مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 131 ـ 140
(131)
    إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ ، من دون زيادة أو نقصان ، ومن دون تحريف أو تزييف ، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة .. ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه ، وأميناً على سره ، ومؤدّباً بتأديبه ، وناشئاً على ضوء تربيته ، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف ، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.
    لقد كان من المتعيّن على اللّه بحكم الضرورة والعقل ، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة ، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته ، ويبيّن أبعاده ، ويكشف عن معالمه ، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة ، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة ، وهو الإرشاد والهداية ، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.
    إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير ، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.
    يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد اللّه (جعفر بن محمّد الصادق) (عليه السلام) :
    إنّ اللّه أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون باللّه.
    قال : « صدقت ».
    قلت : إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة ، وأنّ لهم الطاعة المفترضة ، وقلت للناس : تعلمون أن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان هو الحجّة من اللّه على خلقه ؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين


(132)
مضى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من كان الحجّة على خلقه؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقاً ، فقلت لهم : من قيّم القرآن ؟ (1) فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم ، قلت : كلّه ؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّاً (عليه السلام) وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا : لاأدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري ، فأشهد أنّ عليّاً (عليه السلام) كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضةً ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.
    فقال (الإمام الصادق) : « رحمك اللّه » (2).
    كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) فقال له : « كلّم هذا الغلام » ، يعني هشام بن الحكم ، فقال : نعم ، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ : أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا ، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.
    قال : فمن هو ؟
    قال : رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    قال هشام : فبعد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم؟
    قال : الكتاب والسنّة.
    قال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟
    قال الشاميّ : نعم.
    قال : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت ألينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟
    1 ـ أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني ، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول).
    2 ـ الكافي 1 : 168 ـ 169.


(133)
    قال : فسكت الشاميّ.
    فقال أبو عبد اللّه للشامي ّ : « مالك لا تتكلم؟ ».
    قال الشاميّ : إن قلت : لم نختلف كذبت ، وإن قلت : إنّ الكتاب السنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه ، وإن قلت : قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلاّ أنّ لي عليه هذه الحجّة (1).
    أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.
    وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن اللّه به كتابه هو من عناه النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.
    فقد قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب .. إني تارك فيكم خليفتين كتاب اللّه وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (2).
    وروي هكذا أيضاً : « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : الثّقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ألاّ وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (3).
    فقد صرح النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بعدم افتراق الكتاب والعترة ، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.
    كما أنّه جعلهما خليفتين بعده ، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن
    1 ـ الكافي 1 : 172.
    2 ـ رواه أحمد بن حنبل في مسنده 5 : 182 و 189 ، والحاكم في مستدركه 3 : 109 ، ومسلم في صحيحه 7 : 122 ، والترمذيّ في سننه 2 : 307 ، والدارميّ في سننه2 : 432 ، والنسائيّ في خصائصه : 30 ، وابن سعد في طبقاته 4 : 8 ، والجزريّ في اسد الغابة 2 : 12 ، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.
    3 ـ رواه أحمد بن حنبل في مسنده 5 : 182 و 189 ، والحاكم في مستدركه 3 : 109 ، ومسلم في صحيحه 7 : 122 ، والترمذيّ في سننه 2 : 307 ، والدارميّ في سننه2 : 432 ، والنسائيّ في خصائصه : 30 ، وابن سعد في طبقاته 4 : 8 ، والجزريّ في اسد الغابة 2 : 12 ، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.
    وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام 1375 هـ.


(134)
ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.
    وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.

3 ـ الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً
    إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون ، تهدينا إلى أنّ اللّه خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله ، وعلّته الغائيّة ، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال ، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.
    ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة ، فقد زودّه اللّه تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ..
    ولم يكن معقولاً أن يهمل اللّه تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه ، وقيّض وسائله.
    ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين : المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلاّ في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً ، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيءمن إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات ، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته ، وتوجيهه ، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.
    من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر .. ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم ، بالتزكية والتعليم والتربية ، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل ، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده اللّه لها.
    وقد قام انبياء اللّه ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن ، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،


(135)
وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى ، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.
    لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً ، دوراً أساسيّاً وعظيماً ، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.
    ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع ، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل ، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود .. فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة ، فسقطت في الحضيض ، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة .. وعادت كالأنعام بل أضلّ.
    ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام) إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة ، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً ، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة : « الحمد للّه الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه ( إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بلْ هُمْ أضَلُّ سَبِيلاً ) » (1).
    ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلاّ عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.
    إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام ، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط ، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة ، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،
    1 ـ الصحيفة السجادية : الدعاء الأوّل.

(136)
وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.
    إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل ، وهداية الأنبياء ورعايتهم ، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين ، للنبيّ ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال ، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب ، والتقهقر إلى الوراء ، كيف لا ، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.
    فهل يسوغ للّه سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال؟.
    إنّ اللّه سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة ، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه و تقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة ، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي؟ (1).
    وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب اللّه سبحانه ، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :
    أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : « إنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم » (2).
    ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ] ( عليهما السلام ) : « إنّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل » (3).
    1 ـ هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً) : 304.
    2 ـ الكافي1 : 178.
    3 ـ الكافي1 : 178.


(137)
    ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة : « اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً ، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته » (1).
    وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام : أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟
    فقال : نعم.
    فقال : ألك عين ؟
    قال : نعم.
    قال : فما تصنع بها؟
    فقال : أرى بها الألوان والأشخاص.
    قال : فلك أنف؟
    فقال : نعم.
    قال : فما تصنع به ؟
    فقال : أشمّ به الرائحة.
    قال : ألك فم ؟
    فقال : نعم.
    قال : فما تصنع به ؟
    فقال : أذوق به الطعام.
    قال : فلك اُذن؟
    فقال : نعم.
    قال : فما تصنع به ؟
    1 ـ نهج البلاغة : قصار الكلمات.

(138)
    فقال : أسمع به.
    قال : ألك قلب؟
    فقال : نعم.
    قال : فما تصنع به ؟
    فقال : اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.
    قال : أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟
    فقال : لا.
    قال : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟
    فقال : يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته ، أو ذاقته ، أو سمعته ، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك ّ.
    قال هشام : فإنّما أقام اللّه القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟
    قال : نعم.
    قال : لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟
    قال : نعم.
    قال : يا أبا مروان ، فاللّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها (إماماً) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم (إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك (إماماً) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!
    قال هشام : فسكت ولم يقل لي شيئاً (1).
    وغير خفي على القارىء النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات ، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة ، وتجرّد عن الآراء المسبقة.
    1 ـ الكافي 1 : 170.

(139)
    غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصة ً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب اللّه وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.
    وصفوة القول : أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل ، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء ، ولا تقهقر ولا تراجع.
    ومن المعلوم ، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلاّ بتنصيب من اللّه سبحانه وتعيينه.

4 ـ الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات
    لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية ، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.
    وقد قام الرسول الأعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد ، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.
    وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود اللّه أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر ، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.
    ولا شكّ ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين ، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلاّ أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.


(140)
نماذج من الأسئلة العويصة
    عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قال لهم اليهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :
    1 ـ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.
    2 ـ وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟
    3 ـ وسلوه عن الروح ماهي ؟
    فأقبلوا على رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة ، فأخبرهم عن أجوبتها ، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف ، والثاني ، هو ذو القرنين الذي ذكره اللّه في سورة الكهف أيضاً ، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى اللّه بأمره حيث قال : ( وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (الإسراء : 85) ، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى اللّه تعاليإليه (1).
    كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فاستدلوا لاعتقادهم في المسيح (عليه السلام) بكونه ولداً للّه، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ، فأجابهم بما أوحى إليه اللّه سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال اللّه في هذا الصدد : ( إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَاَلَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران : 59) (2).
    وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أهل خمسة أديان : اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.
    ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم
    1 ـ سيرة ابن هشام 1 : 300و 575.
    2 ـ سيرة ابن هشام 1 : 300 و 575.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس