مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 531 ـ 540
(531)
    وأمّا قتلهم بعد وضع الحرب أوزارها فتعدّ ضراوة بسفك الدماء وإسرافاً بلا جهة فيتعيّن الأمر في الاسترقاق بتوزيعهم في بيوت المسلمين وجعلهم تحت ولايتهم حتّى يتربّوا بتربيتهم ويتخلّقوا بأخلاقهم وآدابهم (1).
    هذا وتخيّر الإمام أدلّ دليل على مرونة الإسلام حيث ترك للإمام والحاكم المجال ليقوم بما تقتضيه المصلحة.
    وقد أكّد الإسلام على احترام الأسرى والعطف عليهم والرحمة بهم وحسن المعاملة معهم ، قال النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم « استوصُوا بالأسارى خيراً » (2).
    ويكفي دلالة عمليّة على ذلك أنّه لمّا افتتح رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم القموص [ وهي من قلاع اليهود بخيبر ] أتى رسول اللّه بصفيّة بنت حيّي بن أخطب ، وباُخرى معها فمرّ بها بلال ، وهو الذي جاء بهما ، على قتلى من قتلى يهود فلمّا رأتهم التي مع صفيّة صاحت ، وصكّت وجهها وحثّت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قال : « اعزُبُوا عنّي هذه الشّيطانة » ، وأمر بصفيّة فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قد اصطفاها لنفسه فقال رسول اللّه لبلال : حين رأى بتلك اليهوديّة ما رأى : « أنزعت منّك الرّحمةُ يا بلالُ حين تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما » (3).
    بل وحث على إطعام الأسير وسقيه حيث قال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إطعامُ الأسيرحقّ على من أسرهُ » (4).
    وقد بلغ من عطف الإسلام وإنسانيّته أنّه حرّم المثلة بالقتلى ، فلمّا وقف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في اُحدعلى جسد حمزة بن عبد المطّلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ،
    1 ـ راجع في أحكام الأسارى المصادر التالية : الخلاف لشيخ الطائفة الطوسيّ 2 : 46 ، والمختلف للعلاّمة الحليّ 1 : 169 ، وكنز العرفان : 365.
    وقد أشرنا إلى فلسفة الرقّ والاسترقاق في الإسلام وأنّها حالة استثنائيّة اقتضتها ظروف الحرب خاصّة فلاحظ : 275 ـ 261 من كتابنا هذا.
    2 ـ سيرة ابن هشام 2 : 299 و 236.
    3 ـ سيرة ابن هشام 2 : 299 و 236.
    4 ـ وسائل الشيعة 11 : 69 وقد مرّت الإشارة إلى هذا الأمر في : 415 من كتابنا هذا.


(532)
ومثّل به فجدع أنفه واُذنه ، فحزن حزناً شديداً وقال : « ولئن أظهرني اللّهُ على قُريش في موطن من المواطن لأُمثّلنّ بثلاثين رجُلاً منهُم ».
    فأنزل اللّه سبحانه : ( وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلَّصَابِريْنَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاّ باللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْق مِمَّا يَمْكُرُونَ ) (النحل : 126 ـ 127).
    فعفا رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم (1).

4 ـ الحصار الاقتصاديّ ضدّ المعتدين فقط
    لاشكّ أنّ للحكومة الإسلاميّة أن تتوسّل بالحصار الاقتصاديّ ، كوسيلة من وسائل الحرب والدفاع ولكن هذا الأمر تابع لهدف عسكريّ فقط بمعنى أنّه يجوز فقط لأجل تحديد الفعاليّات العسكريّة للعدو في اطار الأهداف الاستراتيجيةّ.
    إنّ الإسلام يقوم بهذا الأمر ضدّ المعتدين والمهاجمين فحسب ، ولا يسّوغ استخدامه ضدّ الأبرياء من الناس.
    وهذا هو سيرة النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ، وإليك نموذجاً من ذلك :
    خرجت خيل رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فأسّروا ثمامة بن أثال الحنفيّ ، فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « أحسنُوا اُسارهُ » فمكث مدة ثمّ اطلقوا سراحه فأسلم ، ثمّ خرج إلى مكّة معتمراً فأخذته قريش وأرادوا قتله ، فقال قائل منهم : دعوه فإنّكم تحتاجون إلى اليمامة [ وكان من ملوكها ] لطعامكم ، فخلّوه ، ثمّ خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكّة شيئاً فكتبوا إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : إنّك تأمر بصلة الرحم ، وإنّك قد قطعت أرحامها فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع. فكتب رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إليه ، أن يخلّي بينهم وبين الحمل (2).
    وهكذا منع الرسول من استخدام الحصار الاقتصاديّ ضدّ الأبرياء من الناس ،
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 96و 639.
    2 ـ سيرة ابن هشام 2 : 96و 639.


(533)
وأعطى درساً رائعاً في مقابلة الأعداء.

5 ـ الحدّ من التسلّح
    يشهدا العالم اليوم سعياً شديداً من الشرق والغرب لنزع السلاح أو الحدّ من التسلّح ، وهوأمر يتبنّاه كثير من الحقوقيّين والمفكّرين غير أنّهم لم ينجحوا في ذلك اللهمّ إلاّ في حقّ الشعوب الضعيفة حيث تمكّن الدول العظمى من إبقاء هذه الشعوب في إطارات محدودة من التسلّح فيما مضت هي في تسليح نفسها حتّى قمّة رؤوسها.
    ويرجع فشل هؤلاء الحقوقيّين والساعين إلى أنّهم يطلبون أمراً غير عمليّ فالإنسان ينزع بصورة فطريّة إلى السيطرة ، والاستيلاء وهي نزعة تجرّه إلى أن يسلّح نفسه بما يتسنّى له من أسلحة.
    ولذلك فإنّ الإسلام يعمد ـ بدل الدعوة إلى نزع السلاح أو ما شابهه إلى تغيير هدف التسلّح ، ووجهة الكفاح والنضال فهو يحثّ البشريّة على أن تجعل نضالها من أجل العقيدة الإلهيّة وبسط العدالة الاجتماعيّة.
    وعندئذ يتغيّر استعمال الأسلحة بتغيّر الأهداف والمقاصد ولا يضير التسلّح ولا يشكّل خطراً على أحد.
    وبالجملة إذا كان النضال من أجل عقيدة دينيّة صحيحة وبوحي منها وتوجيه من تعاليمها تحدّد استخدام الوسيلة الحربيّة بصورة قهريّة ، وأحسن الإنسان استعمالها تبعاً لذلك ، ولهذا يتعيّن على المصلحين السعي في هذا المجال لتثمر جهودهم وتتخلّص البشريّة من الرعب الناشىء عن سباق التسلّح إذ في غير هذه الصورة لن تثمر جهودهم ويبقى الحدّ من التسلّح أو عدم استخدامه في تدمير الحياة أملاً بعيد المنال.

6 ـ الحصانة الدبلوماسيّة في الإسلام
    كما يمتلك الإسلام نظاماً للقتال والحرب كذلك يمتلك نظاماً رائعاً في حال


(534)
السلم والصلح ومن ذلك : النظام الخاصّ بالدبلوماسيّين فإنّ للدبلوماسيّين والسفراء والرسل عند الإسلام احتراماً كبيراً ، وحصانة خاصّة لا نجد لها مثيلا أبداً ، حتّى أنّ للدبلوماسيّ أن يظهر عقيدته المخالفة للدولة الإسلاميّة دون أن يصيبه أذى أو يمسّه من المسلمين ضرر ، ونذكر من باب المثال نموذجاً واحداً يدلّ على ما قلناه : فقد كتب مسيلمة بن حبيب [ الكذّاب ] إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كتاباً جاء فيه :
    أمّا بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأنّ لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوماً يعتدون. فلمّا قدم رسول مسيلمة بهذا الكتاب إلى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وقرأه قال لهما : فما تقولان أنتما ، قالا نقول كما قال ، فقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « أمّا واللّه لولا أنّ الرّسُل لا تُقتلُ لضربتُ أعناقكُما ».
    ثمّ كتب صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى مسيلمة : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من مُحمد رسُول اللّه إلى مُسيلمة الكذّاب السّلامُ على من اتّبع الهُدى أمّا بعدُ فإنّ الأرض للّه يُورثُها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمُتّقين » (1).
    انظر كيف عامل الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم سفيري مسيلمة .. ولم يعاقبهما على إلحادهما.
    وانظر كيف قابل النبيّ مسيلمة ، وقايس بين الكتابين ، فإنّك تجد رائحة الوحي الطيّبة تفوح من كتاب الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وتنبىء عن ذكائه وعقله وحسن درايته وعظيم سياسته وكياسته.

7 ـ التعهّدات المتقابلة ، والمنفردة
    إنّ من أهمّ مايستدعي اهتماماً خاصّاً في السياسة الخارجيّة هي التعهّدات بين الدول وهي على نوعين :
    1 ـ التعهّد من جانب واحد.
    2 ـ التعهّد من جانبين.
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 639.

(535)
    أمّا التعهّد من جانب واحد فهو شكل بسيط من التعهّدات .. فإنّ الدولة تلتزم من ناحيتها باُمور اتّّجاه دولة اُخرى بصورة ابتدائية ، كأن تعترف بها ، وبأمنها وتتعهّد بعدم العدوان عليها وعدم التعرّض لها ، ونحن نجد ـ في الإسلام ـ نماذج من هذا النوع ، فعندما خرج النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى تبوك في ملاحقة الروم ، فانتهى إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة ، فصالح رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فأعطاه النبيّ كتاباً التزم فيه باُمور وإليك نصّه :
    « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذه أمنة من اللّه ومحمّد النبيّ رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيّارتهم في البرّ والبحر لهم ذمّة اللّه ، وذمّة محمّد النبيّ ، ومن كان معهم من أهل الشّام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثاً فإنّه لا يحول ماله دون نفسه وأنّه طيّب لمن أخذه من النّاس وأنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر » (1).
    إنّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يتعهّد لتلك الجماعة بأن يحترم أمنهم في كلّ الحالات والأماكن ويعترف لهم بحقّ الحياة والعيش ، ويضمن سلامة تنقّلاتهم من دون أن يأخذ منهم تعهّداً متقابلا.
    وأمّا التعهّدات المتقابلة فهي أيضا على قسمين : فتارة يلتزم الطرفان بالاُمور السلبيّة مثل : أن يتعهّدا بأن لا يتعرّض أحدهما للاخر ، وغير ذلك ، وتارة يلتزم الطرفان بالاُمور الإيجابيّة مثل التعهّد بالتبادل التجاريّ والثقافيّ ، ونحن نرى نماذج من كلا النوعين في تاريخ الحياة السياسيّة للإسلام.
    ونمثّل للنوع الأوّل بقصّة بني ضمرة.
    فإنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لما بلغ « ودان » وهي غزوة الأبواء يريد قريشاً ، وبني ضمرة بن بكر بن عبد منات بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذي وادعه منهم عليه مخشي ابن عمرو الضمري وكان سيّدهم في زمانه ، فلمّا خرج الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادعه على بني ضمرة في
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 525.

(536)
غزوة ودان فقال : يا محمّد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال : « نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك (1) ثُمّ جالدناك حتّى يحكُم اللّهُ بيننا وبينك » (2).
    ومن هذا القبيل ما جرى في صلح الحديبيّة الذي مرّ عليك.
    ونمثّل للتعهّدات المتقابلة على الاُمور الإيجابيّة بما حصل بين النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وخزاعة في الحديبيّة ، حيث كان من بنود صلح الحديبيّة مع قريش أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت خزاعة في عقد رسول اللّه وعهده ، وهو يمثّل التعاون الدفاعيّ الذي يطلق عليه اليوم بالمعاهدات الدفاعيّة.
    ويستفاد من حياة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّ إلغاء المعاهدة كان يتمّ تارة بصورة مباشرة واُخرى بصورة غير مباشرة.
    فنرى أنّ قريشاً لمّا عاونت بني كنانة معاونة غير مباشرة بالسلاح عدّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ذلك نقضاً وذلك عندما تحقّقت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منها ثأراً ، فخرج نوفل بن معاوية وهو يومئذ قائدهم حتّى بيت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلا وتحاوزوا واقتتلوا ورفدت بني بكر قريش بالسلاح وقاتل معهم قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم.
    فلمّا تظاهرت بنو بكر و قريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من العهد والميثاق بما استحلّوا من خزاعة وكان في عقده وعهده وعرف النبيّ بذلك اعتبره نقضاً للعهد وإلغاء للمعاهدة ، فخرج صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى فتح مكّة ملغياً ما كان بينه وبين قريش من وثيقة الصلح (3).
    1 ـ المقصود هو الموداعة التي تمّت في اللقاء الأول لاحظ سيرة ابن هشام 1 : 591.
    2 ـ سيرة ابن هشام 2 : 210 و 390 ـ 397.
    3 ـ سيرة ابن هشام 2 : 210 و 390 ـ 397.


(537)
    كل هذا يكشف عن وجود نظام خاصّ لهذه التعهّدات في السياسة الخارجيّة للإسلام يتجلّى خطوطه في مجموعة المواقف النبويّة وغيرها من مصادر الشريعة.

8 ـ المعاهدة للاستقراض الحربيّ
    إنّ للحكومة الإسلاميّة أن تستقرض أو تستعير من الآخرين ما تحتاج إليه من المال أو السلاح في حالات الحرب. والحاجة إلى ذلك .. وهو أمر فعله النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لما عاهد نصارى نجران ووضع عليهم جزية معيّنة ، وشرط عليهم أن يعيروا ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة.
    وقد جاء في هذه الوثيقة. « وما هلك ممّا أعاروُا رُسلي من خيل أو ركاب فهُم ضمن حتّى يردّوهُ إليهم ، ولنجران وحاشيتها جوارُ اللّه وذمّةُ مُحمّد النبيّ رسُول اللّه على أنفُسهم وملّتهم وأرضهم وأمُوالهم وغائبهم وشاهدهم الخ » (1).

9 ـ قطع العلاقات السياسيّة
    لما كانت إقامة العلاقات الوديّة مع الدول الاُخرى ، وتوقيع المعاهدات معها لأجل مصالح تقتضي ذلك ، وفي مقابل أعمال يجب أن يقوم بها المعاهد ، فإنّ الإخلال بمحتويات هذه المعاهدات ، والقيام بما يخالف هذه المصالح يجوّز ـ في منطق العقل ـ قطع العلاقات .. ونقض المواثيق المعقودة وقد فعل الرسول الأكرم ذلك في قصّة الحديبيّة حيث أقدم على نقض الصلح مع قريش ، وفتح مكّة عندما أظهرت قريش سوء نيّتها.
    بيد أنّه يجب أن يكون قطع العلاقات تابعاً للمعايير الإنسانيّة ، ولمبرّرات صحيحة ، فإذا اقتضى الأمر قطع العلاقات ونقض المعاهدة وجب على الحكومة الإسلاميّة إعلام الطرف الآخر بذلك وإبلاغه بالقطع ، قال اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ
    1 ـ راجع فتوح البلدان للبلاذريّ 76.

(538)
عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّة وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَامَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْم خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) (الأنفال : 56 ـ 58).

10 ـ الإسلام والبلاد المفتوحة
    لقد كان المتعارف في العصور الماضية إذا استولت دولة على بلد ، أن تفعل فيه ما تشاء من القتل والتشريد والاسترقاق والنهب وما شابه ذلك ، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم إذ قال : ( إنَّ الْملوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) (النمل : 34).
    وأدلّ دليل على ما ذكره التاريخ من أعمال الملوك والقادة عند فتحهم للبلاد ، وللمثال نذكر القصّة التالية :
    لمّا دخل إسكندر المقدونيّ فارس هدم حصون فارس ، وبيوت النيران وقتل الهرابذة ، وأحرق كتبهم واستعمل على مملكة فارس رجالاً وسار قدماً إلى أرض الهند فقتل ملكها ، وهدم مدنها ، وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم ثمّ سار منها إلى الصين (1).
    ولا يخفى عليك ما ارتكبه جيش المغول والتتار من الدمار والجرائم عند غزو إيران والعراق وارتكاب ما لا يمكن ذكره في هذا المختصر ، وقد كانوا يفعلون كلّ ذلك استناداً إلى ما كانوا يعتقدونه من حقّ التسخير والفتح للفاتحين.
    نعم إنّ الحقوقيّين قرّروا اُموراً لمن يسخّرون البلاد ويفتحونها ولكن من ترى يصغي لهم ويعمل بما قرّروه من قيود وأحكام ، فليس كلّ ما تقرّره المؤسّسات العالميّة من اُمور تجريه الدول وتنفّذه الحكومات ، فهذه منظمة الاُمم المتّحدة لايتجاوز أحكامها عن
    1 ـ الكامل لابن الاثير 2 : 160.

(539)
حدود التوصيات والرجاءات .. وهذه إسرائيل قد صدرت بحقّها عشرات القرارات والطلبات من منظمة الاُمم المتّحدة ولكنّها تنفّذ كلّ يوم جرائمها في لبنان وغيرها من الأراضي الإسلاميّة بلا اكتراث واعتناء بالاُمم المتّحدة وقراراتها وطلباتها ونداءاتها المكرّرة.
    وها هو الإسلام قد فتح ـ أيام حكومته ـ بلاداً ومدناً ، وسيطر على الامبراطوريّتين الكبيرتين (فارس والروم) ولكن لم يفعل ما يفعله الفاتحون ، إلاّ بما تقتضيه الضرورة ، ولم يأخذ من المغلوب عليه سوى (الجزية) التي وقفت على قدرها وأحكامها السهلة السمحة.
    ولأجل ذلك نجد الشعوب المختلفة تستقبل الفتوحات الإسلاميّة برحابة صدر بل وتطالب الحكومات الإسلاميّة تخليصها من حكوماتهم والعيش تحت راية الإسلام وفي ظلّ حكومته العادلة.
    وما ذكرناه في سيرة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في مجال العلاقات الخارجيّة وعهوده يعتبر قدوة ومنهجاً كاملا للحكومة الإسلاميّة في معاملتها مع الدول والشعوب الاُخرى. وقد أشرنا غير مرّة إلى أنّ الواجب على الإسلام هو بيان الاُسس الكليّة والاُصول العامّة وأمّا الأشكال المناسبة لهذه الاُسس فمتروكة للزمن والظروف الطارئة.
    ثمّ لمّا كان الإسلام نظاماً للبشريّة كافّة فإنّ هذا النظام لم يرتض لحكومته أن تعيش منغلقة على العالم كجزيرة في وسط بحر بل يدعو إلى أن تقيم هذه الحكومة جسوراً مع المجتمع الدوليّ لتستفيد من خبرات البشر ، كما تفيدها ديناً وأخلاقاً ونظاماً إلهيّاً ضامناً لسعادة البشريّة.


(540)
6
برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها
الحكومة الإسلاميّة
والاستخبارات والأمن العامّ
    لا تفتيش عن العقائد ، ولا اطّلاع على الأسرار
    لاشكّ في أنّ أهمّ ما جاء به الإسلام من اُصول اجتماعيّة هو الحريّة العقائديّة والشخصيّة ، والاحترام الكامل للإنسان وعقائده ، وأفكاره وأسراره ، ولذلك فهو لم يسمح بتفتيش عقائد الأفراد ومنع من محاولة التعرّف على أسرارهم ودخائل حياتهم وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله : ( وَلاَ تَجَسَّسُوا ) (الحجرات : 12).
    كما أنّه لم يسمح لأحد ـ فيما لو اطّلع على دخيلة أحد أو علم بسرّ من أسراره الخاصّة ـ أن يبوح به للناس ، أو يفضحه على رؤوس العباد وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله : ( وَلاَيَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً ) (الحجرات : 12) ، فهاتان الجملتان اللتان وردتا في آية واحدة تكشفان عن هذا الأصل الإسلاميّ الذي أشرنا إليه إلاّ وهو الحفاظ على أسرار الآخرين وحرمة الاطّلاع عليها ، وهو أصل دلّت عليه الروايات والنصوص المتضافرة القاطعة في النهي ، والتحريم والتحذير.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس