مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 141 ـ 150
(141)
وطالبوه بالإجابات المقنعة الكافية ، وجعلوا ذلك شرطاً لإسلامهم والتصديق به وبرسالته ، فأجابهم الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بأجوبة كافية شافية مذكورة بتفصيلها في محلّها فأسلموا على أثر ذلك (1) ، والقصة بطولها جديرة بالمطالعة.
    وقد بلغت هذه الحملات المعادية للإسلام ذروتها بعد وفاة الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وغياب شخصه الكريم عن الساحة .. فشهد عهد الخلفاء موجات هائلةً من التيارات الإلحادية ، والمحاولات التشكيكيّة وطرح التساؤلات العويصة ، التي هبّت على المجتمع الإسلاميّ لتزعزع المسلمين عن عقيدتهم ، وذلك عندما أخذ يتوافد على المدينة جموع القساوسة والرهبان والأحبار يحملون إلى المسلمين الأسئلة العويصة ، والشبهات المريبة.
    ولمّا كان مجرد الاطلاّع على الأحكام والمعارف الإسلاميّة وحدها لايكفي في مواجهة تلكم الحملات والتيارات ، بل ينبغي أن يكون المتصدّي للرد على تلك الشبهات مضطلعاً ومطّلعاً على ما في الأديان والمباديء الاخرى من عيوب ونواقص ، وثغرات ، لذلك، فإنّ المتصدّرين لمقام الخلافة كانوا يعانون صعوبات جمّةً وعجزاً ذريعاً في الإجابة عليها ، أو كانت الردود غير مقنعة ولاكافية.
    إنّ التأريخ الإسلاميّ يحدثنا أنّ المسلمين لم يبلغوا من الناحية الفكريّة والعلميّة والإحاطة بالمبادىء والأديان الاخرى درجةً تؤهلهم للقيام بذلك ، ولم يقدر أحد منهم، على مجابهة اولئك العلماء المتوافدين من أرباب الأديان أو الملحدين إلى عاصمة الدولة الإسلاميّة من كلِّ فج عميق بهدف الإيقاع بالإسلام والمسلمين.
    وقد أثبتت الوقائع التي وقعت في ذلك العهد، أنّ الشخص الوحيد الذي كانت ترجع إليه الاُمّة ، ويرجع إليه من تسلّموا مسند الخلافة والحكومة بعد النبيّ لحلِّ تلك المعضلات وردِّ تلك الشبهات والإجابة على تلك التساؤلات ، كان هو الإمام عليّ ـ عليهالسلام ـ.
    وإليك نماذج من تلك الأسئلة :
    1 ـ الاحتجاج للطبرسيّ ( من علماء القرن السادس الهجريّ ) 1 : 16 ـ 24.

(142)
    1 ـ جاء بعض أحبار اليهود إلى أبي بكر فقال : أنت خليفة نبيّ هذه الاُمّة ؟
    قال : نعم.
    فقال : إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم، فأخبرني عن اللّه تعالى ، أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟
    فقال أبو بكر : هو في السماء على العرش.
    فقال اليهوديّ : فأرى الأرض خاليةً منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.
    فقال أبو بكر : هذا كلام الزنادقة.
    فولىّ الحبر متعجّباً يستهزىء بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) فقال : « يا يهوديّ قد عرفت ماسألت عنه وما اجبت به ، وإنّا نقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ أين الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان وهو في كلِّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدِّق ما ذكرته لك ... » (1).
    2 ـ قدم إلى الكوفة أربعون رجلاً من اليهود يريدون طرح أسئلة عل ـ ى عليّ (عليه السلام) فلمّا وقفوا بين يديه قالوا : (صف لنا ربّك ، هذا الذي في السماء كيف هو ؟ وكيف كان ؟ومتى كان ؟ وعلى أي شيء هو؟).
    فاستوى عليّ جالساً وقال : « إنّ ربّي عزّ وجلّ هو الأوّل لم يبد ممّا ولا ممازج معما ، ولا حالّ وهماً ولا شبح يتقصّى ، ولا محجوب فيحوى ، ولا كان بعد أن لم يكن فيقال حادث بل جلّ أن يكيّف المكيِّف للأشياءكيف كان ، بل لم يزل ولا يزول لاختلاف الأزمان ولا لتقلّب شان بعد شان وكيف يوصف بالأشباح وكيف ينعت بالألسن الفصاح .. » إلى آخر كلامه المفصّل (2).
    3 ـ عن سلمان الفارسيّ في حديث طويل ذكر فيه قدوم كبير النصارى (الجاثليق)
    1 ـ الإرشاد للمفيد : 108 في قضايا أمير المؤمنين.
    2 ـ مناقب آل أبي طالب : 490 ـ 491.


(143)
إلى المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم :
    وسأل أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ ارشد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فسأله عنها وكان ممّا سأل عنه أنّه قال : (أخبرني عن وجه الربِّ تبارك وتعالى) ، فدعا عليّ بحطب ونار فأضرمه ، فلمّا اشتعلت قال عليّ (عليه السلام) له : « أين وجه هذه النّار؟ ».
    قال النصرانيّ هي وجه من جميع حدودها فقال (عليه السلام) : « هذه النار مدّبرة مصنوعة لا يعرف وجهها ، وخالقها لا يشبهها ، وللّه المشرق والمغرب ، فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه ، لا يخفى على ربِّنا خافية » (1).
    4 ـ وسأله رأس الجالوت (اليهودي)عن مسائل بعد ما سأل أبا بكر فلم يجبه..
    سأله : ما أصل الأشياء ؟
    فقال (عليه السلام) : هو الماء لقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيء حَىّ ) (الانبياء : 30).
    : وما جمادان تكلّما ؟
    فقال (عليه السلام) : هما الأرض والسماء لقوله تعالى : ( فَقَالَ لَها وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعَاً أوْ كَرْهَاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (فصلت : 11).
    : ما شيئان ينقصان ويزيدان ولا يرى الخلق ذلك ؟فقال (عليه السلام) : هما الليل والنهار لقوله تعالى : ( يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي الَّيلِ ) (الحديد : 6).
    إلى غير ذلك من المسائل العويصة ، والصعبة التي أجاب عنها الإمام عليّ (عليه السلام) بسرعة أدهشت الجاثليق وأثارت إعجابه (2).
    هذا ولم تقتصر الموارد التي واجه فيها قادة المسلمين شبهات وأسئلة عجزوا عن
    1 ـ قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب : 88 ( طبعة النجف ).
    2 ـ مناقب ابن شهر آشوب1 : 490 ـ 491 عنه البحار40 : 224.


(144)
ردهّا والإجابة عليها على ما ذكرناه ، بل هناك عشرات الموارد الاخرى نذكر بعضها إجمالاً :
    1 ـ سؤال الغلام اليهوديّ من عمر بن الخطاب في اليوم الأوّل من خلافته وإرجاع الخليفة له إلى الإمام عليّ (عليه السلام) (1).
    2 ـ بعد أن ارتد الحارث بن سنان الأسدي الذي كان أحد الصحابة ، والتحق بالروم ، حث الروم على طرح بعض الأسئلة على المسلمين ، فتوجّه ممثل الروم إلى المدينة وطرح بعض الأسئلة (2).
    3 ـ سؤال القائد الروميّ من عمر (3).
    4 ـ الأسئلة التي طرحها علماء اليهود على عمر حول أصحاب الكهف (4).
    5 ـ سؤال كعب الأحبار من عمر (5).
    6 ـ وفود أسقف نجران على عمر وطرح بعض الأسئلة عليه (6).
    7 ـ وفود جماعة من اليهود على عمر وطرح بعض الشبهات والمواضيع عليه (7)
    8 ـ وفود جماعة من اليهود على عمر أيضاً وطرح بعض الأسئلة عليه (8).
    9 ـ سؤال كعب الأحبار من عمر ، وإحالة عمر له على الإمام أيضاً (9).
    1 ـ الغدير 6 : 168 ، نقلاً عن كتاب زين الفتى في تفسير هل أتى تأليف أحمد بن محمّد بن عليّ العاصميّ الشافعيّ ( مخطوط ) ، علي والخلفاء : 138 ـ 145 ، نقلاً عن فرائد السمطين 1 : باب 66 ( مخطوط ).
    2 ـ قضاء أمير المؤمنين : 263.
    3 ـ تذكرة الخواص لابن الجوزيّ المتوفّي عام (656 هـ) : 144 ـ 147 (طبع النجف الأشرف).
    4 ـ غاية المرام للبحرانيّ المتوفّي عام ( 1107 هـ) : 517 ، والغدير6 : 47 نقلاً عن العرائس في قصص الأنبياء : 227.
    5 ـ كنز العمال للمتّقي الهنديّ 4 : 55 نقلاً عن طبقات ابن سعد المتوفّي عام (207 هـ ).
    6 ـ تفسير البرهان 2 : 107 ، عليّ والخلفاء : 171 نقلاً عن كتاب زين الفتى.
    7 ـ قضاء أمير المؤمنين للتستريّ : 67( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : 176.
    8 ـ قضاء أمير المؤمنين : 82( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : 178.
    9 ـ قضاء أمير المؤمنين : 64 ، البحار 9 : 483 (الطبعة القديمة).


(145)
    10 ـ سؤال كعب الأحبار من عثمان وإرجاع عثمان له على الإمام عليّ (1).
    11 ـ طرح سؤال عويص من الروم على معاوية والتماس معاوية الجواب من الإمام عليّ بطريقة ماكرة (2).
    12 ـ طرح أسئلة اُخرى من جانب البلاط الرومانيّ على معاوية واستمداد معاوية الأجوبة من الإمام عليّ (عليه السلام) (3).
    13 ـ طرح أسئلة للمرّة الثالثة من جانب الامبراطور الرومانيّ على معاوية والتماس معاوية الأجوبة من الإمام عليّ (عليه السلام) أيضاً (4).
    إنّ هذه الوقائع ووقائع كثيرةً اُخرى تشير بوضوح إلى عدم قدرة الاُمّة ، على مواجهة الشبهات والشكوك التي كان يبثّها ويلقيها أعداء الإسلام على المسلمين لتقويض عقيدتهم ، فهل كان من الجائز أن يترك اللّه سبحانه الاُمّة الإسلاميّة ـ والحال هذه ـ من دون أن يربّي ويخلّف فيهم من يصون الدين ويحفظ عقيدة اتباعه من أخطار التشكيك، وذلك بالوقوف في وجه كلّ مشكّك وصاحب شبهة بالمنطق أو الجدل المفحم ، وهل يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفاً بأبعاد الدين وقضاياه تفصيلاً ، ويكون محيطاً بما في الأديان الاخرى وما في كتبها وعند علمائها ؟
    أليس أيّ نكسة تصيب المسلمين في هذا المجال من شأنها أنّ تؤثر على معنويّتهم وتزعزع اعتقادهم ، وتزيد من جرأة الأعداء وطمعهم في إخراج المسلمين من دينهم ؟.
    إنّ بقاء أيّ دين وعقيدة ، يرتبط بمدى قدرة المدافعين عن حياضه ، والذبّ عن كيانه الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ ، إمّا بقوّة السلاح أو بقوّة المنطق من قبل
    1 ـ عليّ والخلفاء : 313 نقلاً عن كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين : 119
    2 ـ المصدر نفسه.
    3 ـ قضاء أمير المؤمنين : 78 و 114 ، عليّ والخلفاء : 320.
    4 ـ قضاء أمير المؤمنين : 16 نقلاً عن مناقب ابن شهر بن آشوب.


(146)
الشخصيات المؤهلة القادرة على الدفاع الحازم.
    بل لابدّ من الاعتراف بأنّ القوّة العسكريّة وحدها غير كافية للمحافظة على سطوع الدين وبقائه ، وسلامته على مدار الزمان ، فلابدّ ـ مضافاً إلى ذلك ـ من وجود الشخصيّات العلميّة اللائقة التي تحرس سياج الدين ، وتلبّي احتياجات الاُمّة ، وتمدّها وتمدّ عقيدتها بطاقة البقاء والاستقامة والحياة.
    من هنا يتعين على صاحب الدعوة تربية وتعيين من يكون جديراً بتحمل هذه المسؤولية وقادراً على القيام بها لينير للمسلمين طريقهم ، ويصون من شبهات العابثين المغرضين إيمانهم وعقيدتهم.

5 ـ الفراغ في مجال صيانة الدين من التحريف
    إنّ من أهم ما كان يقوم به النبيّ العظيم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم هو محافظته الشديدة على الدين وصيانته من التحريف والدسّ ، فقد كان يعلم المسلمين كتابهم العزيز ، ويراقب ما أخذوه عنه من اُصول وفروع فينبّه على خطأهم ، ويدلّهم على الحق.
    و لا ريب أنّ من أبرز ما تتمتّع به امّة من الامم، هو قدرتها على حفظ دينها من كيد الكائدين ودس الداسيّن وتحريف المحرفين ، وهو الخطر الذي تعرضت له جميع الأديان السالفة والمذاهب السابقة وعانت منه أسوء أنواع الدسّ والتحريف وإلى هذا يشير القرآن إلى ما عانى منه دين موسى على أيدي أتباعه اليهود ، إذ قال : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) (النساء : 46).
    ولقد كان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقوم بهذه المهمة الخطيرة في حياته الشريفة .. فكيف يمكن تحقيق ذلك بعد وفاته ؟ وكيف يمكن حفظ الدين من التحريف بعده ؟!
    إنّ صيانة الدين من التحريف والدسّ ، لا تمكن إلاّ إذا توفرت لدّى الاُمّة اُمور ثلاثة :


(147)
    1 ـ أنّ تكون الاُمّة قد بلغت في الرشد الفكريّ والعقليّ مبلغاً يؤهلها للحفاظ على أسس الشريعة ومفاهيمها من أيِّ دسّ وتحريف.
    2 ـ أن تكون فروع الدين واُصوله واضحةً ومعلومةً لدّى الاُمّة ، وضوحاً يمكِّنها من تمييز الحقّ عن الباطل ، والدخيل عن الأصيل في مفاهيمه ، وعقائده وتشريعاته.
    3 ـ أن يكون لديها كلّ ما صدر من النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من أحاديث ونصوص كاملة ، لتقدر بمراجعة ما لديها من الحديث وعلم الكتاب ومعارفه، على أن تميِّز الصحيح من المجعول والوارد من الموضوع.
    ولا ريب أنّ الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت آنذاك بفضل جهود صاحب الدعوة ، إلى درجة مرموقة من الوعي والحفظ لنص الكتاب الكريم ما يجعلها قادرةً على حفظ النصّ القرآنيّ من التحريف ، وصونه من محاولات الزيادة والنقصان كما نرى ذلك في قصة الصحابيّ الجليل « ابيّ بن كعب » الذي كان له موقف عظيم من عثمان في قضية إثبات الواو في آية الكنز، وإليك الواقعة كما ينقلها تفسير الدرّ المنثور عن علباء بن أحمر : (إنّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا (1) أن يلقوا (الواو) التي في سورة البراءة في قوله تعالى : ( يَا أيُّهاالَّذِينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَليم ) (التوبة : 34).
    قال ابيّ : (لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي) فألحقوها (2).
    فقد كان عثمان يريد أن يقرأ قوله تعالى : ( والَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار اليهود .. وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم ، فإنّ حذف الواو كان يعني، أنّ آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين، بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من
    1 ـ هكذا في الأصل ، والصحيح : أراد إلاّ أن يراد الكتّاب.
    2 ـ الدرّ المنثور 3 : 232.


(148)
هذا إضفاء طابع الشرعيّة على اكتناز الأموال الطائلة الذي كان يقوم به جماعة من بطانة الخليفة كما يشهد بذلك التأريخ.
    ولكن عثمان لم يستطع تحقيق هذا المطلب فقد عارضه أبّي بن كعب ، واعترض عليه هذا التغيير الطفيفة اللفظي في الظاهر.
    وهذا يكشف عن مدى حفظ الاُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة. بيد أنّ حفظ الاُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحدّ ، إذ كان غير شامل لجوانب اخرى من الشريعة واُصولها ومصادرها وينابيعها.
    ويدل على ذلك :
    أوّلاً : أنّ ألامّة اختلفت في تفسير الكثير من آيات القرآن ، وبيان مقاصده ومعارفه اختلافاً جرّ إلى تعدّد المذاهب ، ونشوء الاتّجاهات المختلفة ، والتيارات المتضاربة وكلّ يتمسّك بالكتاب وربّما بالسنّة.
    فمن جبريّة إلى معتزلة ، إلى صفاتيّة إلى خوارج ، إلى مرجّئة ، وشيعة ، وكلّ منها يتفرع إلى فرق وطوائف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في العقيدة والمسلك ، وفي الاُصول والفروع (1).
    فهل يمكن أن يكون كلّ ذلك هو الحقّ الذي تضمّنه القرآن ، ودعا إليه ؟!!
    أليس ذلك يدل على أنّ الاُمّة لم تبلغ في الإحاطة بالشريعة والنضج الفكريّ الإسلاميّ ذلك المستوى الذي يؤهلها لحفظ الاُصول والفروع ، والمحافظة على ما يتّصل بالكتاب والسنة ، وطرح ما لا يمتّ إليهما بصلة.
    ثانياً : أنّ التأريخ يشهد بأنّ الأمّة الإسلاميّة ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتسّعت رقعة البلاد الإسلاميّة واستوعبت شعوباً كثيرةً ، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار
    1 ـ راجع للوقوف على هذه المذاهب وفروعها : الملل والنّحل للشهرستانيّ والفرق بين الفرق وغيرهما ممّا ألّ ـ ف في هذا المجال.

(149)
اليهود وعلماء النصارى في الإسلام ، مثل كعب الأحبار وتميم الداريّ ووهب بن منبّهوعبد اللّه بن سلام ، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين ، وراحوا يدسون الأحاديثالإسرائيليّة ، والخرافات والأساطير النصرانيّة في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.
    وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة ، تخيِّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن ، وتؤثر في حياتهم العمليّة ، وتوجّهها في الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم. ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير ، إلاّ من عصمه اللّه كعليّ (عليه السلام) الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال : « ولو علم النّاس أنّه منافق كذّاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدّق ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول اللّه ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله » (1).

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة :
    وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له أحاديثهم ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الاُمّة ما كّتب في هذا الصدد مثل كتاب :
    ميزان الاعتدال للذهبيّ.
    وتهذيب التهذيب للعسقلانيّ.
    ولسان الميزان للعسقلانيّ
    ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال.
    ولعل فيما قاله البخاري صاحب « الصحيح » المعروف ، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة ، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري :
    إنّ أبا علي ّ الغسّانيّ روي عنه أنّه قال : خرّجت الصحيح من 600 ألف
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 205.

(150)
حديث (1).
    وروى عنه الإسماعيليّ أنّه قال :
    احفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (2).
    ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم (الصحاح والمسانيد) من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن غيرها ، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال، انتخبته من خمسمائة ألف حديث (3).
    ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرارعلى ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث (4).
    وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف (5).
    وذكر احمد في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (6).
    وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأمينيّ في موسوعته (الغدير ) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 650.
    وما قام به رحمه اللّه وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه ، غير أنّه لو قام بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.
    1 ـ من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : 4.
    2 ـ من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : 5.
    3 ـ طبقات الحفّاظ للذهبيّ 2 : 154 ، تاريخ بغداد 9 : 57.
    4 ـ إرشاد الساري 1 : 208 ، صفوة الصفوة 4 : 143.
    5 ـ طبقات الحفاظ للذهبيّ 2 : 151 ، 157 ، شرح صحيح مسلم للنوويّ1 : 32.
    6 ـ طبقات الذهبيّ 9 : 17.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس