مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 551 ـ 560
(551)
بديعاً في ذلك العصر ، وهو ينبىء عن نبوغ الرجل الذي اختاره النبيّ وحسن اختياره صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وحرصه على العمل الذي كلّف به.
    وفي هذا الصدد قال نابليون : إنّ وجود رجل واحد مناسب وذكيّ من الاستخبارات خير من عشرين ألف مقاتل في ميدان الحرب.
    7 ـ بلغ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهوديّ ، وكان بيته عند جاسوم (موضع بالمدينة ) يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في غزوة تبوك فبعث إليهم النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم طلحة بن عبيد اللّه في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة.
    ومن المعلوم أنّ هناك من كان يترصّد الأخبار لرسول اللّه ويبلغها له ، إذ من المعلوم أنّ العمليات التي كان يقوم بها اليهود والمنافقون وهم بمثابة الطابور الخامس ، كانت في غاية السريّة ، فلا بدّ أن يكون هناك من كان يتجسّس عليهم ويسترقّ أخبارهم ويعطيها للنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    8 ـ في وقعة خيبر لمّا كان في إحدى الليالي قبضت الدوريّة العسكريّة الإسلاميّة على رجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر أن يضرب عنقه ، فقال : اذهب بي إلى نبيّكم حتّى اُكلّمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فوجده يصلّي فسمع صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كلام عمر ، فسلّم وأدخله عليه فدخل باليهوديّ ، فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لليهودي : « ما وراءُك » ؟ فقال : تؤمنّي يا أبا القاسم ، فقال : « نعم » ، قال : خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال فأين يذهبون؟ قال : إلى الشقّ يجعلون فيه ذراريهم ، ويتهيّأون للقتال في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبّابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله (قال رسول اللّه : « إنشاء اللّهُ » قال اليهوديّ : إنشاء اللّه) أوقفتك عليه فإنّه لا يعرفه غيري ، واُخرى ، قيل ما هي ، قال : يستخرج المنجنيق ، وينصب على الشقّ ويدخل الرجال تحت الدبّابات فيحفر الحصن فتفتحه من يومك ، وكذا تفعل بحصون


(552)
الكتيبة.
    ثمّ قال : يا أبا القاسم : احقن دمي ، قال : « أنت آمن » قال : ولي زوجة فهبها لي ، قال : « هي لك ».
    ثمّ دعاه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى الإسلام فقال : انظرني أيّاماً (1).
    9 ـ بعث رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عباد بن بشر في فوارس طليعة فأخذ عيناً من يهود من أشجع فقال : من أنت ، قال : باغ ابتغي أبعرة ضلّت لي ، قال له عباد : ألك علم بخيبر ؟ ، قال : عهدي بها حديث فيم تسألني عنه ، قال : عن اليهود ، قال : نعم.
    (ثمّ أخبر عن اليهود بأخبار كاذبة بقصد إرعاب المسلمين) فعند ذلك رفع عباد ابن بشر السوط فضربه ضربات وقال : ما أنت إلاّ عين لهم ، أصدقني والاّ ضربتُ عنقك. فقال الإعرابي : أتؤمنني على أن أصدقك ، قال عباد : نعم ، فقال الإعرابي : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود إلى آخر القصة (2).
    10 ـ وفي اُحد بعث النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عينين له انساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول اللّه فأخبراه بمكان قريش وأنّ مع قريش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وغير ذلك (3).
    11 ـ وفي غزوة الحديبيّة بعث رسول اللّه بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال : إنّي تركت كعباً وعامراً قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً وهم قاتلوك أو مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت ، فقال : « روحُوا » إلى آخر القصّة (4).
    1 ـ المغازي 2 : 647 ـ 648 ، السيرة الحلبيّة 3 : 41.
    2 ـ المغازي للواقديّ 2 : 640 ـ 642.
    3 ـ المغازي 1 : 206.
    4 ـ مجمع البيان 9 : 117.


(553)
    ولعلّ أوضح نصّ في هذا المجال هو ماوصّى به الإمام عليّ (عليه السلام) جيشاً بعثه إلى العدو حيث قال : « واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلاّ يأتيكم العدّو من مكان مخافةً أو أمن واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم .. وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً و إذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفةً [ أي مثل كفة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم ] ولا تذوقوا النوّم إلاّ غراراً أو مضمضةً [ أي ينام ثمّ يستيقظ ثمّ ينام ] » (1).
    وهو موقف اتّخذه الإمام عليّ (عليه السلام) عمليّاً إذ كتب إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة إذ قال : « أمّا بعد فإنّ عيني [ أي رقيبي الذي يأتيني بالأخبار ] بالمغرب [ أي الأقاليم الغربيّة ] كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام ، العمي القلوب الصمّ الأسماع ، الكمه الأبصار الّذين يلبسون الحقّ بالباطل ... الخ ».
    هذه بعض النماذج من الأعمال التجسّسية التي كان يأمر بها الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم غيره من قادة الإسلام في المجال العسكريّ ، لمعرفة التحركات المعادية للحكومة الإسلاميّة.
    كلّ ذلك يؤكّد موقف الإسلام من جهاز الاستخبارات العسكريّة الذي يضمن جمع المعلومات الدقيقة حول العدو ، ويمكّن القيادة والحكومة من اتّخاذ الموقف المناسب.

3 ـ مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم
    إنّ الوظيفة الثالثة ، وبالأحرى الجانب الأهمّ من عمل الأمن العامّ والاستخبارات هو مراقبة نشاطات الأجانب الأعداء في داخل البلاد الإسلاميّة ورصد تحرّكاتهم ونفوذهم لمنع ظهور الطابور الخامس الذي يرجع إليه السبب الأكبر في سقوط الدول
    1 ـ نهج البلاغة : الكتاب 33.

(554)
والحكومات ولقد سلك النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم هذا المسلك وتمكّن بذلك أن يمنع من محاولات أعداءه العدائيّة ، ويبطل خططهم في الداخل.
    إنّ حياة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم تبيّن أنّه كان يسعى دوماً إلى أن يدفع العدو إلى الخضوع للحقّ ، ولم يكن يهدف الانتقام والثأر وإراقة الدماء.
    ففي المعارك والغزوات التي شارك فيها النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أو بعث سريّة لمقابلة العدو كان يهدف بالدرجة الاُولى إلى تفريق جمعهم ، وتشتيت صفّهم لأنّه كان يعلم بأنّه لو ارتفعت الموانع عن طريق الإسلام لاستطاع الدين بمنطقه البيّن ونهجه القويم أن يشقّ طريقه إلى قلوب الناس.
    فإذا تفرّق جمع العدو ، ويئس من السيطرة على الإسلام ، وعاد الناس إلى فطرتهم ورشدهم ، استطاع الدين أن يتسرّب إلى قلوبهم ، وجذبهم إلى صفّه ، وهذا هو أمر تدلّ عليه الأحداث التاريخيّة فإنّ كثيراً من الشعوب والأقوام التي هزمت أمام القوّة الإسلاميّة العسكريّة ، عادت إلى رشدها وراحت تفكّر في قبول الدين واعتناق تعاليمه ومفاهيمه.
    وقد ظهر هذا الأمر في فتح مكّة بأجلى مظاهره.
    لقد كان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يعلم أنّه لو فتح مكّة ونزع السلاح من العدو ، وتهيّأت البيئة المساعدة للتفكير والتدبّر فلن يمضي زمان كبير إلاّ ويستقبل الناس بقلوبهم وعقولهم دعوة الإسلام ، ولذلك كان يتحتّم على النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أن ينتصر على العدو ، ويتغلّب عليه ولكن دون إبادته وتدميره وإفنائه .. ما دام حقن الدماء ممكناً. ولتحقيق هذا الهدف المقدّس (الغلبة على العدو دون إراقة الدماء) كان يتعيّن مباغتة الطرف الآخر ومفاجأته قبل أن يفكّر في الدفاع عن نفسه ، وقبل أن يقوم بأيّ عمل مضادّ ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ما كان ليتحقّق إلاّ بأن تبقى جميع أسرار السياسة الإسلاميّة مصونة محفوظة لا يعلم بها الطرف الآخر ، ولا يقع في يده شيء منها فلا يعلم العدو مثلا هل يريد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مهاجمتهم أوّلاً ، وعلى فرض عرف العدو ذلك ، فلا يعرف متى وكيف ومن أين ، كلّ ذلك


(555)
أسرار يجب أن تبقى مصانة ومحفوظة لا يدري بها العدو ، ولهذا كان يتعيّن على النبيّ أن يلاحظ عملاء العدو في الداخل لكي لايسرّبوا أيّ خبر من داخل البلاد إلى العدو ولا يخبروه بخبر يفوّت على النبيّ مقاصده.
    ومن هنا اتّخذ النبيّ الاجراءات الفوريّة عندما بلغه أنّ هناك من أفشى خبر سفره وتوجّهه إلى مكّة لفتحها ، فلمّا أجمع الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش بخبرهم بعزم الرسول ، ثمّ أعطى الكتاب إلى امرأة فجعلته في شعر رأسها ، فأتى الخبر إلى رسول اللّه من السماء فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام فخرجا حتّى أدركاها في موضع بين مكّة والمدينة فأنزلاها من رحلها ، وفتّشا الرحل فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ بن أبي طالب : « إنّي أحلفُ باللّه ما كذب رسولُ اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ولا كُذّبنا ولتُخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك ».
    فلمّا رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه. فأتى به إلى رسول اللّه وعاتب النبيّ حاطب بشدّة (1).
    وفي ذلك نزلت الآيات الاُول من سورة الممتحنة ابتداءمن قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ ... الخ ) (الممتحنة : 1).
    وهكذا كان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يحبط الأعمال التجسّسيّة التي كان يقوم بها العدوّ في عمق بلاده.
    وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى ضرورة وجود جهاز يكشف مؤامرات العدو في الداخل.
    يقول القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج :
    (وينبغي للإمام أن تكون له مسالح (مخافر حدوديّة) على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتّشون من مرّ بهم من التجّار فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد ، ومن كان معه كتب قرئت كتبه فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 399.

(556)
أخذ الذي اُصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه) (1).

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ
    إنّ الإسلام أمر بالتشدّد مع اُولئك النفر من المسلمين الذين يتجسّسون لصالح الأجانب ، ففي الإرشاد للشيخ الأجلّ المفيد :
    لمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيعة الناس ابنه الحسن (عليه السلام) دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور فعرف ذلك الحسن (عليه السلام) فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه وكتب الحسن (عليه السلام) إلى معاوية : « أمّا بعدُ فإنّك دسست الرّجال للاحتيال والاغتيال وأصدرت العيُون كأنّك تُحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتُوقعهُ إنشاء اللّهُ تعالى » (2).
    كما أمر بالتشديد مع أهل الذمّة الذين يتجسّسون في الداخل على المسلمين لصالح الأعداء والأجانب ويعتبر ذلك نقضاً للذمّة.
    قال المحقّق الحليّ في الشرائع في باب شرائط أهل الذمّة :
    1 ـ كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفّى (182 هـ) طبعة القاهرة عام (1303).
    2 ـ الإرشاد : 192 للمفيد الفقيه المؤرّخ محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى (413 هـ).


(557)
    ( ... أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين (أي جاسوسهم) والتجسّس لهم فإن فعلوا من ذلك شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة كان نقضاً ) (1).
    وقال العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء في ما يشترط على أهل الذمّة :
    (وأن لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم ولا يدلّوا على عوراتهم فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحلّ دمه وماله وبرئت منه ذمّة اللّه ورسوله والمؤمنين) (2).
    وكتب القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج يقول :
    (سألت عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم ، وإن كانوا من الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة) (3).
    وهكذا يكون من وظائف الحكومة الإسلاميّة تشكيل جهاز قويّ مجهّز بكلّ الوسائل القويّة للتجسّس في الإطارات المذكورة التي مرّ عليك ذكرها.
    على أنّ الإسلام ـ كعادته وكما أسلفنا ـ تعرّض في هذه المسألة لجوهر الأمر ولم يدخل في تفصيلاته وشكليّاته فإنّ كيفيّة التجسّس ونوع الرموز والأجهزة متروكة للزمن على أن تكون في إطار التقوى والأخلاق وحسب الشروط التي مرّت.
    وجملة القول أنّ ما نفهمه من حياة الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وسيرته السياسيّة هو الاهتمام الشديد الذي كان يبديه بمسألة الاستخبارات.
    فإنّه وإن لم يكن في زمن النبيّ تشكيلات للاستخبارات على غرار ما يوجد الآن في العالم الحديث ولكن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان ـ مضافا إلى اتّخاذ العيون ـ قد ربّى المسلمين تربية سياسيّة رائعة بحيث أصبح كلّ مسلم يرى نفسه مسؤولا عن الأمن فكانوا يرفعون إليه فوراً كلّ خبر يرتبط بهذا الأمر ، فها هو زيد بن أرقم ـ وهو غ ـ لام يافع ـ عندما يسمع أحد قادة الطابور الخامس (عبد اللّه بن اُبي) في غزوة بني المصطلق وهو يقول : : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ويعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فقال : أنت واللّه الذليل القليل المبغض ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين ..
    1 ـ شرائع الإسلام كتاب الجهاد : 329.
    2 ـ تذكرة الفقهاء 1 : 442.
    3 ـ كتاب الخراج : 205 ـ 206.


(558)
ثمّ أسرع إلى النبيّ وأخبره بالأمر (1).
    فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تربّي المسلمين بهذه التربية ، ليعتبر كلّ واحد منهم نفسه مسؤولاً عن أمن البلاد دفعاً للفساد ، ونهياً عن المنكر ، وإن كان ذلك لا يغني عن تأسيس جهاز مستقلّ لذلك.
    وأخيراً نكرّر القول بأنّه يجب أن يكون جهاز الاستخبارات لصالح الإسلام والمسلمين مائة بالمائة ، ولا يكون على غرار ما في الدول المعاصرة ، إذ ليس ذاك إلاّ للحفاظ على عروش الاُمراء والرؤساء والملوك ، ولذلك فهو لا يتجسّس لصالح الاُمّة بل يتجسّس على الاُمّة لإخماد صوتها وإكبات حريّاتها وتحطيم مقاومتها. وإخضاعها للسياسات الاستعماريّة ، والمطامع الأجنبيّة.
    1 ـ مجمع البيان 5 : 294.

(559)
7
برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها
الحكومة الإسلاميّة
والنظام العسكريّ
قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة
    إنّ قوام كلّ اُمّة من الاُمم يرتبط بمدى قدرتها على الدفاع عن وجودها ، وحماية شخصيّتها اتّجاه الأعداء ، فبقدر ما تكون تلك الاُمّة مجهّزة بالعدد والعدّة ، تستطيع أن تدفع عن نفسها أيّ عدوان وتحافظ على كيانها في سياج من الأمن والدعة والاسقرار ، وبقدر ما تكون ضعيفة في هذه الناحية تكون معرّضة للزوال والاندحار أمام هجمات الأعداء ، ومن هنا أنشأت الجيوش ، واُوجدت العساكر الجرّارة .. وظهرت إلى الوجود الأساطيل البحريّة ، ووسائل الحرب..
    ولقد صارت هذه الجيوش والعساكر شيئاً فشيئاً وسيلة بأيدي الطغاة والطامعين فغزوا بها البلاد وأغاروا بها على المدن. . فكانت الوقائع الدامية ، والحروب المريعة ، والمجازر الفضيعة التي صبغت التاريخ البشريّ بلون الدم القاني.


(560)
الجيش في خدمة الدين والشعب
    إنّ الجيش في الحكومة الإسلاميّة ليس كالجيوش في الدول الامبرياليّة الشرقيّة والغربيّة لا يكون الهدف منها إلاّ توسعة النفوذ ، والتجاوز على الحقوق والإغارة على أموال الآخرين وثرواتهم.
    كما أنّه ليس كالجيوش في العالم الثالث حيث لا يكون الهدف منها إلاّ الحفاظ على سيطرة السلطات الديكتاتوريّة العميلة هناك وسلب الحريّات ، وقمع المعارضة ، وضرب الانتفاضات الشعبيّة .. وبالتالي حماية المصالح الأجنبيّة ، بل الجيش في الحكومة الإسلاميّة إنّما هو للمحافظة على ثغور البلاد الإسلاميّة ، واستقلال البلاد .. وما فيها من ثروات وشعوب ، وعلى ذلك يتّصف الجيش الإسلاميّ بصفة الحافظ الصائن لا الغازي المهاجم ، المحرّر لا المعتدي .. والصديق في جانب الشعب ، لا القوّة القاهرة له ، العدوة لأبنائه.
    ولقد كان هذا الأمر موضع اهتمام الإسلام منذ طلوعه وبزوغه ، فإنّ الدين الذي جاء ليكتسح الظلمات وينقذ البشريّة من براثن الاستعباد والاستثمار كان من الطبيعيّ أن يواجه معارضة ممّن بنوا حياتهم على استعباد الإنسان واستثماره واستغلاله ، ومن هنا كان طبيعيّاً ـ أيضاً ـ أن يعدّ الإسلام عدّته لمواجهة أعدائه ومعارضيه الذين راحوا يكيدون له أشدّ الكيد ، ويتربّصون به الدوائر.
    إنّ من يلاحظ الحياة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وما بعده يجد نشاطاً عسكريّاً فريداً من نوعه ، ومن يلاحظ التعاليم الإسلاميّة ذاتها يجد نظاماً عسكريّاً فريداً أيضاً ، فقد تضمّن القرآن الكريم تعاليم راقية ومتقدّمة جداً في الشؤون العسكريّة وتوجيهات لا سابق لها في الفنون النظاميّة.
    ثم إنّ من يلاحظ النصوص الإسلاميّة يجدها تحثّ المسلمين حثّاً بليغاً وأكيداً على تعلم الرماية والتدريب على السلاح ومزاولة التمرينات العسكريّة استعداداً لكل
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس