مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 511 ـ 520
(511)
    هذا ولعلّ من أبرز ما يدلّ على عناية الإسلام بالصحّة العامّة هو حثّه البالغ على الزواج لأنّ الزواج لو تحقّق بصورة سليمة تكفّل شطراً كبيراً من سلامة الفرد والجماعة. إذ الزواج علاج طبيعيّ مفيد لكثير من المفاسد الخلقيّة والصحيّة التي تصيب المجتمع كما أنّه علاج ناجع لكثير من الآدواء التي قد تصيب الأفراد نتيجة الحيادة العزوبيّة وما تتركه هذه الحالة من الآثار السيّئة على الصحّة.

الزواج والصحّة
    لقد أصبحت قضيّة الزواج وبعدها الصحيّ الآن علماً مستقلاً من علوم الصحّة ألّفت حوله الكثير من الدراسات ، فيما كانت هذه المسألة موضع اهتمام الدين الإسلاميّ منذ أربعة عشر قرناً .. حيث أتى فيها باُمور سبق بها جميع الكشوف والتوصيات التي توصّل إليها العلم الحديث مؤخّراً.
    فهو مثلاً حرّم الزواج بطائفة من النساء من المحارم إذ قال سبحانه :
     ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُ ـ كُمْ وَبَنَاتُ ـ كُمْ وَأََخَواتُ ـ كُمْ وَعَمَّاتُ ـ كُمْ وَخَالاَتُ ـ كُمْ وَبَنَاتُ الاَْخِ وَبنَاتُ الاُْخْتِ وَاُمَّهَاتُ ـ كُمُ اللاَّتِي أرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُ ـ كُم الَّلاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأنْ تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورَاً رَحِيمَاً ) (النساء : 23).
    وهذا يعني أنّ الإسلام حرّم التزوّج بسبع طوائف من النساء المنتمين إلى الشخص بالنسب وهنّ التي ذكرتهنّ الآية السابقة (1).
    وقد توصّل العلم الحديث أخيراً إلى علل هذا التحريم ، كما أنّ الشريعة الإسلاميّة انفردت من بين الشرائع القائمة بجعل الرضاع سبباً من أسباب التحريم ، وذلك لأنّ المرضعة التي ترضع الولد إنّما تغذيه بجزء من جسمها فتدخل أجزاؤها في
    1 ـ نعم لا تختصّ الحرمة بمن ذكرن في الآية.

(512)
تكوينه ، ويصبح جزءاً منها. فإنّ لبنها خلاصة من دمها منه ينبت لحم الطفل ويقوى عظمه ، وإذا كان الطفل جزءاً منها فهي كالأُمّ النسبيّة محرّمة إلى الأبد (1).
    كما أنّ الإسلام نهى عن التزوّج بالحمقاء لما في مثل هذا الزواج من نتاج غير مطلوب قال الإمام علي (عليه السلام) : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء وولدها ضياع ».
    كما نهى عن التزوّج بشارب الخم ـ ر لنفس السبب ، قال الإم ـ ام الص ـ ادق ـ عل ـ يه السلام ـ : « من زوَّج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها ».
    ونهى عن مقاربة الزوج في فترة العادة الشهريّة لما أسلفنا ، نهياً تحريميّاً مغلظاً.
    ونهى عن مقاربتها في بعض الحالات النفسيّة أو الجسديّة أو الكونيّة الخاصّة نهياً تنزيهيّاً ، لما تجرّه المقاربة في تلك الظروف والحالات والأوقات والأوضاع من آثار سيّئة على صحّة الزوج والزوجة ، وصحّة الولد الناشىء منهما.
    وقد وردت تفصيلات هذه الأوقات في وصيّة مطوّلة للنبي الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى الإمام عليّ تجدها في كتاب مكارم الأخلاق وغيره من الكتب الحديثيّة في هذا المجال.
    وقد توصّل العلم الحديث الآن إلى الكثير من علل هذه التوصيات التي سبق الإسلام إلى ذكرها.
    هذا ونظراً لأهمّية الزواج من الناحية الصحّية سواء في المجال الفرديّ أو في المجال الاجتماعيّ حثّ النبيّ وأهل بيته المعصومون (عليهم السلام) على التزوّج ، وترك الحياة العزوبيّة وها نحن نورد هنا طائفة من الأحاديث تتميماً للفائدة :
    قال النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « تزوّجوا ، وزوّجوا الأيم فمن حظّ أمرء مسلم انفاق قيمة أيّمة ، وما من شيء أحبّ إلى اللّه من بيت يعمر في الإسلام بالنّكاح ».
    وقال : « تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الاُمم غداً في القيامة ».
    1 ـ لاحظ أحكام الرضا (ع) في الكتب الفقهيّة.

(513)
    وقال : « من أحبّ أن يكون على فطرتي فليستنّ بسنّتي فإنّ من سنّتي النكاح ».
    وقال : « ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ اللّه يرزقه نسمةً تثقل الأرض بلا إله إلاّ اللّه ».
    وقال : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج ».
    وقال : « من تزوّج فقد أعطي نصف السّعادة ».
    وقال : « إنّ من سنّتي وسنّة الأنبياء من قبلي النّكاح والختان والسّواك والعطر ».
    وقال : « ما بني في الإسلام بناء أحبّ إلى اللّه من التزويج ».
    وقال : « من تزوّج أحرز نصف دينه فليتّق اللّه في النّصف الآخر ».
    وقال : « النّكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ».
    وقال : « أكثر أهل النّار العزّاب ».
    وقال : « أراذل موتاكم العزّاب ».
    وقال : « من أحبّ أن يلقى اللّه طاهراً مطهّراً فليستعفف بزوجة ».
    وقال : « شرار أمّتي عزّابها ».
    وقال : « شراركم عزّابكم والعزّاب إخوان الشّياطين ».
    وقال : « لو خرج العزّاب من موتاكم إلى الدّنيا لتزوّجوا ».
    وقال : « ما للشّيطان سلاح أبلغ في الصّالحين من النّساء إلاّ المتزوّجون اُولئك المطهّرون المبرّؤون ».
    وقال عكاف أتيت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قال لي : « يا عكاف : ألك زوجة » قلت : لا ، قال : « وأنت صحيح موسر » قلت : نعم والحمد للّه ، قال : « فإنّك إذن من إخوان الشّيطان ، إمّا أن تكون من رهبان النّصارى ، وإمّا أن تصنع كما يصنع المسلمون وإنّ من سنّتنا النّكاح ، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم ـ إلى أن قال ـ ويحك يا عكاف تزوّج


(514)
تزوّج وإلاّ فإنّك من الخاطئين ».
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه يتزوّج إلاّ قالصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : كمل دينه ».
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « ركعتان يصلّيهما المتزوّّج أفضل من سبعين ركعةً يصلّيها العزب ».
    ولم يكتف الإسلام بإعطاء هذا القدر من التوصيات المفيدة في مجال الزواج بل حرص على جودة النسل; فنهى الزوجة الحامل عن أكل أشياء أو فعل اُمور حفاظاً على صحّتها وصحّة جنينها ، كما حثّها على تناول مأكولات خاصّة (1) ، تقوية لها ولجنينها .. وهي اُمور كشف الطبّ الحديث عن صحّتهاوعمقها وجدواها.
    كما نهى عن إرضاع الطفل بلبن الحمقاء ، قال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللّبن يعدي » (2).
    هذه بعض ما أتى به الإسلام في مجال الزواج ، هذه المسألة الاجتماعيّة المهمّة التي يكون لها دور فعّال في حفظ الصحّة الفرديّة والعامّة مضافاً إلى حفظ العلاقات الاجتماعيّة السليمة ، وتقوية القيم والمثل الأخلاقيّة الإنسانيّة.

إهتمام المسلمين بعلم الطبّ
    هذا وقد اقتفى المسلمون أثر النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأهل بيته الطاهرين في العناية بالصحّة والطبّ فكتبوا الكتب الطبيّة ، وأقاموا المستشفيات بل وكان المسلمون أوّل من أقامها وأقاموا المصحّات ، وشيّدوا المختبرات ، وتخرّج منهم الأطبّاء الحاذقون الذين شاع
    1 ـ مثل قوله صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم « اسقُوا نسائكُم الحوامل اللّبن فإنّها تُزيدُ في عقل الصّبيّ ».
    2 ـ جميع الأحاديث والتعاليم الصحيّة المذكورة في هذا الفصل اقتبست من :
    الكافي 6 : كتاب الأطعمة والأشربة والزي والتجمّل ، وكتاب مكارم الأخلاق ، ونهج البلاغة ، وخصال الصدوق ، ووسائل الشيعة 8 : كتاب العشرة ، فراجع الفصول والأبواب المختلفة من تلك الكتب.


(515)
صيتهم في الآفاق ولا زالت الكثير من مؤلّفاتهم وتحليلاتهم وكشوفاتهم موضع اهتمام الغربيّين.
    وبالتالي نبغ فيهم رجال مثل جابر بن حيّان ، والكندي وابن مسكويه وابن سينا ، والرازيّ وغيرهم ممّن تركوا مؤلّفات كثيرة في مجال الطبّ ، وخرجوا إلى العالم بنظريّات وابتكارات في هذا المجال.
    وبإمكان القارىء الكريم أن يتعرّف على هذه الاُمور من المصادر التالية :
    1 ـ الطبّ العربي ، مقدمة تدرس مساهمة العرب (والمراد بهم المسلمون) في الطبّ ، والعلوم المتّصلة به ، تأليف الدكتور أسعد خير اللّه.
    2 ـ الطبّ عند العرب للدكتور أحمد شوكت شطّي طبعة القاهرة مؤسّسة المطبوعات الحديثة.
    3 ـ تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعهد الوسيط تأليف جورج شحاته قنواتي ، القاهرة دار المعارف عام (1959).
    4 ـ ميراث الإسلام تأليف 13 مستشرقاً واُستاذ جامعة.
    5 ـ شمس الشرق تطلع على الغرب.
    6 ـ فلاسفة الشيعة للعلاّمة الشيخ عبد اللّه نعمة.
    7 ـ وراجع كشف الظنون 2 : 86 إلى 88 ، والذريعة 15 : 135 ـ 144.

العناية بالصحّة وظيفة الحكومة الإسلاميّة
    لاشكّ أنّ الحفاظ على الصحّة الفرديّة والصحّة العامّة وتهيئة الأجواء المناسبة لذلك لا يمكن أن يتوفّر إلاّ بأمرين :
    أ ـ التوجيه والتثقيف الصحّي المستمر.
    ب ـ تهيئة الأجواء الصحّية في الوسط الاجتماعيّ من قبيل إقامة المستشفيات


(516)
والمصحّات ، وإجراء التلقيح الصحّي للوقاية إذا داهم البلد مرض معد ، وإقامة المختبرات والمؤسّسات للتحقيق في شؤون الطبّ ، وتعاهد أمر التنظيف البلديّ.
    ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الوظائف الثقيلة لا يمكن القيام بها إلاّ بواسطة الأجهزة المزوّدة بالتخطيط والقانون والمال .. ولهذا فإنّ مسؤوليّة العناية بالصحّة الفرديّة والصحّة العامّة تقع في الدرجة الاُولى على عاتق الحكومة الإسلاميّة استلهاماً من الأحاديث الحاثّة على الصحّة في المجالين ، بل ويمكن القول بأنّ هذه المسألة من أهمّ الواجبات التي تقع على كاهل الحكومة .. إذ الحصول على اُمّة قوّية متحرّكة متقدّمة منتجة مدافعة عن نفسها لا يتيسّر إلاّ بوجود اُمّة سالمة تتمتّع بالصحّة والعافية الكاملة.
    إنّ على الحكومة الإسلاميّة أن تهتمّ ـ بواسطة أجهزتها المختصّة ومؤسسات وزارة الصحّة ـ بالصحّة العامّة فتراقب نظافة الشوارع والأزقّة ، وتراقب صانعي المأكولات والأطعمة والقصّابين والحمامات والمسابح العامّة لتكون موافقة مع قوانين الصحّة ، وتقيم المستشفيات والمصحّات ، وتقوم بتلقيح الأطفال والكبار ضد الأمراض الداهمة ، وتقوم بتوجيه النّاس إلى وظائفهم الصحّية وتفرض رقابة مشدّدة على الاجتماعات من الناحية الصحّية لتمنع من تسرّب أيّ مرض يهدّد سلامة الاُمّة ، ولعلّ من أهمّ ما يجب على الحكومة الإسلاميّة هو برنامج الضمان الصحّي لجميع افراد الاُمّة بلا استثناء ، لينشأوا أصحّاء البدن أقوياء البنية .. أخذا بقول الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « المُؤمنُ القويّ خير وأحبّ إلى اللّه من المُؤمن الضّعيف وفي كُلّ خير » (1).
    وقد كان هذا هو سيرة المسلمين شعوباً وحكومات منذ الصدر الأوّل للإسلام ويدلّ على ذلك ما أقاموه هنا وهناك من مؤسّسات صحّية ، وشيّدوه من مختبرات علميّة طبيّة ، فقد كانت الحكومات الإسلاميّة الغابرة ترى نفسها ملزمة بإقامة الصحّة ورعايتها في المجتمع الإسلاميّ ، فكان القسم الأكبر من وظائف الصحّة الاجتماعيّة على عاتق المحتسبين ، وفي ذلك كتب ابن الاخوة الذي كان يعيش في القرن السابع الهجريّ حول
    1 ـ سنن ابن ماجة : 2 ، كتاب الزهد ، الباب 14 ، الحديث5 ، رقم التسلسل4168.

(517)
وظائف المحتسب في هذا المجال قائلاً :
    (في الحسبة على الفرّانين والخبّازين : ينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل المعاجن وتنظيفها ، ولا يعجن العجّان بقدميه وبركبتيه ولا بمرفقيه ، فربما قطر في العجين شيء من عرق أبطيه أو بدنه ، وأن يعجن ملثّماً لأنّه ربّما عطس أو تكلّم فقطر شيء من بصاقه في العجين.
    وقال في الحسبة على الجزّارين (القصّابين) : يجب على المحتسب أن يمنعهم من الذبح على أبواب دكاكينهم فإنّهم يلوّثون الطريق بالدم والروث.
    وقال في الحسبة على الطبّاخين : يأمرهم بتغطية أوانيهم وحفظها من الذباب وهوامّ الأرض بعد غسلها بالماء الحارّ.
    وقال في الحسبة على صانعي الأدوية والعقاقير : ويعتبر عليهم في عقاقير الأقراص والمعاجين قبل عملها بمن ظهرت مخبرته وكثرت تجربته للعقاقير ويكون من أهل الخير والصلاح ، فإنّها إذا اختلّ أمرها أضرّت بالمريض لا محالة (1).
    وقال في الحسبة على الأطباء والجرّاحين والمجبّرين : الطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عمّا لم يوجد منها والوجه في استخراجها وطريق مداواتها بالتساوي بين الأمراض والأدوية في كمّياتها ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه ولا يتعرّض لما لا علم له فيه ففي الخبر : « من تطبّب ولم يُعلم منهُ طبّ قبل ذلك فهو ضامن » (2).
    وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم فقد حكي أنّ ملوك اليونان كانوا يجعلون في كلّ مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة ثمّ يعرضون عليه بقيّة أطبّاء البلد
    1 ـ هذه ملاحظة في الطب مهمّة جداً وقد عرفها العالم اليوم ، حيث أسّس جهازاً خاصاً بمراقبة الأدوية والعقاقير قبل إنزالها إلى الأسواق.
    2 ـ مجمع البحرين ( مادّة طبب).


(518)
فيمتحنهم فمن وجده مقصّراً في علمه أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة (1).
    وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه وعن ما يجد من الألم ثمّ يرتّب له قانوناً من الأشربة وغيره من العقاقير ثمّ يكتب له نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض وإذا كان من الغد حضر ونظر إلى قارورته(أي بوله) وسأل المريض هل تناقص به المرض أم لا ثمّ يرتّب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال .. وهكذا حتّى يبرأ المريض ، وينبغي للمحتسب أن يأخذ على الأطباء عهداً أن لا يعطوا أحداً دواء مضرّاً ولا يركّبوا له سمّاً ولا يصفوا سمّاً عند أحد من العامّة ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة ولا للرجال الذي يقطع النسل وليغضّوا أبصارهم عند المحارم عند دخولهم على المرضى .. ) (2).
    1 ـ هذا هو ما عرفه العالم الحديث اليوم وأخذ به حتّى أنّه لا يجيز طبيباً ولا يسمح له بفتح العيادة الطبيّة ومعالجة المرضى إلاّ بعد تقديم اطروحة تشهد على إكتماله في هذا الفن.
    2 ـ راجع معالم القربى في أحكام الحسبة من 90 إلى 170 والكتاب برمّته جدير بالمطالعة جدّاً.


(519)
5
برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها
الحكومة الإسلاميّة
والسياسة الخارجيّة
الإسلام يرسم قواعد السياسة الخارجيّة :
    يظنّ بعض الكتّاب الغربيّين ، ومن استقى معلوماته من دراساتهم ومؤلّفاتهم أنّ الغرب هو أوّل من ابتكر (نظاماً للعلاقات الدوليّة) ، وأوّل من أسّس ما يسمّى بالسياسة الخارجيّة ، للحكومات والدول ، ولم يكن للعالم ـ قبل ميلاد الحضارة الغربيّة ـ أيّ نظام للسياسة الخارجيّة ، لأنّه لم تكن هناك علاقات وروابط بين الدول ، كما ظنّوا.
    بيد أنّ هذا ادّعاء يعرف ضعفه وخطأه كلّ من له أدنى إلمام بالتاريخ البشريّ فقد كان بين الشعوب علاقات وروابط ، ولأجل ذلك فقد كان بينهم قوانين ورسوم وضوابط وحقوق تنظّم علاقاتهم وروابطهم حسبما تقتضيه الظروف ، وتتطلّبه الحاجة ولقد اتّخذت هذه السياسة آخر وأفضل أشكالها بمجيء الإسلام.
    ولا نريد ـ في هذا المقام ـ أن نستعرض جميع تلك الضوابط الدوليّة ، وخطوط


(520)
تلك السياسة الخارجيّة التي سنّها الإسلام فإنّ شرح كلّ ذلك على وجه التفصيل يحتاج إلى دراسة موسّعة وعامّة تتناول بالبحث جميع المعاهدات التي عقدها الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مع الدول ، والملوك و زعماء القبائل ، وكذا دراسة المعاهدات والمواثيق التي عقدها بعض الحكّام المسلمين بعده صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    غير أنّ الهدف ـ هنا ـ هو إشارة خاطفة وتلميح عابر إلى (اُصول) هذه السياسة وخطوطها العريضة ، ليعرف الجميع أنّ الحكومة الإسلاميّة يوم قامت كانت جامعة لكلّ البرامج و المناهج التي تحتاج إليها أيّة حكومة ، وحاوية لكلّ ما تحتاج إليه الشعوب والاُمم ، في علاقاتها الخارجيّة.
    وأمّا ما سيتجدّد من الاُمور والحاجات فيمكن معرفة حلولها ، على ضوء الاُصول والقواعد المقرّرة كما هو الحال في غير هذا الباب فإنّ على الشارع المقدّس بيان الاُصول وعلى علماء الحقوق والفقهاء التفريع ، والاستنتاج.
    ونحن نشير في هذا البحث إلى بعض الخطوط الكلّية في السياسة الخارجيّة للحكومة الإسلاميّة :

1 ـ إحترام العهود والمواثيق الدوليّة
    إنّ إحترام المواثيق ، والوفاء بالعهود من الاُمور الفطريّة التي طبع عليها البشر وتعلّمها في أوّل مدرسة من مدارس تكوين الشخصيّة ، أعني مدرسة الفطرة ولأجل ذلك نجد الأطفال يعترضون على أوليائهم إذا خالفوا وعودهم ولم يفوا بها ولهذا قال النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « احبّوا الصّبيان وارحموهم وإذا وعدتّموهم شيئاً فأوفوا لهم » (1).
    هذا مضافاً إلى أنّ الاحترام للميثاق والوفاء بالعهد شرط ضروريّ لإستقرار الحياة الاجتماعيّة واستقامتها ، إذ الثقة المتبادلة ركن أساسيّ لهذه الحياة ، ولا تتحقّق هذه الثقة المتبادلة إلاّ بالوفاء بالعهود ، والاحترام المتقابل للمواثيق ، والوعود ، ولهذا أمر اللّه سبحانه
    1 ـ بحار الأنوار 16 : 155.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس