مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 541 ـ 550
(541)
    فقد ورد عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم » (1).
    وهو كلام صريح في الأصل المذكور.

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة
    ولكنّ المتأمّل في تلك النصوص والقرائن الحافّة بها يجد أن هذا النهي والتحريم يختصّان بالأسرار الفرديّة التي لا تمتّ إلى المجتمع بصلة ، ولا ترتبط بمصالح الاُمّة بوشيجة.
    فعندما يتعلّق الأمر بالمصالح العامّة لا يمكن التغاضي عن أسرار الفرد ، وقضاياه ، إذ من البديهيّ في تلك الصورة ـ أن تترجّح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة ، وإلاّ تعرّضت الاُمّة لأخطار تهدّد كيانها ، وتنذر وجودها بالفناء والدمار.
    إنّ التشريع الإسلاميّ الذي ينهي بشدّة عن محاولة الاطّلاع على دخائل الناس وأسرارهم الشخصيّة ـ فيما لو كانت تخصّ بهم ـ ويحرّم اغتياب الأفراد لا يمنع من التعرّف على الاُمور التي ترتبط بمصلحة الجماعة ، بل يسمح للدولة الإسلاميّة بجمع المعلومات الصحيحة المفيدة لوضعها تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ ، حتّى يتحرّك على ضوئها ، فيتعرّف على المت آمرين ، ويبطل خططهم ومؤامراتهم حفاظاً على مصلحة الاُمّة وإبقاء على وجودها ، وكيانها من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، وهذا أمر يؤيّده العقل السليم وتقبله الفطرة ، وتدعو إليه الحكمة ، ويقتضيه التدبير الصحيح ، والسياسة الرشيدة.

الاستخبارات الراهنة مرفوضة
    على أنّ من الطبيعيّ أن يتصوّر القارىء الكريم بمجرّد سماعه لكلمة
    1 ـ بحار الأنوار 75 : 214 نقلا عن ثواب الأعمال : 216.

(542)
(الاستخبارات والأمن العامّ) تلك الأجهزة الجهنّمية المخيفة التي تعتمد عليها الحكومات الطاغوتيّة الحاضرة في ملاحقة الشعوب ، وقهر إرادتها ، وقمع حركتها.
    أقول من الطبيعيّ أن تتداعى في ذهن القارئ هذه الصورة القائمة ، وهذا المعنى الأسود ، لأنّ شعوبنا المظلومة قد اعتادت على مثل هذا التصوّر عن جهاز المخابرات وأعمال التجسّس ، ولكنّ الحقيقة أنّ ما نقصده من جهاز الاستخبارات يختلف تماماً عن هذه الصورة.
    فجهاز الاستخبارات ـ في الحكومة ـ ليس لقمع الشعوب المظلومة المضطهدة وخنق صرخاتها ، وتحطيم حركاتها العادلة وليس لتحديد نموّ الاُمم ورشدها العقليّ والعلميّ ، وإخضاعها لسياسة معينة حتّى لو كانت خاطئة ، وجائرة .. بل هو لأهداف وطنيّة عادلة نشير إليها فيما يلي :

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة
    إنّ أهداف جهاز الاستخبارات والأمن العامّ ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ تتلخّص في ثلاثة وظائف واُمور أساسيّة تقتضيها مصلحة الاُمّة وهي :
    1 ـ مراقبة نشاط الموظّفين في الحكومة الإسلاميّة ، ليقوموا بمسؤوليّاتهم الإداريّة المناطة إليهم بأمانة وانضباط.
    2 ـ مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء بهدف إفشال أي عدوان محتمل وإحباط أيّ تحرّش في اللحظة المناسبة.
    3 ـ مراقبة تحرّكات ونشاطات الأجانب ورصد تسلّلهم أو نفوذهم في البلاد الإسلاميّة للحيلولة دون قيامهم بأيّة (مؤامرة) تسيء إلى أمن البلاد ، من إيجاد الأحزاب الداخليّة ، والسريّة المعادية للاُمّة أو بثّ الشائعات المضرّة بالأمن ، والمخلّة بعزائم الناس ، وإرادة الجماهير ، فإنّ للمخابرات وجهاز الأمن العامّ ـ في الدولة الإسلاميّة ـ أن تقوم بعمل تجسّسيّ دقيق في هذه المجالات والأبعاد.


(543)
    وإليك فيما يلي تفصيل هذه الأقسام الثلاثة وأدلّتها الإسلاميّة :

1 ـ مراقبة الموظّفين
    إنّ أوّل ما تهدفه الحكومة الإسلاميّة هو خدمة الاُمّة ، وتنفيذ الأحكام الإسلاميّة بأمانة ودقّة ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بأن يقوم جميع الموظفين ـ في هذه الحكومة ـ بواجباتهم ووظائفهم الإداريّة بأمانة وصدق وانضباط ، ولتحقيق هذا الأمر يحاول الإسلام في الدرجة الاُولى أن يختار للمناصب والوظائف الحكومية كلّ أمين صادق من الموظّفين كمّا مرّ عليك سابقاً ولكنّ الدولة الإسلاميّة لا تكتفي بالاختيار الحسن لموظّفيها ، وتتركهم دون مراقبة ونظارة ، بل تنصب من تراقبهم وترصد أعمالهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم دون تلكّؤ ويؤدّوا واجباتهم الإداريّة والحكوميّة دون تقصير فها هو الإمام الرضا (عليه السلام) يقول : « كان رسولُ اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إذا بعث جيشاً فأمّهُم أمير بعث معهُ من ثُقاته من يتجسّس لهُ خبرهُ » (1).
    وفي عهده المعروف لمالك الأشتر يوصي الإمام عليّ مالكاً بإرسال من يراقب عمّاله ، ويرفع إليه عنهم الأخبار والتقارير فيقول : « وابعث العُيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنّ تعاهُدك في السرّ لاُمُورهم حدوة لهُم على استعمال الأمانة والرفق بالرّعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهُم بسط يدهُ إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبارُ عُيُونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقُوبة في بدنه وأخذتهُ بما أصاب من عمله ثُمّ نصبتهُ بمقام المذلّة ، ووسمتهُ بالخيانة ، وقلّدتهُ عار التّهمة » (2).
    وهكذا يؤكّد الإمام عليّ (عليه السلام) على ضرورة تعيين جهاز يراقب أعمال الموظّفين وأصحاب المناصب الحكوميّة ، ثمّ يؤكّد عليه أن يختار لهذا الجهاز من يثق بأخباره من الأفراد ثقة مطلقة إلى درجة يكتفي بأخبارهم إذا أخبروا عن خيانة أو تقصير ، وهذا يعني أن يكون أعضاء جهاز (الاستخبارات ) من الرجال الصالحين إلى درجة يثق الحاكم
    1 ـ قرب الاسناد : 148.
    2 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 53.


(544)
الإسلاميّ بأخبارهم.
    ومن المعلوم أنّ جهازاً من هذا النوع وأعضاء من هذا القبيل لا يمكنّ أن يتحوّل إلى جهاز جهنّمي على غرار ما يوجد الآن في البلاد الإسلاميّة في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة الراهنة التي تتحكّم في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم وتتجاوز على حقوقهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض أو الشكوى.
    ويبدو أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) نفسه كان له عيون ورجال يتجسّسون له على ولاته وعمّاله في مختلف البلاد حيث إنّنا نجده يعاتب بعض ولاته على اُمور غير لائقة بهم ـ كولاة وحكّام إسلاميّين ـ صدرت عنهم ، ونرى نموذج ذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة ، وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب الإمام (عليه السلام) إليه : « أمّا بعدُ ، يا ابن حُنيف ، فقد بلغني أنّ رجُلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ ، وتُنقلُ إليك الجفانُ ، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قوم عائلُهُم مجفُوّ وغنيّهُم مدعُوّ » (1).
    وتفيد كلمة (بلغني) أن هناك من كان يبلّغ هذه المعلومات عن الولاة إلى الإمام عليّ .. كيف لا وهو يأمر مالكاً أن يتّخذ مثل هؤلاء النظّار والمفتّشين على عمّاله ، وقد دعا بعض علماء الإسلام إلى ذلك أيضاً ، قال أبو يوسف في كتاب الخراج يوصي حكام زمانه : (وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمّال وما عملوا به البلاد ... وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك ... فحرام عليك استعماله) (2).
    وربما كان الإمام عليّ (عليه السلام) بنفسه يقوم بالسؤال عن أعمال الولاة ، أو يأمر ولاته بأن يراقبوا أعمال الموظّفين من جانبهم.
    فقد كتب إلى كعب بن مالك وهو عامله : « أمّا بعدُ فاستخلف على عملك
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 45.
    2 ـ الخراج لأبي يوسف : 128.


(545)
وأخرج طائفةً من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السّواد كورةً بعد كورةً فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم » (1).

2 ـ مراقبة تحرّّكات العدو العسكريّة
    رغم أنّ التكتيكات العسكريّة ، والتمرينات النظاميّة اليوم تختلف عمّا كانت عليه بالأمس اختلافاً شاسعاً ، ولكنّ عامل (التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة والتعرّف على أسراره ومواقعه النظاميّة ، وفنونه القتاليّة ، ومدى استعداداته ، وحجم قواه ومعدّاته وعدد أفراده وآليّاته) لا يزال منذ القديم وإلى الآن يحتفظ بأهمّيته القصوى ، ويعتبر ـ اليوم ـ من أفضل الأسباب والعلل لنجاح الجيوش أو سقوطها وفشلها.
    ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المسلمين ـ قادة وحكومات ـ منذ القدم غير أنّها اتّخذت صفة العلم والتخصّص في العصور الحاضرة فصار (فن التجسّس) علماً يدرّس في الجامعات يتخصّص فيها الأفراد كما يتخصّصون في الفنون الاُخرى إلى درجة صارت القوى العظمى ـ اليوم ـ تجعل انتصاراتها ونجاحاتها مرهونة بمدى نجاحها وتفوّقها في ميدان التجسّس على العدو ، فراحت تنفق الأموال الطائلة على جهاز الاستخبارات ، وتدفع بجواسيسها المتمرّسين في شتّى أنحاء العالم ليجمعوا لها الأخبار ، ويرفعوا إليها التقارير ، ويتوسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة للحصول على أدقّ المعلومات العسكريّة ونقلها إلى مراكزهم بشتّى الوسائل والحيل.
    وربّما تسلّل هؤلاء الجواسيس إلى السلطات في الدول الاُخرى ، إمّا بأنفسهم أو بواسطة من يدسّونهم في تلك الدوائر من رجال أو نساء بمختلف الحيل والسبل والحجج.
    وربّما تسابق الجواسيس سباقاً عنيفاً ، ودمويّاً في تحصيل المعلومات ، وأدّى الأمر في بعض الأحيان إلى المخاطرة بالنفس والمغامرة بالحياة كلّ ذلك انطلاقاً من أهمّية
    1 ـ الخراج لأبي يوسف : 128.

(546)
العمل التجسّسي في حياة وبقاء الشعوب والحكومات.

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ
    لقد استخدم النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم منذ تشكيله للدولة الإسلاميّة نظام التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة حتّى أنّ كثيراً من نجاحاته وانتصاراته العسكريّة والسياسيّة ترجع إلى اهتمامه البالغ بالمعلومات التي كانت ترد إليه من الأعداء عن طريق (عيونه) وجواسيسه الذين كان يبثّهم في كلّ مكان ، فيرفعون إليه ما يشاهدونه من تحرّكات العدوّ ، ويخبرونه بأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم ، فكان صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يباغتهم وهم في عقر دارهم ويفاجئهم وهم نيّام راقدون ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحَاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحَاً ) (العاديات : 1 ـ 2).
    فقد وجّه رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إلى منطقة وقال له : « اكمن النّهار ، وسر اللّيل ولا تُفارقك العينُ (أي الجاسوس ) ».
    فانتهى (عليه السلام) إلى ما أمره رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فسار إليهم ، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم ، فأنزل اللّه سبحانه على نبيّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحَاً ) (1).
    وإليك فيما يأتي نماذج من هذا الأمر :
    1 ـ في حرب بدر خرج النبيّ مع أحد أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب ، وهو صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يحاول التعرّف على أخبار قريش فسأله صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ : انّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.
    2 ـ بعث النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عليّاً (عليه السلام) مع بعض الأصحاب إلى ماء بدر يلتمسون
    1 ـ نور الثقلين 5 : 652.

(547)
الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لقريش فأتوا بهما فسألوهما ورسول اللّه قائم يصّلي فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلمّا بالغوا في ضربهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما ، وركع رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وسجد سجدتيه وقال : « واللّه إنّهُما لقُريش ، أخبراني عن قُريش » ؟ قالا : هم واللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهم رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « كم القُومُ » ؟ قالا : كثير ، قال : « ما عدّتُهُم » ؟ قالا : لا ندري ، قال : « كم ينحرُون كُلّ يوم » ؟ قالا : يوما تسعاً ، ويوما عشراً ، فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « القومُ فيما بين التسع مئة ، والألف ».
    ثمّ قال لهما : « فمن فيهم من أشراف قُريش » ؟ قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل و .. فأقبل رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على الناس فقال : « هذه مكّةُ قد ألقت إليكُم أفلاذ كبدها » (1).
    3 ـ كان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء (الذين اُرسلا من جانب النبيّ للتجسّس على قريش ) قد مضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء ثمّ أخذا شناً لهما يستقيان فيه ، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء وهما يتلازمان ويتعاركان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنّما تأتي العير غداً أو بعد غد ، فاعمل لهم ثمّ اقضيك الذي لك ، قال مجدي : صدقت ثمّ خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فاخبراه بما سمعا (2).
    هكذا كان رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يستطلع أخبار القوم ويتجسّس عليهم ويبطل مؤامراتهم في اللحظة المناسبة.
    وقد أخمد مؤامرة بني سليم وقبيلة قطوان بما حصل عليه من معلومات ساعدته على مباغتتهم وإفشالهم.
    1 ـ سيرة ابن هشام 1 : 616 ، 617.
    2 ـ سيرة ابن هشام 1 : 616 ، 617.


(548)
    ثمّ إنّنا نلاحظ كيف استفاد عيون الرسول من تقصّي الخبر ، مع الإستفادة الكاملة من قاعدة التستّر والسريّة وهو أمر كان يهتمّ به الرسول في كلّ عمليّاته الاستطلاعيّة ، فها هو عندما يبعث أحد أصحابه للاستطلاع يحيط مهمّته بكامل السريّة والتحوّط وإليك القصّة :
    بعث رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عبد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.
    فلمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : « إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتّى تنزل نخلةً بين مكّة والطّائف فترصُد بها قُريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ».
    فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش قال : سمعاً وطاعة (1).
    ألا ترى كيف أنّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فرض على مبعوثه أن لا يطلع على الكتاب الذي أعطاه خوف أن يتسرّب الخبر إلى الناس فيتسرّب منهم إلى قريش وتفشل خطة الرسول.
    4 ـ لقد كانت معركة أحد من المعارك الصعبة التي فقد فيها الرسول الأكرم 70 شخصا من أصحابه بمن فيهم حمزة أسد اللّه وأسد رسوله ولكن لو لم يكن يعرف الرسول ـ قبل ذلك ـ أوضاع العدو لفاقت الخسائر ما وقع.
    فإنّ قريشا لمّا خرجت وهم ثلاثة آلاف ومعهم عدة وسلاح كثير وقادوا ما ئتي فرس وكان فيهم سبعمائة دارع وأجمعوا المسير كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول اللّه يخبره « أنّ قريشا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه وقد توجّهوا إليك وقادوا مائتي فرس ، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير واوعبوا من السلاح » فقدم الغفاري إلى المدينة فوجد النبيّ بقباء وهي قرية متّصلة بالمدينة فدفع إليه الكتاب فقرأه
    1 ـ سيرة ابن هشام 1 : 601.

(549)
عليه اُبيّ بن كعب واستكتم اُبيّاً ما فيه (1).
    5 ـ تحالفت قريش واليهود وغطفان في حرب الخندق ضد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وصاروا كتلة واحدة على الإسلام والمسلمين ، فاتّخذ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم سياسة التفرقة بينهم فبعث نعيم ابن مسعود ، الذي قام بدوره بأحسن صورة ، التي تعد فريدة في نوعها وإليك القصّة :
    جاء نعيم بن مسعود إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وقال : يا رسول اللّه إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت ، فقال رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إنّما أنت فينا رجُل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خُدعة ».
    فخرج نعيم حتّى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهليّة فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم ، وخاصّة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وانّ قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه ، فقالوا له : قد أشرت بالرأي.
    ثمّ أتى إلى أبي سفيان ورجال قريش وقال : إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوا مع محمّد وتعهّدوا له بأن يسلّموا إليه رجالاً من قريش ليعفو عنهم ثمّ خرج إلى غطفان وهم عشيرته وحذّرهم وقال لهم مثل ما قال لقريش.
    وهكذا ألقى الحيرة والخوف وعدم الثقة بين قريش وغطفان واليهود المتحالفين ضدّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    فلمّا اقترب موعد الحرب ضد النبيّ طلبت اليهود من قريش وغطفان رجالاً كرهائن عندهم ، قالت قريش وغطفان : إنّا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا
    1 ـ مغازي الواقديّ 1 : 203 ـ 204.

(550)
فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ... (1) وهكذا انفرط عقد التحالف القرشيّ اليهوديّ الغطفانيّ بفعل نعيم وتخذيله والدور الذي لعبه كما يلعبه أي جاسوس يعمل لصالح جهة معيّنة ، وينفّذ تكتيك التفرقة بين قوى العدو ببث الشائعات والتخويف.
    6 ـ وفي نفس الواقعة (أي واقعة الخندق ) لمّا انتهى إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ما اختلف من أمرهم وما فرّق اللّه من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وقال له : يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدّثن شيئاً حتّى تأتينا.
    يقول : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لاتقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه؟
    قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت ، قال : فلان ابن فلان.
    [ وفي شرح المواهب : فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده ، فقلت من أنت ؟ قال معاوية بن أبي سفيان ثمّ ضربت بيدي على يد الذي كان على شمالي فقلت من أنت ؟ قال : عمرو بن العاص ] (2).
    ثمّ راح أبو سفيان يتحدّث عن ما لحقهم من الخلاف والبلاء ومقتل عمرو بن ود وقال ارتحلوا فانّي مرتحل.
    يقول حذيفة : فواللّه لولا عهد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لقتلته بسهم.
    ثمّ رجع إلى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأخبره بعزم قريش على الانسحاب من هذه المعركة والفرار.
    وهذا يكشف عن أنّ هذا النوع من العمل كان ابتكاراً من النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وعملاً
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 229 ، ومغازي الواقديّ : 480.
    2 ـ سيرة ابن هشام 2 : 232 ومغازي الواقديّ : 482.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس