مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 121 ـ 130
(121)
وَزَيْتُونَاً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبَاً * وَفَاكِهَةً وَأَبَّا ) ( عبس : 27 ـ 31 ) ، ثمّ قال : (هذا كله عرفناه فما الأبّ؟) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال : (هذا لعمر اللّه هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه) (1).

(ز) : خمسةُ أشخاص أُخذوا في الزنا
    أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ .. وكان أمير المؤمنين حاضراً .. فقال : « ياعمر، ليس هذا حكمهم » ، قال عمر : أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه ، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال : يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة ، أقمت عليهم خمس حكومات (أي أحكام) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :
    « نعم ... أما الأوّل : فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.
    وأمّاالثاني : فرجل محصن قد زنا فرجمناه.
    وأمّا الثالث : فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.
    وأمّا الرابع : فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.
    وأمّا الخامس : فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».
    فقال عمر : (لا عشت في اُمّة لست فيها يا أبا الحسن) (2).
    هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح ، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح ،على أنّه لو كان
    1 ـ المستدرك للحاكم 2 : 514 ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي11 : 268 ، الكشّاف 3 : 314.
    2 ـ الكافي 7 : 265.


(122)
الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها ، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم(فيما عدا مقام الوحي والنبوة) ، إذ بهذه الصورة فحسب،كان من الممكن أن يلي النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّمويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه ، من حل معضلاتها ، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة ، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك ، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.
    وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

2 ـ الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده
    لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً ، وعلى نسق واحد ، بل فيه : المحكم والمتشابه والعامّ ، والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمنسوخ والناسخ،مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته (1).
    ثمّ لمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ ،جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها .. فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.
    أضف إلى كل ذلك ، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها
    1 ـ ولقد أشار الإمام عليّ ( عليه السلام ) إلى هذه الاُمور بقوله :
    « خلّف ( أيّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) .. فيكم كتاب ربّكم ، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه ، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة : الخطبة رقم (1).


(123)
درجةً ، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر ، وعلى أبعاد عديدة (1) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها : النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة ، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.
    ولو سأل سائل :
    إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول : ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) (المائدة : 15).
    كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبيٌّ مُبِينٌ ) (النحل : 103).
    ويقول في آية اخرى بأن اللّه سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلْذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ) (القمر : 17 ، 22 ، 32 ، 40).
    ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : ( فَإِنَّمَا يَسَّ ـ رْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (الدخان : 58).
    ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح ، وما التفسير إلاّ رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.
    كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّ ـ رقد قال الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فيه : « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) في شأنه : « كتاب اللّه تبصرون به وتنطقون به
    1 ـ ولقد أشار النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى هذا بقوله :
    « له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) 2 : 598 ـ 599.


(124)
وتسمعون به وينطق بعضه ببعض » (1).
    لأجبنا : صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر ، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم للناس إذ يقول تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْذِكْرَ لِتُبَيِّ ـ نَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (النحل : 44). ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيِهِ ) (النحل : 64).
    فقد وصف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في هاتين الآيتين ، بأنّه مبي ـ ّن لما في الكتاب لا قارىء فقط.
    فكم من فرق بين القراءة والتبيين؟.
    بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه ، فهو يبي ـ ّن للرسول والرسول يبيّن للناس ، كما يقول سبحانه : ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (القيامة : 16 ـ 19).
    إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن ، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر ، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى(مبيّن) ومفسّر لعدّة أسباب :
    أوّلاً : وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.
    ثانياً : كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.
    ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول ، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.
    كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور ، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :
    أوّلاً : إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً ، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 129 (طبعة عبده ).

(125)
والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها ، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم ، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن : المطلق والمقيّد ، والعام والخاصّ ، والمنسوخ والناسخ ، والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها .. فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.
    فكان لابدّ أن يتولّى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بيان مجمله ومطلقه ومقيده .. وما شابه ذلك ، وقد فعل النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين .. بيد أنّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة ، لعدم الحاجة إلى ذلك ، وتحيّناً للظروف المناسبة ، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة ، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه ، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.
    نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّ (رحمه اللّه) في تفسير قوله سبحانه : ( حم * والْكِتَابِ الْمُبِينِ ) (الزخرف : 1 ـ 2 والدخان : 1 ـ 2 ).
    (إنّما وصف بأنّه مبين ، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه ، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر ، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه) (1).
    ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى اللّه ، بحيث لايشك أحد في كونه كلام اللّه والآية نظير قوله سبحانه ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ
    1 ـ التبيان 9 : 224 (طبعة النجف الأشرف).

(126)
فِيهِ ) (البقرة : 2)، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب اللّه سبحانه.
    أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه : ( وَأَنْزَلنَا إِلَيْكَ الْذِّكْرَ لِتُبيِّ ـ نَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (النحل : 44) وقوله سبحانه : ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِه * ِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرءَانَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ * ثُمّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (القيامة : 16 ـ 19، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.
    ثانياً : لمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور ، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة ، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل ، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود ، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة » (1).
    فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة ، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف ، الذي لايزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلاّ معرفة أنّ الإنسان لايزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره ، فإنّ كتاب اللّه تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند اللّه الذي لايضمّه أين ولا تحدّده نهاية ، ولا تحصى أبعاد قدرته ، ولا تعرف غاية عظمته.
    إذن ، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة ، وأفاق كثيرة ، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.
    ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات ، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة،
    1 ـ البرهان في تفسير القرآن 1 : 28.

(127)
حتّيتكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته ـ عليهم السلام ـ وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.
    وبتعبير آخر : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة ، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.
    إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :
    ( لَوْ كَاَنَ فِيهِمَا آلِهةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (الأنبياء : 22).
    ( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذَاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَاخَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض ) (المؤمنون : 91).
    ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) (النمل : 82).
    وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد ، وما بدأ من السور بالتسبيحات.
    أقول : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّ ـ راً للجميع ، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي ، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.
    كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة ، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.
    وقد تمكّن الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف ، واستعدّت له النفوس المعاصرة ، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه


(128)
للقيام بهذه المهمة الخطيرة ، فيما يأتي من الزمان ، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.
    ثالثاً : لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ .. ولذلك ، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده ، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.
    ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن ، وبعد الناس عن عهد نزوله ، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة ، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.
    وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم ، وتاريخه ، وعلومه.
    ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّ (عليه السلام) من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقول (عليه السلام) : « لا تخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً » (1).
    وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة ، ولايمكن رفع هذا الاختلاف إلاّ بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة ، وتعتبر قوله قول النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    1 ـ قال سبحانه في آية الوضوء : ( فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْديَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ ) (المائدة : 6).
    وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية ، وصارت الاُمّة إلى قولين :
    فمن عاطف لفظ ( أرجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.
    ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.
    ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة (77).

(129)
فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟ (1).
    2 ـ لقد حكم ا للّه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال : ( وَالسَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) (المائدة : 38).
    وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :
    فمن قائل : إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام ، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.
    ومن قائل : إنّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكفّ والذراع ، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي ّ.
    ومن قائل : إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج (2).
    3 ـ أمر اللّه سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه : ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أوِ امْرَأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ اُخْتٌ فَلِكلِّ وَاحِد مِنْهُما السُّدُسُ ) (النساء : 12).
    وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) (النساء : 176).
    فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟
    لاشكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين .. بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.
    ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما
    1 ـ وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة ، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى ، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى 3 : 54 ، لاحظ المسألة (200) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها ، ومفاتيح الغيب 11 : 161 ( طبع دار الكتب العلمية).
    2 ـ راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ) : 184.


(130)
    عنده من علوم مستودعة.
    ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات ، كالواحديّ وغيره ، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.
    على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها ، ماورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود ، وإليك نماذج من ذلك :
    1 ـ قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيْتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (البقرة : 189).
    فيقال، أيّ مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله : ( وَلَيْسَ البِرُّ بِأَنْ تَأتُوا ... ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور ( وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.
    2 ـ قوله سبحانه : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا ل لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أنَّ الْنَّاسَ كَانُوا بِ آياتِنَا لاَ يُوقِنُونَ ) (النمل : 82).
    فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض ، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.
    3 ـ وقوله سبحانه : ( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هوَ الْتَّوَّابُ الْرَّحِيمُ ) (التوبة : 118).
    إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.
    هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن ، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث ، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس