مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 481 ـ 490
(481)
    وقال (عليه السلام) : « من كسل عمّا يُصلحُ به أمر معيشته فليس فيه خير لأمر دُنياهُ » (1).
    وقال (عليه السلام) : « ليس منّا من ترك دُنياهُ لآخرته ، ولا آخرته لدُنياهُ » (2).
    وقال (عليه السلام) : « لا تكسل عن معيشتك فتكُون كلاًّ على غيرك (أو قال : على أهلك) » (3).
    وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) : « إنّ اللّه تعالى ليُبغضُ العبد النوّام ، إنّ اللّه تعالى ليُبغضُ العبد الفارغ (العاطل) » (4).
    وحثّ على العمل والسعي والاشتغال بكلّ عمل مفيد كالتجارة والزراعة ، والصناعة وما شابهها من الاُمور التي تدرّ على الإنسان بالرزق الحلال وتؤدّي إلى إنعاش الاقتصاد وإليك طائفة من الروايات في هذا المجال :
    قال الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « العبادةُ سبعُون جُزءاً أفضلُها طلبُ الحلال » (5).
    وقال : « من المُروّة استصلاحُ المال » (6).
    وقال : « اتّجرُوا بارك اللّهُ لكُم » (7).
    وقال : « نعم العونُ على تقوى اللّه الغنى » (8).
    وروي أنّ رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لمّا أقبل من غزوة تبوك استقبله سعد الانصاريّ فصافحه النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ثمّ قال له : « ما هذا الذّي أكبت (أخشن) يديك ؟! »
    قال يا رسول اللّه : أضرب بالمرّ والمسحاة فأنفقه على عيالي ، فقبّل يده رسول اللّه ، وقال : « هذه يد لا تمسّها النّارُ » (9).
    وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : « إنّ اللّه تبارك وتعالى يُحبّ المُحترف الأمين » (10).
    1 ـ الوسائل 12 : 58 ، 37 ، 13 ، 5.
    2 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 103 ، 102 ، 94 ، 95.
    3 ـ الوسائل 12 : 58 ، 37 ، 13 ، 5.
    4 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 103 ، 102 ، 94 ، 95.
    5 ـ الوسائل 12 : 58 ، 37 ، 13 ، 5.
    6 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 103 ، 102 ، 94 ، 95.
    7 ـ الوسائل 12 : 58 ، 37 ، 13 ، 5.
    8 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 103 ، 102 ، 94 ، 95.
    9 ـ اُسد الغابة 2 : 269.
    10 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 103 ، 102 ، 94 ، 95.


(482)
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إن اللّه ليُحبُ الاغتراب في طلب الرّزق » (1).
    وقال أيضا : « نعم العون : الدّنيا على الآخرة » (2).
    وقال أيضا : « إنّي لأُحبّ أن أرى الرجُل مُتحرّفاً [ أو متبكّراً ] في طلب الرّزق » (3).
    وكان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يخرج في الهاجرة (وقت الظهر) في الحاجة قد كفيها ، يريد أن يراه اللّه يتعب نفسه في طلب الحلال » (4).
    وقال الرسول الأعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « طلبُ الحلال فريضة على كُلّ مُسلم ومُسلمة » (5).
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « كان أمير المُؤمنين يحتطبُ ويستقي ويكنسُ ، وكانت فاطمةُ تُطحنُ وتعجنُ وتخبزُ » (6).
    وقال أيضا : « الكادّ على عياله من حلال كالمُجاهد في سبيل اللّه » (7).
    وقال أيضا : « إصلاحُ المال من الإيمان » (8).
    وعن الفضل بن أبي قرّة قال : دخلنا على أبي عبد اللّه [ الصادق ] وهو يعمل في حائط له فقلنا : جعلنا اللّه فداك دعنا نعمل لك ، أو تعمله الغلمان ، قال : « لا ، دعُوني فإنّي أشتهي أن يراني اللّهُ عزّ وجلّ أعملُ بيدي وأطلبُ الحلال في أذى نفسي » (9).
    وقال : الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) : « اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً » (10).
    وقال : « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث : الفقه في الدّين وحسن التّقدير في المعيشة والصّبر على الرزايا » (11).
    1 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 95 ، 95 ، 99.
    2 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 95 ، 95 ، 99.
    3 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 95 ، 95 ، 99.
    4 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94 ، 95 ، 95 ، 99.
    5 ـ بحار الأنوار 103 : 9.
    6 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
    7 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
    8 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
    9 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94و 98.
    10 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 94و 98.
    11 ـ تحف العقول : 324.


(483)
    وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه قال رأيت أبا الحس ـ ن [ الكاظم ] (عليه السلام) يعمل في أرض له ، وقد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت له : جعلت فداك أين الرجال ؟ فقال (عليه السلام) : « يا عليّ عمل باليد من هو خير منّي ومن أبي في أرضه » فقلت : من هو ؟ فقال : « رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأمير المؤمنين وآبائي ( عليهم السلام ) كلّهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النّبيّين والمرسلين والصّالحين » (1).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « تعرّضوا للتّجارات فإنّ لكم فيها غنىً عمّا في أيدي النّاس » (2).
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « ازرعوا واغرسوا فلا واللّه ما عمل النّاس عملاً أحلّ ولا أطيب منه » (3).
    وقال أيضا : « الزّارعون كنوز الأنام يزرعون طيّباً أخرجه اللّه عزّ وجلّ وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً ، وأقربهم منزلةً يدعون المباركين » (4).
    وقال : « الّذي يطلب من فضل اللّه عزّ وجلّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل اللّه » (5).
    وعن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « طلب الكسب فريضة بعد الفريضة » (6).
    ولعلّ أجمع ما ورد حول تشجيع الزراعة وال ـ صناعة والعناية بالاقتصاد في الإسلام هو ما كتبه الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده المعروف للأشتر النخعيّ حينما ولاّه على مصر إذ قال : « وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم ، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله.
    وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا
    1 ـ من لا يحضره الفقيه 3 : 98.
    2 ـ وسائل الشيعة 12 : 4 ـ 193 ـ 194.
    3 ـ وسائل الشيعة 12 : 4 ـ 193 ـ 194.
    4 ـ وسائل الشيعة 12 : 4 ـ 193 ـ 194.
    5 ـ الكافي 5 : 88.
    6 ـ بحار الأنوار 103 : 17.


(484)
يُدركُ إلاّ بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علّةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم ، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ».
    ثمّ يقول : « ثمّ استوص بالتجّار وذوي الصّناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه .. فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المنافع والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك ... وتفقّد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك وأعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فانّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف ».
    إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الوافرة التي يضيق بذكرها المجال.

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام
    ربّما يتوهّم وجود المنافاة بين دعوة الإسلام إلى العمل ونبذ الكسل وما يدلّ على لزوم الزهد والتوكّل على اللّه في الاُمور ، وهذا وهم يقف على بطلانه من له إلمام بالكتاب والسنّة ، فإنّ الزهد الذي ندب إليه الإسلام ، والتوكّل الذي حثّ عليه ليس بمعنى ترك تحصيل الدنيا وترك الاشتغال والعمل ، وإنّما يراد من الزهد عدم التعلّق بالدنيا كما فسّرته الأحاديث الشريفة ومنها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : « الزّهد في الدّنيا قصر الأمل ، وشكر كلّ نعمة والورع عمّا حرّم اللّه عليك » (1).
    1 ـ معاني الأخبار للصدوق : 239 ، ونهج البلاغة : الخطبة رقم 79.

(485)
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « ليس الزّهدُ في الدّنيا بإضاعة المال ، ولا بتحريم الحلال بل الزّهدُ في الدّنيا أن لا تكون بما في يدك أوثقُ منك بما في يد اللّه عزّ وجلّ » (1).
    وعن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال : « الزّهدُ بين كلمتين من القُرآن : قال اللّهُ سُبحانهُ : ( لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي ، ولم يفرح بالآتي ، فقد أخذ الزّهد بطرفيه » (2).
    وعن الإمام عليّ بن الحسين السجّاد (عليه السلام) أنّه جاءه رجل فقال له :
    فما الزهد قال : « الزّهدُ عشرُ درجات ، فأعلى درجات الزّهد أدنى درجات الرّضا ، ألا وإنّ الزّهد في آية من كتاب اللّه ( لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَاكُمْ ) » (3).
    وأمّا التوكّل على اللّه فلا يعني ترك العمل بل يعني أن يتوسّل الإنسان بكلّ الأسباب الظاهريّة لقضاء حوائجه ، ولكي يرفع كلّ نقص في الأسباب الطبيعيّة يستمدّ المدد والعون من اللّه ، ويستعينه على التوفيق.
    إنّ الإنسان المتوكّل يعلم أنّه يعيش في عالم الأسباب والمسبّبات وأنّ إرادة اللّه تعلّقت بأن يتوصّل الإنسان إلى مقاصده عن طريق هذه الأسباب ، فيكون التمسّك بهذه الأسباب أخذاً بأمره ، واتّباعاً لقانونه ، ولكن حيث إنّ هذه العلل والأسباب قد تقصر عن اداء المطلوب ، أو ربما لا يتعرّف الإنسان عليها أو على بعضها أو ربّما يعوقه عائق فإنّ اللّه يأمر المسلم بأن يتّكل على قدرة اللّه المطلقة ، ويطلب منه العون والمدد على قضاء حوائجه دون أن يقنط أو ييأس اتّجاه هذه المشاكل ، ويزداد هذا المعنى وضوحاً إذا علمنا بأنّ الحثّ على التوكّل والأمر به جاء في سياق آيات الجهاد والقتال والمرابطة ، والعمل ، والاجتهاد وقد خاطب اللّه ـ في الأغلب ـ به المجاهدين ، وإليك طائفة من هذه الآيات ، قال سبحانه : ( إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
    1 ـ معاني الأخبار للصدوق : 239.
    2 ـ نهج البلاغة : الحكم رقم 439.
    3 ـ معاني الأخبار للصدوق : 239.


(486)
المُؤْمِنُونَ ) (آل عمران : 122).
    وقال : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانَاً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ) (آل عمران : 173).
    وقال : ( نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِيْنَ * الَّذِيْنَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (العنكبوت : 58 ـ 59).
    وقال : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (آل عمران : 159).
    وخلاصة القول : أنّ التوكّل على اللّه ليس بالمعنى المحرّف الذي ذهب إليه فريق من الناس من أنّه ترك العمل والجهد والسعي ، بل يعني أنّ الإنسان قد يواجه في حياته مشكلات يعجز عن التغلّب عليها وتجاوزها فعليه أن يستمد العون من اللّه تعالى ، وبهذا الطريق يحارب اليأس ، وتزداد روحه قوّة وصموداً ، ويتغلّب على مشكلاته.
    وبعبارة اُخرى : إنّ التوكّل هو قسم من التوحيد الأفعالي الذي يعني أن يعتقد المسلم بأنّه لا مؤثّر مستقل في الوجود إلاّ اللّه سبحانه ، وأمّا غيره فليست إلاّ مؤثّرات وعوامل بإذنه ومشيئته سبحانه ، وبهذا لا يكون التوكّل منحصراً في صعاب الاُمور ، بل يعمّ هيّنها وصعبها جميعاً لأنّ معناه ـ حينئذ ـ هو أنّ العبد لا يقوم بفعل مهما كان سهلاً أو صعباً إلاّ بحول اللّه وقوّته وإلاّ بعونه وطوله سبحانه وتعالى ، وأنّ جميع الأسباب مؤثّرة بإذنه سبحانه ، ولعلّ الحديث التالي أوضح برهان على ما ذكرناه في معنى التوكّل مضافاً إلى ما سبق من الأحاديث :
    عن عليّ بن عبد العزيز قال : قال أبو عبد اللّه [ الصادق ( عليه السلام ) ] : « ما فعل عُمرُ بنُ مُسلم » قلت : جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة ، فقال :
    « ريحه أما علم أنّ تارك الطّلب لا يستجاب له ».
    إنّ قوماً من أصحاب رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لمّا نزلت ( وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا ، فبلغ


(487)
ذلك النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فأرسل إليهم وقال : « ما حملكم على ما صنعتم ؟ » فقالوا : يارسول اللّه تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، قال : « إنّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطّلب » (1).

3 ـ الإسلام يقرّ مبدأ التنافس
    إنّ الإسلام لم يكتف بالحثّ على العمل والسعي بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أقر التنافس السليم لأنّ ذلك يوجب تفتّح المواهب وتحرّك القابليّات الذي من شأنه تقدّم الاقتصاد ، بل وازدهار الحياة ، ولذلك فهو يقرّ كلّ ملكيّة حاصلة عن سبب مشروع كائناً من كان صاحبها ، فلا يؤمم وسائل الإنتاج بصورة مطلقة لأنّ ذلك يقتل الدوافع الذاتيّة لدى الأفراد ، ويقضي على الحوافز الشخصيّة ، ويوجب ذلك شلل الاقتصاد كما هو الحال في الأنظمة الاشتراكيّة ، ولكنّه منعاً من ظهور الرساميل الكبيرة ـ جدّاً ـ جعل الإسلام المنابع الطبيعيّة ـ التي سيوافيك ذكرها في الأنفال ـ في ملكيّة الدولة الإسلاميّة.
    ولا يخفى أنّ الكثير من الرساميل والثروات الضخمة الهائلة جداً تنشأ عادة من استيلاء الأفراد على هذه المنابع واستقلالهم ـ دون الناس ـ باستثمارها واستخراجها دون رقيب ، وبلا حساب ، ويكفي أن نعرف أنّ في إيران وحدها (800 ) نوعاً من المعادن الغنيّة جدّاً ، في حين لا يستثمر سوى عُشر هذه المعادن لا أكثر وهي تشكّل ثروات لا يمكن تحديد عائداتها إطلاقاً ولقد كان استثمار أكثر هذه المعادن في العهد المباد يعود إلى جماعة خاصّة من الرأسماليين الكبار الذين كنزوا من عائداتها ثروات لا تحدّ ولا تعدّ.
    إنّ الإسلام بتأميمه للثروات الطبيعيّة وجعلها للعموم منع من ظهور الملكيّات الهائلة.
    هذا مضافاً إلى أنّ الدولة الإسلاميّة يجوز لها أن تمنع الأفراد من توظيف الأموال في
    1 ـ نور الثقلين 5 : 354 ـ 355.

(488)
الأقسام الضخمة والكبيرة كالصنائع الاُمّ ، وشركات انتاج الطاقة وإسالة المياه ، والمواصلات الجويّة وما شابه ، ممّا يدرّ بالدخل غير المحدود على أصحاب تلك الأموال ، حتّى يمنع من ظهور الفوارق الطبقيّة العميقة الناشئة من حصول أمثال تلك الثروات الهائلة للأفراد.
    إنّ الإسلام وإن أقرّ مبدأ التنافس وترك المجال مفتوحاً أمام الساعين والعاملين إلاّ أنّ هذا لم يمنعه من تحديد الملكيّة حتّى لا تطغى ، فقد منع من ظهور الملكيّات الطائلة بالطرق التالية :
    أوّلاً : تأميم المصادر الطبيعيّة وجعلها ملكاً للدولة لا للأفراد.
    ثانياً : إنّه جوّز وفقا للمصالح العامّة للدولة الإسلاميّة منع الأفراد من توظيف رؤوس الأموال في الصناعات الكبرى ذات العائدات غير المحدودة.
    ثالثاً : فرض الضرائب التصاعديّة الدائميّة ، والاستثنائيّة في بعض الأحيان المقتضية لذلك.
    رابعاً : تهيئة فرص العمل والتقدّم لجميع الأفراد من الاُمّة بإعطاء المعونات الماليّة لهم ، والسماح للجميع بامتلاك وسائل الإنتاج بصورة مستقلّة أو على نحو الشركة حتّى يتخلّص العامل من استثمار أرباب العمل واستغلالهم له ، وإجباره على القبول باجور زهيدة ، والرضوخ لشروط مجحفة.

4 ـ الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ
    إنّ إقرار مبدأ التنافس والدعوة إليه يطرح مسألة الحريّة ، إذ بدون الحريّة لا يمكن التنافس ، فهل توجد الحريّات في ظلّ الأنظمة غير الإسلاميّة ؟
    إنّ مراجعة سريعة للنظريّة والتطبيق تهدينا إلى أنّه لا توجد أيّة حريّات في النظام الاشتراكيّ إطلاقاً ، وأمّا في النظام الرأسماليّ فلا تعني الحريّة سوى إطلاق العنان لجماعة خاصّة ومن يدور في فلكهم ، في تكديس الثروة كيفما اتّفق والمضي بلا حدود في إشباع


(489)
الشهوات والنزوات الحيوانيّة وإن أضرّت بالأخلاق ، وأساءت إلى القيم الإنسانيّة الرفيعة ، بينما تخضع (الحريّة) في النظام الإسلاميّ لحدود معقولة إنسانيّة ، لأنّها لا تعني في منطقه إلاّ إفساح المجال للمواهب والقابليّات البشريّة للتكامل ، والانطلاق في دروب التقدّم والرقي ، والاستفادة من مواهب اللّه في الطبيعة دون اعتداء على عقيدة الآخرين وأخلاقهم وأمنهم وراحتهم.
    إنّ الإسلام يعتقد بحريّة الإنسان في مسكنه ومعمله ، وفي كلّ مجالات حياته ولكن في إطار الأخلاق والإنسانيّة وقيم الدين ، التي من شأنها توظيف الحريّة في سبيل إسعاد الإنسان.
    وقد مرّ مجمل القول في ذلك عند البحث عن خصائص الحكومة الإسلاميّة الخصيصة السادسة.

5 ـ الإنتاج في إطار الإنسانيّة
    إنّ كلا المنهجين (الرأسماليّ والاشتراكيّ) لا يعترفان بمانع ولا حاجز في طريق الإنتاج ، فهما يطلبان المزيد منه بالعمل والسعي ويرفضان كلّ قيد وشرط في هذا السبيلإلاّ إذا كان يساعد بدوره على تصعيد الإنتاج ، واستدرار المزيد من الأرباح والعائدات!! بينما يقيم الإسلام بعض الموانع ، ويضع بعض القيود في هذا السبيل ، ويقيّد العمل والإنتاج ببعض الشروط والحدود ، فلا يمكن للناس أن ينتجوا كل ما تهواه نفوسهم حتّى إذا كان يعود على أخلاقهم وعقيدتهم وحياتهم بسوء أو أذى ، فحتّى الأسلحة والوسائل الحربيّة التي يسمح الإسلام بإنتاجها ، إنّما يسمح به لأجل الدفاع عن حوزة الإنسان والإنسانيّة ، ولأجل تحصين البشر من شرّ أنفسهم ، وها هو القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بقوله : ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوس لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأسِكُمْ ) (الأنبياء : 80).


(490)
6 ـ العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى
    إنّ العدالة الاجتماعيّة هي الأصل والأساس ، وهي الهدف الأسمى والمطلب الأعلى في الاقتصاد الإسلاميّ ، وهو أصل حاكم على كلّ برامجه ، ومقرّراته وتعاليمه.
    إنّ تمركز الثروة عند طبقة خاصّة وتكدّسها عند جماعة معدودة أمر مرفوض في منطق الإسلام رفضاً قاطعاً ، لأنّه يتنافى وأصل العدالة الاجتماعيّة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها ونشرها في المجتمع البشريّ ، فيجب على (الحاكم الإسلاميّ ) أن يخطّط للاقتصاد تخطيطاً يضمن تداول الثروة بين جميع أبناء الاُمّة بصورة عادلة ، ويحول دون تداولها بين الأغنياء خاصّة .. الذي منع عنه القرآن الكريم بقوله : ( كَيْ لاَ يَكُونَ دولَةً بَيْنَ الأغنِيَاءِ مِنْكُمْ ) (الحشر : 7).
    ولأجل ذلك حرّم الإسلام (الكنز) (1) كما يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ وَ لاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَليم ) (التوبة : 34).
    ولتحقيق هذه العدالة الاجتماعيّة المتوخّاة ، يرفض الإسلام أيّ تمييز واستثناء بين أفراد الاُمّة الإسلاميّة ، ومن هنا لاتختصّ المنابع الطبيعيّة التي سنشرحها في الأنفال والأرض منها خاصّة ، بفئة دون فئة ، أو فرد دون فرد ، أو طبقة دون طبقة .. بل للدولة الإسلاميّة حقّ النظارة وأولويّة الاستفادة منها وصرف عائداتها في مصالح الشعب بلا تمييز ولا استثناء ، أو قيام أفراد الشعب بأنفسهم باستثمار تلك المنابع حسب الضوابط التي تستوجبها المصلحة الراهنة.

7 ـ لا إسراف ولا تبذير
    كما أنّ الإسلام خطى خطوة اُخرى في سبيل تحقيق هذه العدالة فنهى عن الإسراف والتبذير لأنّ في ذلك إهدار للطاقات ، وتضييع لحقوق الآخرين ، وهو أمر
    1 ـ وللبحث حول حقيقة الكنز وبماذا يتحقّق مجال آخر.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس