مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 521 ـ 530
(521)
وتعالى بلزوم الوفاء بالعهد وقال : ( وَ أوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً ) (الإسراء : 34).
    ويقول عن صفات المؤمنين : ( وَالَّذِيْنَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) (المؤمنون : 8).
    وتبلغ أهميّة ذلك أنّ القرآن كما يمدح الموفين بالعهد ، ويقول : ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ ) ( الرعد : 20) ، يذمّ في المقابل الناقضين للعهود ، ويقول عنهم : ( وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) (الرعد : 25).
    بل يشبّه الناقض للعهد بالمرأة الناقضة لغزلها ، بعد أن تعبت على صنعه إشارة إلى ما يتركه نقض العهد من اختلال في الحياة الاجتماعيّة فيقول : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنكَاثَاً ) (النحل : 91 ـ 92 ).
    وقد تضافرت الأحاديث على التأكيد والإيصاء بهذا الأمر فقد قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليف إذا وعد » (1).
    وقال أيضاً : « أقربكم منّي غداً في الموقف أصدقكم في الحديث وأدّاكم للأمانة وأوفاكم بالعهد » (2).
    وقال أيضاً : « يجب على المؤمن الوفاء بالمواعيد والصّدق فيها » (3).
    إنّ نقض العهد والميثاق خير دليل على فقدان الوازع الدينيّ ، وانعدام الشخصيّة الدينيّة ولهذا قال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « لا دين لمن لا عهد لهُ » (4).
    إنّ الذي لا يرتاب فيه أحد هو أنّ المشركين واليهود أشدّ الناس عداوة للمؤمنين كما صرّح القرآن بذلك قائلا : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) (المائدة : 82).
    1 ـ الكافي 2 : 363 ، 364.
    2 ـ الكافي 2 : 363 ، 364.
    3 ـ المستدرك 2 : 85.
    4 ـ بحار الأنوار 16 : 144.


(522)
    ومع ذلك نجد القرآن الكريم يصرّح بلزوم احترام المواثيق والمعاهدات المعقودة مع المشركين فيقول : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَاب أَليم * إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ) (التوبة : 3 ـ 4).
    نعم أجاز الإسلام قتال المشركين إذا نكثوا ايمانهم وخالفوا عهودهم مع المسلمين ولذلك قال سبحانه : ( وَإنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) (التوبة : 12).
    ولأجل أهمّية العهود والمواثيق المعقودة بين المسلمين وغيرهم من الحكومات والأطراف أوصى الإمام عليّ (عليه السلام) واليه الأشتر باحترام المواثيق إذ كتب في عهده المعروف :
    « وإن عقدت بينك وبين عدُوّك عُقدةً أو ألبستهُ منّك ذمّةً فحُط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت فإنّهُ ليس من فرائض اللّه شيء النّاسُ أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم ، وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعُهود » (1).
    كما أنّه لمّا تمّ التحكيم ـ في صفّين ـ طلب الخوارج من الإمام أن ينقض قرارالتحكيم ولكنّه (عليه السلام) ردّهم بأشدّ الردّ قائلاً : « ويحكُم أبعد الرّضا والعهد نرجعُ ، أو ليس اللّهُ يقولُ : ( أَوْفُواْ بِالعُقُودِ ) وقال : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَتَنْْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) » (2).
    ومن نماذج التزام النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بمواثيقه وتعهّداته ردّ أبي بصير إلى مكّة بعد توقيع ميثاق الحديبيّة حيث التزم ـ توخّياً للمصلحة ـ في أحد بنود ذلك الميثاق أن يردّ إلى
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم : 53.
    2 ـ وقعة صفّين لابن مزاحم (طبعة مصر ) : 514 ، وفي الارشاد للشيخ المفيد : 143 ـ 144 مايقارب هذا.


(523)
المشركين كلّ من فرّ من مكّة إلى المدينة ، واعتنق الإسلام فلمّا قدم النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى المدينة أتاه أبو بصير ، وكان ممّن حبس لإسلامه بمكّة فلمّا قدم إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كتب فيه قريش إليه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يطلبونه منه ـ حسب ما التزم في صلح الحديبيّة ـ وأرسلوا من يعيده إلى مكّة ، فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلُحُ لنا في ديننا الغدر وإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق إلى قومك ».
    قال يا رسول اللّه أتردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ قال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يا أبا بصير انطلق فإنّ اللّه تعالى سيجعلُ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً » (1).
    وقد فرّج عنه فيما بعد كما وعده الرسول بإذن اللّه وممّا يؤكد أهمّية العهد والميثاق أنّاللّه سبحانه صرّح بوجوب نصرة المؤمنين القاطنين في مكّة غير المهاجرين إلى المدينة إذاطلبوا النصرة من مسلمي المدينة على المشركين إلاّ إذا طلبوا العون والنصرة على قومبينهم وبين المسلمين ميثاق وعهد ، وإلى هذا أشار قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْيُهَاجِرُوا مَالَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْء حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكُمُالنَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (الأنفال : 72).
    ويندرج تحت هذا الأصل احترام جميع المعاهدات والمواثيق على اختلاف مقاصدها ، ومحتوياتها ، كالمواثيق التجاريّة والعسكريّة والسياسيّة إذا كانت في صالح المسلمين حدوثاً وبقاء.

2 ـ الإسلام والسلام العالميّ
    لا شكّ أنّ لفظة السلام ممّا تلتذّ بسماعها الاذان ، وتهوى إلى حقيقتها الأفئدة والقلوب ، ولذلك تتستّر ورائها الدول الكبرى لتضليل الشعوب.
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 323.

(524)
    وقد أصبح (السلام العالمي) اليوم أكبر مشكلة في المجال الدوليّ حيث تتبارى القوى العظمى في تسليح نفسها بأخطر الأسلحة ، وأف ـ تكها. ولذلك تجري محاولات كبيرة وجهود جبّارة للحفاظ على السلام العالميّ وإقامته ، ومن هذا الباب عقدت مؤتمرات نزع السلاح ، والحدّ من صنع (الأسلحة النووية) وانتشارها ، ولكن هل تُرى استطاعت البشريّة أن تحقّق أيّة خطوات إيجابيّة في هذا المجال أو أخفقت؟ إنّ الوقائع الدامية في أرجاء العالم هي التي تجيب عن هذا السؤال. نعم لقد استطاع الإسلام بما وضع من اُسس وقواعد إنسانيّة أن يحقّق أمل البشريّة في السلام.
    ويكفي دلالة على عناية الإسلام بالسلام اشتقاق اسمه من السلم قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) (البقرة : 208).
    ثمّ هو يدعو إلى الصلح والمسالمة إذا جنح العدو لذلك ، قال سبحانه : ( وَإنْ جَنَحُوا لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) (الأنفال : 61).
    وهو يدعو إلى اقرار السلام حتّى في المحيط العائلي لأنّه مقدّمة لإقرار الصلح في المحيط الاجتماعيّ ، قال : ( وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (النساء : 128).
    ثمّ هو يعتبر جميع المؤمنين والمؤمنات اخوة فإذا حدث بينهم نزاع أوجب على المسلمين المبادرة إلى المصالحة بين المتنازعين ، فقال : ( إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (الحجرات : 10).
    وإذا ما حدث نزاع واقتتال بين طائفتين من المسلمين أمر باصلاح أمرهم ودعا إلى الضرب على أيدي الباغي منهما فقال : ( وَإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمْا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُما عَلى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ فَإنْ فَاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بَالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (الحجرات : 9).
    وقد شاء الإسلام كلّ ذلك وأراده حفاظاً على السلام والتعايش السلميّ ، بحيث يأمل الإسلام في أن تحصل المودّة حتّى بين المؤمنين ومن يعادونهم ويخالفونهم في العقيدة ، قال سبحانه : ( عَسَى اللّهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللّهُ


(525)
قَديرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( المممتحنة : 7).
    وبالتالي فإنّ الإسلام يدعو إلى اقرار السلام في جميع أرجاء الحياة البشريّة.
    وقد سار النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على هذا النهج الإنسانيّ ، فقد فعل ـ عند فتح مكّة ـ ما يكون اُسوة حسنة بعده للحكومات الإسلاميّة حال الفتح فقد أعطى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم رايته ـ يوم فتح مكّة ـ سعد بن عبادة ، وهو أمام الكتيبة فلمّا مرّ سعد براية النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على أبي سفيان نادى : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ (1) الحرمة اليوم أذلّ اللّه قريشاً.
    فأقبل رسول اللّه حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه :
    يا رسول اللّه أمرت بقتل قومك ، زعم سعد ومن معه حينما مرّ بنا فقال : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ الحرمة اليوم أذلّ اللّه قريشاً وإنّي أنشدك اللّه في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس.
    قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان : ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة ، فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « اليومُ يومُ المرحمة اليومُ أعزّ اللّه فيه قُريشاً ».
     [ قال ] : وأرسل رسول اللّه إلى سعد فعزله ، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد (2).
    وأقدم دليل على توخّي الإسلام للتعايش السلميّ ، والسعي إليه بكلّ وسيلة ممكنة ما دام الخصم لا يريد العدوان ، تلك الوثيقة المعروفة التي وقّعها الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مع قريش في (الحديبيّة) ، فإنّ فيها مواداً تدلّ على مدى اهتمام الإسلام بقضيّة السلام ، والتعايش السلميّ ومدى سعيه لإقراره ما أمكنه ، فإنّ الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لمّا أراد أن يكتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل مكّة ، دعا صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال : « اكتُب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ».
    فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب : باسمك اللّهمّ.
    1 ـ في رواية : تسبى.
    2 ـ مغازي الواقديّ 2 : 821 ـ 822 وأعلام الورى للطبرسيّ : 197.


(526)
    فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « اكتُب باسمك اللّهُمّ » فكتبها.
    ثمّ قال : « اكتُب هذا ما صالح عليه مُحمّد رسولُ اللّه سُهيل بن عمرو ».
    فقال سهيل : لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك ، ولكن اكتب : اسمك واسم أبيك.
    فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين يأمن فيهنّ النّاس ويكفّ بعضهم عن بعض على أنّه من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه ، وأنّ بيننا عيبةً مكفوفةً وأنّه لا أسلال ولا أغلال ، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه » (1).
    انظر كيف رضي النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بحذف لقبه توخّيا للسلام وطلباً للصلح.
    وانظر كم بلغت مرونة الإسلام حتّى أنّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم رضي في عهده أن يعيد الهارب من صفوف الكفّار ، في حين التزم بأن لا يعيدوا إليه من ترك صفوف المسلمين وهرب إلى قريش ، وهو غاية في التنازل بهدف إقرار السلام.
    والعجيب أنّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عمل بهذا البند من الوثيقة في نفس المجلس تدليلاً على حسن نيّته ، والتزامه بما كتب ، وحرصه على السلام ، فبينا رسول اللّه يكتب هذا الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال : يا محمّد قد لجّت [ تمّت ] القضيّة بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، قال : « صدقت » ، فجعل يجذبه جذباً شديداً ويجرّه ليردّه إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتننوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً ، و أعطيناهُم على ذلك
    1 ـ سيرة ابن هشام 4 : 318 ، والكامل للجزريّ 2 : 138 ، وأعلام الورى للطبرسيّ : 97.

(527)
وأعطُونا عهد اللّه ، وإنّا لا نغدُر بهم » (1).
    وهذا هو نموذج أو نماذج معدودة في هذا المجال وكتب التاريخ والسير والفقه والحديث طافحة بأمثالها.

3 ـ حكم الأسرى
    تعتبر مسألة (الأسرى) من أهمّ القضايا في النظام السياسيّ الخارجيّ للدول وتعتبر حقوقهم من أبرز ما لفت نظر الحقوقيّين ، واهتمامهم في عالمنا المعاصر حتّى أنّه اتفقت الدول على ميثاق ينصّ على هذه الحقوق هو (ميثاق جنيف).
    وللأسرى في النظام الإسلاميّ مكانة خاصّة ، وقوانين تضمن حقوقهم ، وكرامتهم ، وتكفل احترامهم وسلامتهم.
    إنّ الأسارى على نوعين :
    نوع; يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة ما لم يسلموا ، والإمام مخيّر بين ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم حتّى ينزفوا.
    ونوع آخر; وهو ما إذا اُخذوا بعد انقضائها فحينئذ لم يقتلوا وكان الإمام مخيّراً بين المنّ والفداء ، والاسترقاق ، ولا يسقط هذا الحكم لو أسلموا (2) وهذا هو المشهور بين الفقهاء.
    ويستفاد ذلك من كتاب اللّه العزيز قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِىّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُريدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (الأنفال : 67).
    فالآية صريحة في وجوب قتل الأسارى لغاية الاثخان في الأرض والتمكّن فيها
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 318 ، والكامل للجزريّ 2 : 138 ، وأعلام الورى للطبرسيّ : 97.
    2 ـ نعم نقل أمين الإسلام في مجمع البيان 5 : 97 ، قولا آخر يلاحظه من أراد الوقوف عليه وهو لا يوافق القول المشهور بين فقهاء الشيعة فهو يخالف المشهور في كلا القسمين فلاحظ.


(528)
واستضعاف المشركين ، كما أنّها ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى كقوله سبحانه : ( فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفهمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (الأنفال : 57).
    فهي نزلت في حقّ الناقضين للعهود وتؤكّد على النبيّ بأنّه إذا صادفتهم في الحرب وظفرت بهم وأدركتهم فنكّل بهم تنكيلاً وأثّر فيهم تأثيراً حتّى تشرّد بهم من بعدهم وتطردهم وتمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد ويتفرّقوا في البلاد مخافة أن تقابلهم بمثل ما قابلتهم به ، وأن يحلّ بهم ما حلّ بمن قبلهم فالآية ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى أعني المأخوذين قبل أن تضع الحرب أوزارها ، ويشهد على ذلك قوله تعالى : ( فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفهمْ ) ، وقوله سبحانه : (فَإِذَا لَقَيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الَوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (محمد : 4).
    والظاهر أنّ قوله : ( حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) غاية لقوله : ( فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) أي القتل والتنكيل لحد وضع الحرب أوزارها ، فيختصّ القتل بالأسرى المأخوذين قبل انقضاء القتال وانتهائه.
    وأمّا النوع الآخر أعني المأخوذين بعده فحكمه ما أفاده قوله : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وإِمَّا فِدَاءً ) فالآية تخيّر الحاكم بين إطلاق سراحهم مجّاناً بلا عوض ، وأخذ الفداء بالنفس أو المال.
    وأمّا الاسترقاق فقد دلّت عليه الأحاديث الإسلاميّة ، فلاحظ الكتب الفقهيّة.
    بقي هنا أمران :
    الأوّل : أنّ قتل الأسارى المأخوذين والحرب قائمة يختص بوضع خاصّ لابزمان خاصّ ، فالحكم أبديّ إلى يوم القيامة لكنّه حكم على موضوع محدّد وهو ما إذا كان في استبقاء الأسارى قبل الاثخان محذور كما هو الحال في الصدر الأوّل من التاريخ الإسلاميّ ، فإنّ معيشتهم في ذلك العصر وإمكانيّاتهم كانت محدودة بحيث لا يمكن


(529)
لهم حفظ الأسرى في أثناء الحرب لقلّة الإمكانيّات وعدم وجود الأماكن المناسبة لحفظهم واستبقائهم (1) فربّما كان في استبقاؤهم مظنّة وقوع الفتنة ، وكان موجباً لبقاء قوّة العدو ، وشوكته ، فلأجل ذلك يأمر الكتاب العزيزبقتلهم لغاية الإثخان و الغلبة في الأرض والتمكّن فيها في مقابل العدو.
    فكلمة ( حَتَّى يُثْخَنَ فِي الأرْضِ ) وقوله : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ) توحي بذلك القيد وأنّ الحكم مختصّ بما إذا كان في قتلهم تقوية للمسلمين وإضعاف للعدو.
    وأمّا إذا كان المسلمون أقوياء وكان استبقاؤهم أمراً ممكناً ، ولم تكن في قتلهم تقوية لهم وإضعاف للعدو فالآية منصرفة عن ذلك الوضع ، وممّن تنبّه إلى ذلك « الجصّاص » في إحكام القرآن حيث قال :
    (وذلك في وقت قلّة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوّهم من المشركين فمتى اُثخن المشركون واُذلّوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء ، فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحالة التي كان عليها المسلمون في أوّل الإسلام) (2).
    وقال صاحب المنار في فلسفة القتل قبل الإثخان ما يؤيّد هذا الاتّجاه :
    (فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لإنّ ذلك يفضي إلى ضعفنا ورجحانهم علينا حتّى إذا أثخنّاهم في المعركة جرحاً وقتلاً وتمّ لنا الرجحان عليهم فعلاً ، رجّحنا الأسر (3) المعبّر عنه بشدّ الوثاق لأنّه يكون حينئذ من الرحمة الاختياريّة ، وجعل الحرب ضرورة تقدّر بقدرها ، ولذلك خيّرنا اللّه تعالى فيه بين المنّ عليهم وإعتاقهم بفكّ وثاقهم وإطلاق حريّتهم. وامّا بفداء أسرانا عند
    1 ـ والذي يدلّ على فقدان الأمكنة لحبس الأسارى ما نقله الكتاني عن شفاء الغليل للخفاجيّ أنّه كتب قائلا : « لم يكن في زمن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم سجن » ، وأضاف قائلا : « وكان يحبس في المسجد وفي الدهاليز » التراتيب الإداريّة 1 : 297.
    2 ـ أحكام القرآن 3 : 391 ، ولاحظ أيضاً الصفحة 72 من ذلك الجزء.
    3 ـ الأولى أن يقول : رجّح القرآن الأسر.


(530)
قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم أو بمال نأخذه منهم.
    وجملة القول ، أنّ اتّخاذ الأسرى إنّما يحسن ويكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحقّ والعدل ، إمّا في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين ، وإمّا في الحالة العامّة التي تعمّ كلّ معركة وكلّ قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوّة العامّة والسلطان الذي يرهب الأعداء) (1).
    والعجب أنّ الدكتور محمّد فتحي عثمان الاُستاذ بكليّة العلوم الاجتماعيّة قد نقل في تأليفه « من اُصول الفكر السياسيّ الإسلاميّ » في الصفحة 206 عن الكاتب الشهير محمّد عبد اللّه درّاز في كتابه « دراسات إسلاميّة في العلاقات الاجتماعيّة الدوليّة » في بحث الإسلام والرقّ ، كلمة صرح فيها (بأنّنا إذا نظرنا في القرآن لم نجد فيه أثراً لقتل الأسير والاسترقاق).
    أقول : أمّا الاسترقاق فصحيح أنّه لا يوجد في القرآن ولكنّه ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، وإن كان الاسترقاق خطوة انتقالية إلى أمر آخر وهو تربيتهم على النهج الإسلاميّ ثمّ تحريرهم.
    وأمّا قتل الأسير فيدلّ عليه قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبىّ أنْ يَكُوْنَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ ) (الأنفال : 67) وقد عرفت المراد من الآية.
    الأمر الثاني : قد عرفت أنّ الإمام مخيّر في الأسارى المأخوذين بعد وضع الحرب أوزارها بين اُمور منها الاسترقاق ، فلابدّ من بيان النكتة في ذلك.
    إنّ الاسترقاق لأجل أنّه ربّما تكون المصلحة المنحصرة فيه إذ ربّما يكون إطلاق سراحهم بلا عوض أو مع العوض سبباً لاجتماعهم مرّة اُخرى وتآمرهم ضدّ الإسلام والمسلمين ، ويكون الحبس أمراً شاقّاً وعسيراً.
    1 ـ المنار 10 : 97 ـ 98.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس