مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 111 ـ 120
(111)
انتسابه إلى اللّه ، وكونه وحياً سماوياً وليس تأليفاً بشريّاً .. إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وأشهر وأعوام متفاوتة مع حفظ النمط الخاصّ بها ، ورغم ما تعرّض له الرسول في حياته الرسالية من شدّة ورخاء ، وعسر ويسر ، وهدوء واضطراب ، وسلم وحرب، كان خير دليل على أنّ هذا الكلام لم يكن إلاّ وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم ، وخالق عليّ عليم .. فكان ذلك أظهر لعظمة القرآن ، وأقوى دليل على إعجازه.
    ( ج ) : إنّ اتساع رقعة الد ولة الإسلاميّة ، ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة بسبب الفتوحات المتتالية التي قام بها المسلمون، جعلهم أمام مشاكل مستجدّة ومسائل مستحدثة لم تكن معهودةً ولا معروفةً في عهد النبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم الذي لم تكن فيه الدولة الإسلاميّة قد توسعت كما توسعت بعد وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى.
    فهل كان من الصحي ـ ح ـ والحال هذه ـ أنّ يبيّن الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم للناس،حلولاً لمشاكل لم تحدث بعد ، ويتحدث عن موضوعات لم يعرفوا شيئاً عن ماهيتها وتفاصيلها ، ولم يشهدوا لها نظيراً في حياة الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وانّما كانت تحدث بصورة طبيعية فيما بعد ؟.
    ألم يكن بيان تلك الأحكام والحلول لتلك الموضوعات المستقبلية المجهولة عملاً غير مفيد ، بل أمراً صعباً للغاية ، لأنّه لم يكن في وسع المسلمين أنّ يدركوا معناه وهم لم يعرفوها عن كثب ولم يعرفوا لها أيّ مثيل ونظير؟.
    وهكذا لم يتسنّ للمسلمين أنّ يتعرّفوا على كلّ شيء فيما يتعلق بالحوادث والموضوعات الواقعة في المستقبل ، ولذلك كانوا يجهلون الكثير من الأحكام المتعلّقة بها ، والحلول اللازمة لها.
    هذه كانت أهم العوامل التي حالت دون أن يستطيع المسلمين استيعاب كافة التعاليم والأحكام الإسلاميّة من النبيّ الكريم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    فلم يكن ما وعوه منه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وافياً بالحاجات المستجدة .. وهذا ما يلمسه كلّ من درس تأريخ الاُمّة الإسلاميّة في الصدر الأوّل .. وستقف على نماذج من هذه الحاجات


(112)
التي لم يجد فيها المسلمون الأجوبة فيما لديهم من تشريع.
    هذا من جانب.
    ومن جانب آخر أنّ القرآن الكريم يصرّح في غاية الوضوح بأن ّ اللّه سبحانه أكمل دينه بنبيّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إذ يقول سبحانه : ( الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينَاً ) (المائدة : 3).
    كما يصرّح النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بذلك في خطابه التأريخي عند عودته من حجة الوداع إذ يقول : « يا أيّها الناس واللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه » (1).
    وأكّدالإمام عليّ (عليه السلام) على هذه الحقيقة أيضاً إذ قال : « أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول ـ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ـ عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيء ) و فيه تبيان لكلّ شيء (2).
    فإذا كان اللّه قد أكمل دينه فلا نقصان ، بل كمال وتمام ، فلماذا كانت الاُمّة تعجز عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة؟.
    ترى كيف اُكمل الدين في السنة العاشرة من الهجرة ، وبيّن الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة من علوم ومعارف وأصول وفروع وحلول لمشاكلهم الفعليّة والحادثة فيما بعد ؟.
    هل استودع النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كلّ ذلك عند الاُمّة نفسها ، وقد تقدم استحالة تحقق ذلك في تلكم الفترة القصيرة .. ومع تلك المشاكل الكثيرة ، وعدم قدرة الناس على الاستيعاب والأخذ الكامل ؟.
    1 ـ الكافي 2 : 74 وتحف العقول : 40 (طبعة إيران ).
    2 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم (18).


(113)
    كيف لا، وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في الفروع والاُصول لا تتجاوز (500) حديثاً.
    قال السيد محمّد رشيد رضا في الوحي المحمّديّ : (إنّ أحاديث الأحكام الاُصول خمسمائة حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر) (1).
    وقال أيضاً في موضع آخر : (يقولون : إنّ مصدر القوانين الاُمّة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازيّ ، والمنصوص قليل جداً) (2).
    هذه هي كلّ الأحاديث المنقولة عن طرق أهل السنّة ، وهي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم غالباً ، بينما نعلم أنّ ما حدث ووقع بعد وفاة الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان أكثر بكثير ممّا حدث في حياته الشريفة.
    ثمّ لما كانت أكثر الأحاديث ردّاً على الأسئلة التي يطرحها الصحابة ، وتدور حول ما كان يحدث لهم ، لذلك لم يسألوا عمّا لم يحدث ولم يقع بعد.
    وقد كان هذا عاملاً مهمّ ـ اًمن عوامل قلّة الحديث النبويّ في الأحكام.
    هذا مضافاً إلى، أنّ السبب الآخر لقلّة الحديث النبويّ، هو ضياع طائفة كبيرة منه ، لعدم اعتناء الأوائل بتدوين السنّة وهو الأمر الذي استوجب وقوع الخلاف والاختلاف حتى في أبسط المسائل ، وأكثرها ابتلاء، مثل الاختلاف في عدد التكبيرات في صلاة الموتى ، وهو أمر كما نعلم ممّا يبتلى به المجتمع كثيراً ، ولو كان هناك شيء مكتوب لما وقع الاختلاف والحيرة.
    فإذا بطل هذا الشقّ (أي استيعاب الاُمّة جميع ما يحتاجون إليه وتكميل الدين من هذا الطريق) تعيّن الشقّ الآخر لتفسير تكميل الدين، وهو أنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أودع كل ما تحتاج إليه الاُمّة من اُصول وفروع لدى فرد أو طائفة خاصّة من الاُمّة، لكي يرجع إليهم المسلمون بعده صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ويعالجوا بما يخرجونه إليهم من تلك المعارف والعلوم ،
    1 ـ الوحي المحمّديّ ( الطبعة السادسة ) : 212.
    2 ـ تفسير المنار لرشيد رضا 5 : 189.


(114)
مشاكلهم في العقيدة والعمل ، في اُمور الدين والدنيا.
    أجل لابدّ أن يكون في الاُمّة من يرفع هذه الحاجة ، أي يكون حاملاً لعلم النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وإن لم يكن له نصيب في النبوّة ، إيفاءً لغرض التشريع الإلهيّ ويكون له من الكفاءات والمؤهّلات ما تؤهّله للقيام بمثل هذه العبء الثقيل والأمر الخطير ، ويسدّ بالتالي ما أحدثه رحيل الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وغيابه من فراغ بل فراغات هائلة وخطيرة.
    على أنّ من يتحمّل هذه العلوم لايمكن أن يتحمّلها عن طريق الأسباب العاديّة والتربية العرفيّة المتعارفة ، وإلاّ لتيسّر للجميع أن يتحمّلوها .. ثمّ إنّ التعلّم والتربية على هذا النمط، أقصر من أن ينتج شخصيّةً متفوّقةً علميّةً كفوءةً للقيام مقام النبيّ في علمه وسياسته ودرايته وكياسته ، وتدبيره وإدارته وجميع مؤهّلاته (ما عدا النبوّة وتلقّي الوحي الإلهيّ السماويّ) ويفي بغرض التشريع ويسدّ الفراغ الحاصل بوفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    بل لابدّ أن يكون تعلّمه وأخذه لتلك المعارف والعلوم الجمّة من طرق غير متعارفة وتربية تفوق نوعاً وكيفاً ما تعارف من التربية والتعليم.
    ثمّ إنّ التعرف على مثل هذا الشخص أمر متعذّر على الاُمّة لدقّة المواصفات وخفاء المؤهّلات .. فلابدّ أن يكون التعريف من جانب اللّه المحيط بجمبع عباده ، العارف بأسرارهم وسرائرهم ، العالم بنفوسهم ونفسياتهم ، وذلك بالتنصيص عليه بالاسم والشخص.
    وبعبارة اُخرى : إنّ هناك أمرين يتطلّبان أن يكون القائم مقام النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم متعيّناً بتنصيص من اللّه سبحانه :
    الأوّل : أنّه يجب أن يكون القائم مقامه قادراً على تبيين ما لم يبيّنه النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لكافّة المسلمين وعامّتهم ، لأسباب خاصّة وقفت عليها في هذا المقام .. وهذه المقدرة لا تحصل في فرد أو طائفة ، إلاّ بتربية إلهيّة خاصّة ، وتعليم خارج عن نطاق التعليم المألوف ، ولولا هذه العناية الخاصّة لما قدر القائم مقام النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على سدّ الفراغ الحاصل من وفاته.


(115)
    الثاني : أنّ التعرف على هذا الشخص لايتحقق بالاختبار والتجربة ، أو أنّه يصعب معرفته بهذا الطريق.
    وعلى هذين الأمرين، يجب أن يكون القائم مقام النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ذا تربية إلهيّة أوّلاً ، ومعرّفاً من جانبه سبحانه ثانياً .. وهذا يعيّن لون الحكومة وشكلها بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    إنّ ما ذكرناه، عن عدم إحاطة الاُمّة ومعرفتها بكلّ معالم الشريعة الإسلاميّة وأحكامها ومعارفها على النحو الذي يعينها على حلّ مشاكلها المستحدثة، لم يكن مجرّد ادّعاء خال من الدليل ، فلنا أن نستدل على ذلك بوجهين :
    الأوّل : اعتراف ثلّة من الصحابة بعدم وجود الحلول في الكتاب أو السنّة لبعض المسائل.
    الثاني : ذكر بعض الموارد التي لم يردفيها نصٌّ اسلاميٌّ صريح ، ممّا جعل المسلمين أن يأخذوا فيها بظنونهم ، أو أن يأخذوا بمقاييس ومعايير لم يرد على صحّتها دليل.
    وإليك أمثلة من الوجهين :

أوّلاً : اعتراف الصحابة بالقصور
    أ ـ عن ميمون بن مهران قال : (كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب اللّه ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول اللّه في ذلك الأمر سنّة قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قضى في ذلك بقضاء؟ فربّما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فيه قضايا ، فيقول أبو بكر : الحمد للّه الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا.فإن أعياه أن يجد فيه سنّةً عن رسول اللّه، جمع رؤوس الناس وخيارهم فأستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) (1).
    إنّ هذا اعتراف صريح من الخليفة والصحابيّ، بأنّ الكتاب والسنّة النبويّة
    1 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 (مادة جهد).

(116)
ـ عندهم ـ كانا غير وافيين بالحاجات الفقهيّة ، ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.
    ب ـ عندما نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضياً للكوفة، قال له فيما قال : (إن جاءك شيء من كتاب اللّه، فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ، فانظر سنّة رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ولم تكن في سنّة رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ولم يكن في سنّة رسول اللّه ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أيّ الأمرين شئت .. إن شئت أن تجتهد برأيك لتقدّم فتقدّم ، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر ، ولا أرى التأخّر إلاّ خيراً لك) (1).
    في حين نجد الإمام عليّاً (عليه السلام) لمّا ولّى شريحاً القضاء يشترط عليه أن لا ينفّذ القضاء حتّى يعرضه عليه .. (2).
    ج ـ عن عبد اللّه بن مسعود قال : ( أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك ، وإنّ اللّه قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فإن جاءه ما ليس في كتاب اللّه فليقض بما قضى به رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فإن جاءه ما ليس في كتاب اللّه ولم يقض به رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فليقض فيه بما قضى به الصالحون ، ولا يقل إنّي أخاف وإني أرى) (3).
    وزاد مؤلف كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة » :
    فإن جاء أمر ليس في كتاب اللّه ولم يقض به نبيّه ولم يقض به الصالحون، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي (4).
    1 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي3 : 212 (مادة جهد ).
    2 ـ وسائل الشيعة 18 : 6 كتاب القضاء ( أبواب صفات القاضي ، الباب الثالث).
    3 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 ـ 213 (مادة جهد).
    4 ـ تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة : 177 ، على ما نقله مؤلّف : الإمامة في التشريع الإسلاميّ.


(117)
    د ـ كان ابن عباس إذا سئل عن أمر : فإن كان في القرآن أخبر به ، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أخبر به ، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن قال فيه رأيه (1).
    إنّ هذه العبارات وما يشابهها من الاعترافات ، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلاميّة عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    فهي تكشف ـ بوضوح ـ عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدةً لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقّوه من النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

ثانياً : بعض ما لا نص فيه من المسائل
    إنّ الوجه الثاني الذي يدل على عدم استيعاب الاُمّة لكل أبعاد الشريعة وتفاصيلها، هو الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ صريحٌ ، فعمد الصحابة إلى الأخذ بالرأي والقياس، التماساً للحلول والأحكام المناسبة.
    ولذلك أضطرّ الصحابة منذ الأيام الاولى من وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى إعمال الرأي والاجتهاد في المسائل المستحدثة ، وليس اللجوء إلى الاجتهاد بمختلف أشكاله إلاّ تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبويّة ـ عندهم ـ للوقائع المستحدثة بالحكم والتشريع.
    غير أنّ الاجتهاد في هذا العصر وما بعده، لم يكن مقصوراً على الاجتهاد المألوف بين الشيعة الإماميّة من ردّ الفروع إلى الاُصول ، وتطبيق الكليات على المصاديق والجزئيات ، بل كان يعبّر عن لون آخر أشبه بإبداء الرأي من عند الشخص بلا دليل وحجّة قاطعة فيما بينه وبين اللّه.
    1 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 213 (مادة جهد).

(118)
    فقد أحدثوا مقاييس للرأي ، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط لم يكن منها أثر في الشرع ، وكان القياس أوّل هذه المقاييس ، ومن هذه المعايير : المصالح المرسلة ، وسدّ الذرائع والاستحسان ، إلى غيرها من القوانين التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلاميّ ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها ، وتشعّبت بهم مذاهبها ، ولم يجد الفقهاء بدّاً من الالتجاء إلى إعمال الرأي في مثل هذه المسائل ، وللبحث حول هذه المعايير المصطنعة مقام ومجال آخر فيطلب منه.
    وإليك فيما يلي بعض هذه الموارد ، وهي غيض من فيض ، وقليل من كثير :

(أ) : فيمَنْ شرب خمراً
    رفع رجل إلى أبي بكر وقد شرب الخمر ، فأراد أنّ يقيم عليه الحدّ ، فقال : إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها، لأنّي نشأت بين قوم يستحلّونها ، ولم أعلم بتحريمها حتى الآن .. فتحيّر أبو بكر في حكمه .. فأرسل إلى أم ـ ير المؤمنينعليّ (عليه السلام) فقال :
    « مرّ رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار يناشدانهم هل فيهم أحد تلى عليه آية التحريم ، أو أخبره بذلك عن رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فإن شهد بذلك رجلان فأقم عليه الحدّ ، وإنّ لم يشهد أحد بذلك ، فاستتبه وخلّ سبيله ».
    ففعل أبو بكر ذلك فلم يشهد أحد فاستتابه وخلاّ سبيله (1).

(ب) : ما الكَلاَلَة ؟!
    سئل أبو بكر عن الكلالة في قوله تعالى ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤاٌْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) (النساء : 176). فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن اللّه وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان واللّه
    1 ـ الإرشاد للمفيد : 106 ، مناقب ابن شهر آشوب : 489


(119)
ورسوله بريئان منه ، أراه ما خلا الولد والوالد ، فلمّا استخلف عمر قال : إنّي لأستحيي اللّه أن أردّشيئاً قاله أبو بكر (1).
    وهكذا نرى من يتصدر مقام الزعامة والقيادة في المجتمع الإسلاميّ، يجهل حكماً إسلامياً ويعمد إلى رأيه الشخصيّ ، والأخذ بظنه.

(ج) : أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر
    وفعت إلى عمر بن الخطاب أمرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها ، فبلغ ذلك عليّاً فقال : « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال : « قال اللّه تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنَ كَامِلَينِ ) (البقرة : 233) وقال : ( وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرَاً ) (الأحقاف : 15) فستّة أشهر حمله وحولان رضاعه فذلك ثلاثون شهراً » ، فخلاّ عنها (2).
    ولايمكن القول بأنّ حكم هذه المسألة قد جاء في صريح الكتاب ، لأنّ معنى وروده في الكتاب العزيز هو أن يكون مفهوماً لأغلبية الصحابة ، ومعلوماً لهم ، وخاصّةً لمن يتصدر مقام الزعامة ، ولكن الواقعة بمجموعها تثبت بأن استخراجه وفهمه لم يكن مقدوراً إلاّ للإمام.

(د) : مسألة العوْل
    لقد شغلت هذه المسألة بال الصحابة فترةً من الزمن .. وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم التي واجهت جهاز الحكم.
    1 ـ سنن الدارمي 2 : 365 ، تفسير الطبري 6 : 30 ، الجامع الكبير للسيوطي6 : 20 ، تفسير ابن كثير 1 : 260.
    2 ـ السنن الكبرى 7 : 442 ، مختصر جامع العلم : 150 ، تفسير الرازي 7 : 484 ، الدرّ المنثور 1 : 288 ، ذخائر العقبى : 82.


(120)
    ويعنى من العول، أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض ، ولا تقصر إلاّ بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة ، ومثال ذلك، ما إذا ترك الميت زوجةً وأبوين وبنتين. ولمّا كان سهم الزوجة ـ حسب فرض القرآن ـ الثمن ، وفرض الأبوين الثلث ، وفرض البنتين الثلثين، فإنّ التركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين ، أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختين للأب ، فلمّا كان فرض الزوج النصف ، وفرض الأختين الثلثين، زادت السهام عن التركة ، فهنا ـ عندما ـ يجب إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن ، وذلك كالأبوين والبنتين والأختين لاستحالة أن يجعل اللّه في المال ثمناً وثلثاً وثلثين ، أو نصفاً وثلثين وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك.
    ولكن هذه المسألة لمّا طرحت على عمر بن الخطاب تحيّر ، فأدخل النقص على الجميع استحساناً وهو يقول : (واللّه ما أدري أيكم قدّم اللّه ، ولا أيّكم أخّر ، ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة) (1).

(هـ) : الطلاق في الجاهليّة والإسلام
    سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقةً فقال : (لا آمرك ولا أنهاك).
    فقال عبد الرحمان بن عمر : (لكنّي آمرك ، ليس طلاقك في الشرك بشيء) (2).

(و) : معنى الأبّ
    بينا عمر جالس في أصحابه إذ تلا هذه الآية ( فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبَّاً * وَعِنَبَاً وقَضْبَاً
    1 ـ أحكام القرآن للجصّاص 2 : 109 ، مستدرك الحاكم4 : 340 وصحّحه.
    2 ـ كنز العمال 5 : 161.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس