنّة ، وقد اعترفت بذلك أتم اعتراف.
    فكيف يمكن الجمع بين الأمرين والتوفيق بينهما ؟.
    إنّ الذي تدلّ عليه الشواهد التأريخية، هو أنّ المسلمين لم يستطيعوا ـ رغم ما بذله الرسول الأكرم من جهود كبرى في فترة رسالته ـ أن يستوعبوا التربية العلميّة الكافية والتعبئة الفكريّة اللازمة التي تؤهّلهم لمواجهة جميع المفاجئات ، وحلّ جميع المشكلات والمسائل المستجدّة بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وذلك لأنّ مثل هذه التربية الكافية ، وهذه التعبئة الوافية بالحاجة والحاجات المستجدّة كانت تتطلّب فترة طويلة ، وجوّاً من الطمأنينة ، وتركيزاً شديداً.
    ولكن هذه الظروف والشرائط المساعدة لم تتوفّر لا للمسلمين ، ولا للنبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم خلال مدّة الدعوة التي استغرقت 23 عاماً.
    وإليك فيما يأتي تفصيل العوامل التي حالت دون أن يستوعب المسلمون جميع أبعاد الشريعة ، ويتلقّوا عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم التعبئة الفكرية الكافية والتعليم الواسع ، رغم


(106)
مابذله صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في سبيل تحقيق ذلك من جانبه :
    (أ) : لقد قضى الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم الفترة المكّيّة من حياته الرسالية ـ التي استغرقت 13 عاماً كاملة ـ في دعوة المشركين في مكّة ، وما حولها. تلك الدعوة الرفيقة الرحيمة المخلصة التي كانت تقابل بالعناد واللجاج منهم ، وتواجه بالمضايقات وخلق الصعوبات.
    وحتّى لو تمكّن الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من إحراز بعض النجاح في مهمّته فإنّ عناد المشركين والوثنيين يجعل تلك النتائج قليلة وضئيلة .. واستمر هذا الحال في مكّة حتّى انتهى إلى محاولة اغتيال الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم والقضاء على حياته الشريفة ـ في فراشه ـ ، وكانت الهجرة المباركة إلى يثرب (المدينة).
    إنّ تركيز الدعوة في مكّة على الجوانب الاعتقادية لم يسمح بالتكلّم عن القوانين العباديّة والاجتماعيّة ، والسياسيّة. . هذا مضافاً إلى أنّ التحدّث عن هذه الجوانب والمسائل التي تتعلّق بالنظام الاجتماعيّ في ذلك الجوّ الخانق ، ومع تلك العقول البدائيّة ، والنفوس غير المستعدّة ، كان بعيداً عن مقتضى البلاغة ، التي تقتضي أن يكون لكلّ مقام مقال ولكلّ مقال مقام.
    لأجل ذلك نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكّة تدور ـ في الأغلب ـ حول قضاياالتوحيد والمعاد وإبطال الشرك ومقارعة الوثنيّة وغيرها من القضايا الاعتقاديّة الكليّة ، حتّى صار أكثر المفسّرين يعرف الآيات المكّية والمدنيّة ويميّز بينهما بهذا المعيار.
    وأمّا في الفترة المدنيّة التي استقبل فيها أهل المدينة رسول الإسلام بحفاوة بالغة وشوق كبير ، فقد تمكّن الرسول الأكرم ـ بعد أن وجد بعض الأجواء المناسبة للتربية والتعليم ـ أن يبيّن للاُمّة بعض أحكام الإسلام ويطبق قسماً منها ، ويعرّف الناس بواجباتهم وحقوقهم ، وما يجب أن يعرفوه من مسائل الحلال والحرام.
    غير أنّ حياة الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في المدينة لم تسلم ولم تخل هي أيضاً من مزاحمة


(107)
المشاكل الكثيرة ، فقد أثار تمركز المسلمين في يثرب ، وتعالي شوكتهم ، وتعاظم أمر الرسالة الإسلاميّة حفيظة الكفّار والمشركين ، وخوفهم وقلقهم من مستقبل الأمر ، ودفعهم ذلك إلى التعرّض للرسول والمسلمين في المدينة اكثر من مرة.
    وهذه الحملات والتحرشات وإن كانت تواجه موقفاً شجاعاً وقوياً من المسلمين بقيادة الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وكانت تعود في كل مرة بالويل والخيبة على أصحابها ، كما تشهد بذلك وقائع بدر وأحد والأحزاب وغيرها ، إلاّ أنهّا كانت ـ ولا شكّ ـ تأخذ الكثير الكثير من أهتمام الرسول ووقته الذي كان يصرفه إلى تجهيز المسلمين وتهيئتهم لصد العدوان ، ومواجهة الأعداء أو إبطال المؤامرات التي كانت تبيّت ضدّ الدولة الإسلاميّة الفتيّة ، الحديثة التأسيس في المدينة المنوّرة.
    هذا إلى جانب المشاكل الداخلية التي كان يثيرها المنافقون واليهود الذين كانوا ـ كما قلنا ـ بمثابة الطابور الخامس ، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين ، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل ، وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من الوقت الذي كان يمكن أن يصرف على تربية المسلمين وتعبئتهم الفكريّة واعدادهم العلميّ ، وتعليمهم ما يعينهم على حلّ كلّ ما قد يطرأ على حياتهم ويستجدّ من مشكلات ومسائل وحوادث في المستقبل.
    إنّ اشتراك النبيّ في ( 27 ) غزوة، كان البعض منها يستغرق أكثر من شهر ، والاشتغال ببعث وتسيير ما يقارب ( 55) سرّية لقمع المؤمرات وإبطالها ، وصدّ التحركات العدوانيّة.
    وبالتالي، أنّ ماصرفه الرسول القائد في مواجهة المثلّث الت آمري (اليهود ـ المنافقون ـ المشركون)أخذ من وقت الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم واهتمامه وجهده ما لو اتيح له أن يصرفه على تعبئة المسلمين علميّاً ، وتربيتهم فكرياً ، لأتى بثمار كبيرة وكثيرة.
    على أنّ الوظائف المهمة التي كان يضطلع بها النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ويقوم بها بنفسه لمتقتصر على هذه الاُمور ، بل كانت تقع على كاهله مهمّة : (عقد الاتفاقيّات السياسيّة


(108)
والمواثيق العسكريّة الهامّة)التي يزخر بها تأريخ الدعوة الإسلاميّة (1).
    مثل هذه الحياة الحافلة بالأحداث والوقائع ، الزاخرة بالصعوبات والمتاعب، كانت تحمل المسلمين من جانب آخر على صرف جلّ اهتمامهم وأوقاتهم في مسألة الدفاع عن حياض الإسلام ، وحياة الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فإذا ما تيسّر لهم بعض الفرصة والفراغ ، وانصرفوا إلى تعلّم الأحكام والقوانين الإسلاميّة، إذا بحوادث جديدة تستقطب اهتمامهم ، وتسلب منهم فرصة الأخذ ، والتعلّم الواسع من النبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    وخاصّة إذا عرفنا أنّ أوضاع المسلمين وإمكاناتهم البشريّة وعددهم لم يبلغ حدّاً يسمح بأن تتفرّغ كل جماعة منهم لعمل خاصّ، جماعة للدفاع وجماعة للزراعة ، وجماعة للتعلّم والتفقّه ، ولكن كان الجميع جنوداً عند تعرّض البلاد لهجوم الأعداء ، فإذا فرغوا من الحرب انصرفوا ـ بعض الوقت ـ إلى الزراعة أو التعلّم ، أو التكسّب والتجارة.
    (ب) : لقد كان التشريع الإسلاميّ يشقّ طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الاجتماعيّة في عهد الرسول الأكرم ، وما كانت تثيره من أسئلة وتتطلّب من حلول هي التي كانت توجب نزول التشريع عن طريق الوحي الإلهيّ ، وبهذه الصورة كان التشريع الإسلاميّ يتكامل ، ويتخذ صيغته الكاملة.
    وهذا هو شأن كلّ تشريع ، فلا يمكن أن يكون القانون وليد لحظة واحدة من الزمان أو مقتضيات يوم واحد ، بل يكون وقوع الحوادث والوقائع هو السبب في اتّساع دائرة القانون وتكامله.
    ثمّ إنّ تكامل التشريع الإسلاميّ ليس بالمعنى المتبادر في التشريعات البشريّة المتكاملة تدريجياً.
    فإنّ الباعث على التدرّج في التشريعات (الوضعيّة) هو عدم علم المشرّع بما سيحدث ، وأمّا التشريع الإسلاميّ فالمشرع فيه هو اللّه سبحانه وهوعالم بمقتضيات الأحكام ومصالحها وملابساتها وما يوجب النسخ والتخصيص فيكون معنى التكامل
    1 ـ راجع كتاب الوثائق السياسيّة للبروفسور محمّد حميد اللّه. ومكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي.

(109)
التشريعيّ في الإسلام ، هو التكامل في البيان والتدريج في النزول، لأجل أنّ بيان الأحكام لا يصحّ إلاّ بعد وجود مقتضيات وشروط في نفس المجتمع.
    أضف إلى ذلك، أنّ التدريج في البيان والنزول إذا كان متّصلاً بالواقعة الخاصّة التي نزل في حقّها القرآن يكون أوقع في النفوس وأقرب إلى الحفظ ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وا حِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيْلاً ) (الفرقان : 32) وقوله سبحانه : ( وَقُرْءَانَاً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الْنَّاسِ عَلَى مُكْث وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيْلاً ) (الاسراء : 106).
    هذا مضافاً إلى ناحية خاصّة بالمجتمع المدنيّ في عهد الرسول كانت تستوجب هذا التدرج، وهو كون ذلك المجتمع فاقداً لأيّ قانون اجتماعيّ وأخلاقيّ ، فكان تعليمه جميع القوانين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دفعةً واحدةً ، أو في فترة قصيرة، أمراً يكاد يكون مستحيلاً حتّى لو خلت حياة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من المشاكل والمتاعب التي مرّ ذكرها.
    وقد كان ذلك عاملاً من عوامل عدم قدرة الاُمّة على استيعاب كلّ معالم الشريعة وأبعادها وتفاصيلها وتفريعاتها ، وأخذها من النبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    ثمّ إنّ اُموراً وأسباباً عديدةً اخرى كانت تقتضي التدرّج في نزول القرآن الكريم إلى جانب ما ذكرناه ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :
    1 ـ تثبيت فؤاد النبيّ
    إنّ النبيّ إذ كان يتحمّل مسؤوليةً ضخمةً جداً وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقّات صعبة جدّاً، كان لابدّ له من إمداد غيبيّ مستمرّ غير منقطع ونجدة إلهيّة متّصلة، ولهذا كان نزول جبرائيل المتكرر موجباً لتسليته وتقويته الروحيّة وإلى هذا أشار القرآن إذ قال : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادكَ ) ( الفرقان : 32).


(110)
2 ـ تسهيل عملية التعليم
    إنّ صعوبة مهمّة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً ، ليسهل تعليمه للناس وإلقاؤه إليهم.
    كيف لا، والنبيّ طبيب يعالج النفوس ، ويداوي الأرواح وذلك يقتضي التدرّج في العلاج كما يفعل المداوون.
    3 ـ بيان الميزة التطبيقيّة للقرآن
    إنّ القوانين التي تسنّ طبقاً للحاجات ، وعند ظهور المشكلات ، تكون أقرب إلى النتيجة المطلوبة منها فيما لو سنّت جملةً في وقت واحد.
    ولهذا، كانت الآيات القرانية تتنزّل وفقاً للحاجات وتبعاً للحوادث التي كانت تقع شيئاً فشيئاً ، فيأخذ بها المسلمون ويعالجون بها مشكلاتهم فيشاهدون النتائج العمليّة الطيّبة ، فبسببها تزداد ثقتهم بالوحي ويزداد تعلقّهم به.
    وبهذا كان القرآن يحقّق نجاحات كبيرةً في النفوذ إلى القلوب والأعماق لأنّه كان يقرن العلم بالعمل ، ويلبّي الحاجات الفكريّة والحياتية .. وهي أفضل وسيلة للتأثير في القلوب.
    4 ـ تعدّد الاحتجاجات
    إنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية كانت تتنزّل على النبيّ في مقام الاحتجاج على طوائف اليهود والنصارى ، الذين كانوا يتوافدون على النبيّ بين فينة وأخرى ، فكان طبيعياً أن تنزل الآيات في أوقات متعدّدة وأزمنة متفاوتة.
    5 ـ التدليل على صدق الرسالة
    إنّ التدرّج في التنزيل كان أحد الأدلة الساطعة على صدق هذا الكتاب في
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس