مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 491 ـ 500
(491)
مخالف لأصل العدالة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها. يقول اللّه سبحانه : ( وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوانَ الشَّيَاطِينِ ) (الاسراء : 26 ـ 27).
    ويقول سبحانه : ( وَكُلُوا وَ اشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسرِفِينَ ) (الأعراف : 31).

8 ـ الأخلاق عامل أصيل
    إنّ جميع المفاهيم الأخلاقية لا معنى لها ولا مبرّر في النظامين الاقتصادييّن (الرأسماليّ والاشتراكيّ) إلاّ إذا ساعدت على زيادة الإنتاج وزيادة الاستهلاك وإنجاح الأهداف الاقتصاديّة ، بل إنّ الفكر الاشتراكيّ يعتبر الأخلاق وليدة الظروف الاقتصاديّة ، وبذلك تعتقد بعدم أصالتها في الحياة البشريّة ، ولكن الإسلام يعتبر لهذه المفاهيم أصالة وواقعيّة بصرف النظر عن القضايا الاقتصاديّة وإن كانت ترتبط بها أحياناً.
    ولهذا ورد الحثّ عليها حثّاً مطلقاً وأكيداً فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إنّ اللّه يحبّ مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها » (1).
    وعن أبي عبد اللّه الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : « عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ اللّه عزّ وجلّ يحبّها ، وإيّاكم ومذامّ الأخلاق فإنّ اللّه عزّ وجلّ يبغضها » (2).
    فالذي يطلب الدنيا وشهواتها ولذائذها ويضحّي في سبيل ذلك بكلّ القيم والأخلاق فهو إنسان في صورته وحيوان في سيرته كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه فذلك ميت الأحياء » (3).
    1 ـ سفينة البحار 1 : 411.
    2 ـ وسائل الشيعة ( كتاب جهاد النفس ) 11 : 156.
    3 ـ نهج البلاغة : الخطبة 83.


(492)
    هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام يعتبر العامل الأخلاقيّ خير وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة التي ينشدها ، ويعزّي أكثر الانحرافات الاقتصاديّة إلى انعدام الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانيّة.

9 ـ الاقتصاد وسيلة لا هدف
    إنّ كلا المنهجين الرأسماليّ والاشتراكيّ يجتهدان لتحقيق أهداف ثلاثة لا شيء وراءها :
    1 ـ التخطيط لما يجب إنتاجه من البضائع.
    2 ـ التفكير في الكيفيّة التي يجب الإنتاج بها من حيث الوسائل ، والقوى العاملة.
    3 ـ التفكير في كيفيّة التوزيع ، والتخطيط لذلك.
    إنّ أفضل نظام اقتصاديّ في ن ـ ظر أصحاب هذين النظامين ، هو الذي يقدر على ضمان هذه الاُمور الثلاثة وإعطاء الاقتراحات المناسبة لذلك بأحسن وجه ، وأمّا ما هو الهدف الأصليّ من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة ؟ فلم يفكّر فيه النظامان المذكوران ، ولا أنّهما أجابا عليه.
    ويمكن أن يقال : إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست من اختصاص النظام الاقتصاديّ ، بل هو من مسؤوليّة العالم الفلسفيّ ، وشؤونه ، بيد أنّنا عندما نراجع العالم الماديّ الذي يستند إليه هذان النظامان لا نجد عنده جواباً كذلك.
    من هنا لا بدّ أن نعتبر هذه الأهداف الثلاثة مثلّث الضياع والعبث والحيرة فالذي يلاحظ هذا المثلّث : (العمل لأجل الأكل ، والأكل لأجل البقاء ، والبقاء لأجل العمل) لا يرى فيه سوى العبث واللاهدفيّة والضياع.
    إنّ مثل هؤلاء مثل سفينة يجهّزها صاحبها بأحسن الوسائل ، ويملأها بأنواع الزاد ، ويحمل الناس فيها ، ثمّ يسافر بها إلى وسط المحيط حيث لا يرى للماء ساحل ، ثمّ


(493)
يصير هناك حيران لا يعرف مقصداً ، ولا يطلب هدفاً ، أو يرجع إلى مكانه الأوّل.
    إنّ الذاهبين إلى تلخيص الحياة في الهدف الماديّ مثلهم كمثل هذا الربّان لايهدفُ من رحلته مقصداً ولا يقصد منها غاية وهل أمر ذلك إلاّ في خسار.
    أجل ، هذا هو كلّ ما يقصده ويسعى إليه النظامان الاقتصاديّان الرأسماليّة والاشتراكيّة : زيادة في الإنتاج ، وتخطيط للتوزيع ، وتطوير في وسائل الإنتاج ، ولا شيء وراء ذلك ، ولكنّ الإسلام يعالج هذه المسألة معالجة منطقيّة واقعيّة فهو يعتبر الدنيا مقدّمة للآخرة ومزرعة لها ، وأنّ على الإنسان أن لا يحصر اهتمامه في هذه الحياة العابرة ، بل يسعى للآخرة دون أن ينسى نصيبه من الدنيا ، كما قال اللّه تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللّهُ إلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنَّ اللّهَ لاَيُحِبُّ المُفسِدِيْنَ ) (القصص : 77).
    ولابد هنا من الإشارة إلى المواضيع التي تضمّنتها هذه الآية :
    إنّ قوله تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) يشير إلى أنّ طلب الدنيا يجب أن يكون لأجل الآخرة فتكون الآخرة هي المقصد والغاية ، وحيث أمكن أن يتوهّم من هذا الكلام أنّ الإسلام يدعو إلى الرهبنة وترك الدنيا ، إستدرك اللّه سبحانه ذلك بقوله : ( وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) فأفاد بذلك أنّه لا رهبانيّة في الإسلام.
    فعلى المسلم أن يقصد الآخرة ويهدفها ولكن دون أن ينسى نصيبه من الدنيا إذ لا معاد لمن لا معاش له.
    وأمّا قوله سبحانه : ( وَ أحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللّهُ إلَيْكَ ) فهو إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يعلم بأنّ ما وصل إليه إنّما هو بإحسان اللّه إليه ، فعليه أن يقابل ذلك الإحسان بأداء ما افترض اللّه عليه من حقوق والقيام بما ندبه إليه من واجبات اجتماعيّة.
    وقوله سبحانه : ( وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ المفْسِدِينَ ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق والمصرف ، فعلى المسلم أن لا ينفق في باطل ، ولايسرف ولايبذّر ولايعبث ولايصرف مال اللّه في لهو أو فساد.


(494)
10 ـ الإنسان محور وليس آلة
    إنّ للإنسان ـ في الاقتصاد الإسلاميّ ـ مقاماً رفيعاً ، وشأناً كبيراً ، فهو لم يخلق للإنتاج والاستهلاك ، وهو لم يأت إلى هذه الحياة ليكون مسماراً في معمل أو حيواناً مستهلكاً في زريبة. بل هو كائن مكرّم خلقت الأشياء لأجله ولم يخلق هو لأجلها ولذلك فليس الإنسان عبداً أسيراً بيد الاقتصاد ، وآلة طيّعة بأيدي الاقتصاديّين ليستغلّوه كيفما شاؤوا ، ويستخدموه كيفما أرادوا ، كيف وقد جعله اللّه حرّاً كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّاً » (1).
    وأيّة عبوديّة أشدّ وأوضح من تعلّق الإنسان بالمال ، وفنائه في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك؟ وهل جاء الإنسان إلى هذه الحياة ليفعل ما تفعله الحيوانات في حظائرها وزرائبها كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام) : « ما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ، أو اترك سدىً ، أو أهمل عابثاً ، أو أجرّ حبل الضّلالة أو اعتسف طريق المتاهة » (2).
    فذلك لا يتفق مع المكانة التي رشّحه اللّه سبحانه لها ، والمقام الذي ندبه إليه ، وهو مقام الخلافة الإلهيّة في الأرض ، التي صرح بها القرآن الكريم إذ قال : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلَيفَةً ) (البقرة : 30).
    وهو الذي كرّمه اللّه سبحانه ، وفضّله على كثير ممّن خلق إذ قال : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (الإسراء : 70).
    إنّ الإسلام ينظر إلى النوع الإنسانيّ من هذه الزاوية ، وبهذا المنظار ، فإنّ الإنسان ـ في منطق الإسلام ـ كائن مكرّم ، ذو مكانة رفيعة فلا تجوز الاستهانة بقيمته ، وتلخيص
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 31.
    2 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 45.


(495)
حياته ووجوده في الإنتاج والاستهلاك ، وتلبية الغرائز الحيوانيّة وإشباعها.
    وإذا نظر الإسلام إلى القضيّة الاقتصاديّة والاُمور المعيشيّة من مسكن وغذاء وغيرهما ، فلأجل أنّ كرامة الإنسان وتكامله يستدعيان ذلك ، وبذلك يكون الاقتصاد في نظر الإسلام وسيلة لا هدفاً ، وطريقاً لا غاية ونهاية.
    من هنا لا يصحّ ـ مطلقاً ـ أن نتوخّى من الاقتصاد الإسلاميّ ، ما نتوقّعه من الاقتصادين الرأسماليّ والاشتراكيّ فإنّ هذين المنهجين ينظران إلى الإنسان بما أنّه (منتج) أو (مستهلك) ولا تهمّهما كرامته وشخصيّته ، ومن هنا كان الاقتصاد في هذين المنهجين هدفاً وغاية ، وكان الإنسان فيهما وسيلة وآلة ، فلا اعتناء بشأنه ، ولا اهتمام بكرامته.
    ولا تنس ما ذكرناه في أوّل البحث من أنّ الهدف من هذا الفصل هو بيان مسألة دعوة الإسلام إلى التنمية الاقتصاديّة وبيان إطاراتها دون بيان المنهج الاقتصاديّ للإسلام فإنّ لذلك مجالاً آخر.


(496)
4
برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها
الحكومة الإسلاميّة
والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة
عناية الإسلام بصحّة الأبدان
    لم يحصر الإسلام عنايته بالاُمور الاُخرويّة وحدها ، بل عمّم هذه العناية للاُمور الماديّة والدنيويّة أيضًا ، وعلّم المسلم أن يطلب من اللّه سبحانه حسنة الدنيا والآخرة : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) (البقرة : 201).
    ومن هنا اهتمّ الإسلام بالجسد اهتمامه بالروح ، وحرص على سلامة الأبدان وتقويتها كما حرص على سلامة الأرواح وتقويتها سواء بسواء ، ولأجل هذا نجد القرآن الكريم إذا ذكر نعمة اللّه على أحد من عباده لم يكتف بذكر النعم المعنويّة كالعلم ، بل ذكر إلى جانب ذلك نعمة القوّة البدنيّة ، والكمال الجسديّ.
    فهو عندما يتحدّث عن (طالوت) الذي أرسله اللّه لقيادة بني اسرائيل قال في وصفه : ( إِنّ اللّهَ اصطَفاهُ عَلَيكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ


(497)
واللّهُ واسِعٌ عَليمٌ ) (البقرة : 247).
    وهو عندما يتحدّث عن أبرز صفتين من صفات موسى (عليه السلام) على لسان ابنة شعيب يذكر أمانته وقوّته الجسمانيّة فيقول : ( يَا أبَتِ اسْتَأجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ القَوِيُّ الأمينُ ) (القصص : 26).
    إنّ صاحب الجسم العليل لا تتاح له الفرصة الكاملة للسير صعداً في مضمار الحياة ، والقيام بواجبه الإنسانيّ كأيّ عضو سليم ، صحيح البدن ، معتدل البنية من أعضاء المجتمع البشريّ وذلك للصّلة الوثيقة بين الروح والجسدفي الكيان الإنسانيّ والتأثير المتقابل بينهما ومن هنا مدح القرآن الكريم الكمال الجسمانيّ والقوّة البدنيّة ، كما مرّ عليك في الآيتين السابقتين ، فإنّ القوّة البدنيّة إذا انضمّت إلى سلامة العقل أنتجت جودة الفكر ، وحسن التدبير ، وسعادة الحياة ولهذا ذكر القرآن بعد مسألة الاصطفاء والاختيار « العلم والقوّة البدنيّة » إيذاناً وإعلاماً بأنّ الاصطفاء والاختيار كان باعتبار القوّة البدنيّة إلى جانب العلم ممّا يعني أنّ للجسم والكمال الجسمانيّ قسط من الثمن ، ومدخليّة في السعادة أو الشقاء سلباً أو إيجاباً.
    وانطلاقاً من حرص الإسلام على صحّة الأبدان وسلامتها ، وقوّتها واستقامتها يرفع الدين أيّ تكليف شاقّ مضرّ بالبدن ، عن الناس ، فرفع اللّه الصيام عن (المريض) و(المسافر) ، إذ يقول سبحانه : ( يَأَيّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * آيَّامَاً مَعْدُودَات فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ وََعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة : 183 ـ 184).
    وإنّما رفع الصوم عن المسافر لأنّ السفر بنفسه مضنّة النصب ، وهو من مغيّرات الصحّة فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب والنصب ولهذا أيضاً جوّز القرآن للمحرم المريض أو من به أذى في رأسه أن يحلق رأسه إذا كان إبقاء الشعر يوجب الأذى فقال تعالى : ( وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَوْ بِهِ أذَىً مِنْ


(498)
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك ) (البقرة : 196).
    وهو إشارة إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم ، للتخلّص من الأذى الحاصل بسبب إبقاء الشعر ، وانحباس الحرارة في الرأس ، بل يرفع الإسلام كلّ ما يجهد البدن ويتعبه ويضنيه ، ويجر إليه التعب والنصب كما يقول القرآن الكريم : ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إلاّ وُسْعَهَا ) ( البقرة : 286).

تعاليم القرآن الصحّيّة
    وفي هذا السبيل وضع الإسلام سلسلة من التعاليم الصحّية للأبدان من شأنها أن تصون الأبدان من الأمراض ، وتقيها من العلل والأسقام لو روعيت حقّ الرعاية وطبقت حقّ التطبيق وقد جاءت طائفة من هذه التعاليم في القرآن الكريم ، وتكفّلت السنّة المطهّرة ببيان البقيّة ، وها نحن نذكر باختصار ما ذكره القرآن الكريم أوّلا.
    لقد حرم القرآن اُموراً ونهى عن اُمور وكره أشياء وأباح اُخرى ، وما حرّم ولا نهى ، وما كره أو أباح إلاّ لحكمة ظاهرة وأثر سيّء أو حسن على سلامة البدن وصحّته ، فحرّم أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير بقوله : ( إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَ لَحْمَ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عاد فَلاَ إِثْمََ عَلَيْهِ إنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ ) (البقرة : 173).
    وإنّما حرّم « الميتة » من الحيوان (وهي التي تفارقها الحياة من دون ذبح)لأنّ الموت إن كان عن مرض ، أضرّ بالإنسان حتّى إذا عقّم لحمها من الجراثيم فهي تسبّب المغص في المعدة ، وتسبب النزلات المعويّة ، وعشرات المضاعفات الاُخرى.
    وحرّم « الدم » لأنّه أفضل مرتع للجراثيم والميكروبات المسبّبة للأمراض الخطيرة.
    وحرّم « لحم الخنزير » لما يحدثه من أمراض خطيرة لما يحمله من دودة خاصّة تنتقل بالأكل إلى بدن الإنسان وتحدث لديه أمراضاً كثيرة قد تؤدّي إلى الموت.
    وحرّم ـ أيضاً ـ ما يشبه الميتة كالمنخنقة ، والموقوذة ، والمترديّة ، والنطيحة فقال


(499)
سبحانه : ( حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَ لَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمْوقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيْحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) (المائدة : 3).
    لأنّ الاختناق يجعل لحم الحيوان المخنوق أسرع إلى التعفّن والفساد.
    ومثل المنخنقة ، الموقوذة ، وهي التي تضرب حتّى تشرف على الموت فتترك حتّى تموت ، والمتردّية وهي التي سقطت من مكان مرتفع فماتت من أثر صدمة الوقوع ، والنطيحة وهي التي ماتت من أثر عراكها مع مثيلاتها من الحيوانات.
    وبالجملة فهذه الحالات تجعل بدن الحيوان مرتعاً خصباً لنموّ الجراثيم والميكروبات ، ومعرضاً لسرعة التعفّن والفساد.
    ولم يقتصر تحريم الإسلام على هذه الاُمور بل حرّم مطلق الخبائث ، إذ قال اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ) (الأعراف : 157).
    هذا مضافاً إلى أنّه حرّم تناول الخمور (بل كلّ مسكر (1) كما في الحديث) بقوله : ( ... إِنَّمَا الخَمْرُ وَ المَيْسِرُ وَ الأنْصَابُ وَ الأزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (المائدة : 90).
    1 ـ قال الصادق ّ ( عليه السلام ) : « حرّم اللّهُ عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسُولُ اللّه المُسكر من كُلّ شراب فأجاز اللّهُ لهُ ذلك كُلّهُ » الكافي 1 : 266 ، لقد أسلفنا الكلام في الجزء الأوّل : 553 في ماهيّة هذا النوع من التحريم و قلنا : إنّ تحريم رسول اللّه لشيء يمكن أن يكون بأحد معنيين :
    الأوّل : أن يكون طلباً ودعاء من رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وإجابة من اللّه سبحانه كما يشير بذلك الحديث « فأجاز اللّهُ لهُ ذلك ».
    الثاني : أن يكون علماً من رسول اللّه بمناطات الأحكام وملاكاتها الواقعيّة ، فعند ذلك يصحّ للرسول أن يحرم المسكر من كلّ شراب لعلمه بمناط الحكم في الخمر.كيف ورسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من أفضل مصاديق من قال فيهم أمير المؤمنين ّ ( عليه السلام ) : « عقلُوا الدّين عقل وعاية ورعاية لاعقل سماع ورواية » نهج البلاغة(طبعة عبده) الخطبة 234.


(500)
    وفعل ذلك وقاية للإنسان من كثير من الأمراض والمضاعفات الناجمة عن المسكرات وتخلّصاً من الآثار والعواقب السيئة التي تتركها الخمرة على الجسم والعقل ، بل وعلى النسل والذريّة.
    كما نهى القرآن الكريم عن الشراهة في الأكل ، والإسراف في المطعم والمشرب فقال : ( وَكُلُوا وَ اشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) (الأعراف : 31).
    ومن المعلوم أنّ هذه الآية ـ على قصرها ـ تنطوي على أهمّ قانون من قوانين الوقاية الصحيّة ، والحفاظ على سلامة البدن ، فالإنسان إذا أكثر من الأكل اُصيب بعسر الهضم الذي يستوجب أمراضاً عديدة للمعدة مذكورة في محلّها.
    وفي هذا السياق نجد الإسلام يفرض الصوم على المسلمين فيقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (البقرة : 183) ، لما في الصوم من فوائد عظيمة على البدن عرفها العلم الحديث أخيراً ، وأخذ به لعلاج الكثير من الأمراض.
    ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ ، بل كشف القرآن للناس عمّا ينفعهم أو يشفيهم من بعض الأسقام فأشار إلى العسل فوصفه بأنّ فيه شفاء للأسقام إذ قال : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتَاً وَمِنَ الشَّجرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) (النحل : 68 ـ 69).
    كما حثّ على اُمور من شأنها أن توفّر الأجواء الصالحة المناسبة لسلامة البدن في الجانب الفرديّ والاجتماعيّ كالتطهّر والنظافة ، فحثّ على التزام التنظّف وتعاهده حتّى أنّ أوّل تعليم تلقّاه النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم هو : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) (المدثر : 4).
    وقال مادحاً الذين يتطهّرون : ( إنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ ) (البقرة : 222).
    وقال : ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطهِّرينَ ) (التوبة : 108).
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس