مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 21 ـ 30
(21)
مقدمة الطبعة الأُولى
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج متكامل
في
عالم التفسير
    الإسلام دين الله الأبدي الخالد وشريعته الدائمة الباقية مع مرّ العصور والأزمان ، ولابد لهذه الشريعة الباقية من سند قوي يسندها ، ودليل واضح يدل على أنّها حق لا يتسرّب إليه أي شك أو شبهة ، فكان ذلك السند والدليل هو القرآن الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهوالمعجزة الخالدة التي ستبقى سنداً حياً للشريعة الإسلامية إلى يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين.
    لقد كانت المعاجز التي ظهرت على أيدي موسى بن عمران والمسيح بن مريم ( عليهما السلام ) ، معاجز تخص عصرهما ، فلم يشاهد منها شيء في العصور المتأخّرة عنهما ، ذلك لأنّ شريعتيهما كانتا خاصّة بفترة زمنية معيّنة محدودة بحدود مؤقتة ، فكانت معاجزهما كافية لتلك الفترة التي تسري فيها شريعتهما.
    أمّا نبوّة نبي الإسلام محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) التي هي آخر النبوّات ، وشريعته التي هي خاتمة الشرائع ، فلابد لها من معجزة تناسبها ، وتواكب سيرها الزمني لتكون النبراس الذي


(22)
يضيء الطريق للجيل المعاصر للرسول والأجيال التي ستأتي بعده إلى ماشاء الله تعالى. يمحو صدأ الشكوك عن أذهان كافة البشر ، ويدلّهم دلالة واضحة إلى طريق الحق اللاحب والصراط المستقيم.

القرآن وآفاقه اللامتناهية
    لم يمض من نزول القرآن نصف قرن ، إلاّ وقد وضع علماء الإسلام علوماًجمة لفهمه وكشف أسراره ومعانيه ، ولو أمعنا النظر لرأينا أنّ كثيراً من العلوم ، وضعت أوّلياتها لاستيضاح مداليل آيات القرآن وما يمكن أن يستخرج من جملها وعباراتها وذلك كالنحو ، والصرف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان ، والبديع ، والقراءة ، والتجويد ، وقصص القرآن ، وشأن نزول الآيات.
    مع هذه الجهود الجبارة المبذولة من قبل أعلام العلماء طيلة القرون الأربعة عشر الماضية ، ومئات المؤلفات الكبيرة والصغيرة المدوّنة في سبيل الكشف عن الأسرار الكامنة في الآيات القرآنية.
    مع كل هذه المساعي ، لم يصلوا إلى أعماق ما في القرآن من عجائب الأسرار وغرائب الحكم الكامنة فيه.
    يسير الانسان حثيثاً في استجلاء معارف القرآن الفكرية وقوانينه الاجتماعية والأخلاقية وسائر تعاليمه العالية. ولكنه لم يزل ، يجد الجديد فيه عندما يتعمق في البحث ، ويرى ما قد غفل عنه الأقدمون ولم يصلوا إليه. كأنه أمام بحر مواج بالحقائق العلمية لا يدرك غوره ، ولا يتوصل إلى أعماقه ، ولا يمكن معرفة ما فيه من الأسرار والعجائب.
    كأنّ القرآن الكريم ، هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة ، الواسع الأطراف ، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره ، إلاّ معرفة أنّه لايزال الانسان في الخطوات الأُولى من التوصل إلى مكامنه الخفية في أغواره. فأنّ كتاب الله تعالى كذلك ،


(23)
لا يتوصل إلى كل ما فيه من الحقائق والاسرار ، لأنّه منزل من عند الله الذي لا تتصور له نهاية ، ولا يمكن تحديده بحدود وأبعاد ، فيجب أن تكون في كتابه لمعة من لمعاته ، ويثبت بنفسه أنّه من عنده ، ويتوفر فيه ما يدل على أنّه كتاب سماوي ليس من صنع البشر ، وهو خالد إلى ما شاء الله تعالى.
    أنّ نبي الإسلام العظيم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هو أوّل من لفت الأنظار إلى تلكم المزيّة وأنّ هذه المزيّة من أهم خصائصه ، حيث يقول في وصفه له : « له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لاتحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة » (1).
    وبعد النبي يأتي دور أول تلميذ لمدرسته وهو الإمام أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) ليصف القرآن بقوله : « أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لايخبو توقده ، وبحراً لا يدرك قعره ... ـ إلى أن قال ـ : وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغضيها الواردون » (2).
    وسأل رجل علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) فقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ فقال : « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة » (3). نرى أن الرضا ( عليه السَّلام ) لايشير في هذا الحديث إلى موضوع خلود القرآن فقط ، بل يشير أيضاً إلى سرخلوده وبقائه غضاً جديداً لا يتطرق إليه البلى والذبول.
    ويجب أن نذكّر القارئ بأنّ النبي وأئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) لم يكونوا وحدهم هم الذين لفتوا الأنظار إلى موضوع آفاقه اللامتناهية ، بل عظماء العرب والعارفون منهم
    1 ـ الكافي ، كتاب القرآن ، ج 2 ، ص 599.
    2 ـ شرح نهج البلاغه لعبده ، ج 2 ، ص 202.
    3 ـ البرهان في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 28.


(24)
أدركوا هذه الحقيقة في أيام الإسلام الاُولى ، واعترفوا بعجزهم عن الوصول إلى أغوراه ، والتوصل إلى ما فيه من الأسرار والحكم.
    هذا الوليد بن المغيرة حكيم العرب وريحانتهم وخطيبهم المنطيق يجلس إلى النبي ليستمع ما كان يتلوه من آيات « سورة غافر » ، وبعد هنيئة ذهب إلى قومه « بني مخزوم » ليقول لهم مصارحاً : ( والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن ، وأنّ له لحلاوة ، وأنّ عليه لطلاوة ، وأن أعلاه لمثمر ، وأنّ أسفله لمغدق ، وأنّه ليعلوا وما يعلى ) (1).
    يمكن اعتبار قول الوليد هذا ، أول تقريظ بشري صدر من انسان واع أدرك بفطرته وذوقه السليم أنّ القرآن ( أعلاه لمثمر ، وأسفله لمغدق ، وأنّه يعلو وما يعلى ).

التفسير في مختلف الاتجاهات
    في القرن الثالث الهجري ـ عندما قطعت العلوم الإسلامية أشواطاً بعيدة ، ووصلت إلى مراحل عالية من النضج والرقي ـ حدث في علم التفسير تطوّر ملموس ، فإنّه قبل هذه الفترة كان التفسير منحصراً بنقل أحاديث مروية عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو آراء بعض الصحابة والتابعين وأحياناً بعض أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام ، أمّا في هذا القرآن وما بعده فقد أدخل كل ذي اختصاص المباحث العائدة إلى موضوع اختصاصه ، في التفسير ، بل ربّما لا يكتب بعضهم إلاّ ما يدخل في إطار العلم الذي أصبح له اليد الطولى فيه.
    فأعلام الأدب العربي خصصوا كتبهم التي تتناول القرآن بمباحث الاعراب واللغة والاشتقاق ، كما صنع الزجاج والواحدي مؤلّف كتاب « البسيط » وأبو حيّان مؤلّف كتاب « البحر والنهر ».
    وشيوخ البلاغة اهتموا بصورة خاصّة بما يتعلّق بفصاحة القرآن وأسراره البلاغية
    1 ـ مجمع البيان ، ج 10 ، ص 387.

(25)
التي كانت العرب تدركها بفطرتها السليمة ، وذوقها المرهف ، وحاول هؤلاء الشيوخ إثبات إعجاز القرآن من هذه الزاوية التي تعود إلى اللفظ والتركيب. ومن باب المثال نذكر منهم الزمخشري وكتابه « الكشاف ».
    والفلاسفة والمتكلّمون والمتصوفة أطالوا الكلام في الآيات التي توافق اتجاههم الفكري ولم يهتموا اهتماماً كبيراً بالجوانب الإُخرى من المباحث التفسيرية ، بل نرى في كثير من كتاباتهم أنّهم أوّلوا بعض الآيات تأويلات بعيدة لايحتملها الذوق الخالي عن المسبقات الذهنية الفلسفية والكلامية والصوفية ، وذلك كما صنع الفخر الرازي في كتابه « مفاتيح الغيب » ومحيي الدين ابن العربي في التفسير المنسوب إليه ، وعبدالرزاق الكاشاني في كتابه « تأويل الآيات » وقبلهم اخوان الصفا في رسائلهم المشهورة.
    والفقهاء توفروا في تفاسيرهم على آيات الأحكام فأشبعوها بحثاً ودراسة ، ومرّوا على بقية الآيات مروراً سريعاً كما صنع القرطبي في تفسيره ، بل خص جماعة من الفقهاء كتبهم بتفسير آيات الأحكام فقط ولم يتناولوا بقية الآيات أصلا كالجصاص والفاضل المقداد والمقدس الأردبيلي والشيخ أحمد الجزائري.
    وجماعة آخرون خدموا القرآن بجمع قصصه وما يتعلّق بأسباب نزول الآيات والقراءات واختلاف القرّاء والقواعد التجويدية ، كالواحدي في كتابه « أسباب النزول » والداني في كتابه « التيسير » والجزري في « المقدمة الجزرية » والسجاوندي في كتابه « الوقوف » وغيرهم.
    وقد خطا فريق من المفسّرين خطوات أوسع ، فحاولوا التوفّر على كل هذه الأبحاث ودرجها بصورة مختصرة في تفاسيرهم ، ومن هؤلاء الشيخ الطوسي في « التبيان » والطبرسي في « مجمع البيان » والنيسابوري في « غرائب القرآن » والآلوسي في « روح البيان ».

المنهج الصحيح في التفسير
    المفسّر الحقيقي هو الذي يتجرّد عن ميوله الخاصّة ، وعقائده الشخصية تجرّداً


(26)
كاملا ويعرض آراءه على الآيات القرآنية لا الآيات على ما يعتقده.
    والطريق المفيد لتفسير القرآن ، أن لا يروم المفسّر ، تفسير كتاب الله سبحانه وقلبه ممتلئ بآراء وأفكار تخصّه ، ولا يتقدم إليه باحثاً عمّا قد يؤيد آراءه وأفكاره بل أن يتقدم إليه ليكتشف مقاصده ومراميه ، فإنّ العقيدة التي يمتلئ بها الشخص تملك عليه كل تفكيره ، ولا تترك له سبيلا إلى المقاصد التي يستهدفها الكتاب.
    إنّ أحسن المناهج المتّبعة في التفسير ، عرض بعض الآيات على بعضها والاستمداد من الأحاديث الإسلامية الصحيحة لاستخراج المعاني والمفاهيم القرآنية استخراجاً صحيحاً. فيجب لاتّباع الطريقة المستقيمة في التفسير مراعاة الشرطين التاليين :

1 ـ تفسير القرآن بالقرآن :
    إنّ القرآن الكريم يؤكد بأنّه تبيان لكل شيء حيث يقول : ( ونزَّلنا عليكَ الكِتبَ تِبيناً لِكُلِّ شيء ) ( النحل : 89 ) ، فالقرآن حيث يكون موضّحاً لكل شيء كما هو مصرّح في هذه الآية ، فهو موضّح لنفسه أيضاً ، إذ لا معنى لأن يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه فلابد أن يوضح أيضاً ما يبدو أنّه غامض في نفسه ، ومعنى هذا ، أنّه يمكن استيضاح بعض الآيات لفهم المراد من البعض الآخر.
    القرآن كلّه « هدى » و « بيّنة » و « فرقان » و « نور » كما في قوله تعالي ( شَهرُ رَمضانَ الّذي أُنزلَ فِيهِ القرءَانُ هُدىً للناسِ وبيّنت مِنَ الهُدى والفُرقانِ ) ( البقرة : 185 ) وقوله تعالى : ( وأنزَلنَا إليكُم نوراً مُبِيناً ) ( النساء : 174 ).
    والكتاب الذي يحتوي على هذه المزايا لا محيص من الاعتراف بأنّه يرفع عن نفسه ما يظن فيه من الالتباس والغموض ، ذلك لأنّه لا يمكن أن يكون كتاباً فارقاً بين الحق والباطل ، ونوراً هادياً للبشرية ، وبرهاناً مرشداً إلى ما فيه الصواب ثم يكون في جملة من آياته تعقيد يتيه الانسان في فهمه والتوصل إلى مفاهيمه. وعليه يجب الرجوع إلى الآيات نفسها لفهم ما أُشكل من الآيات الأُخرى التي تشبهها.


(27)
    قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً ».
    وقال منعاً لحشر الآراء والنظريات الشخصية في التفسير وحملها على الآيات حملا : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار » (1).
    إنّ تفسير القرآن الكريم بعضه ببعض ، وعرض الآيات على ما يشبهها في المنطوق أو الهدف ، هو الطريقة المأثورة عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) فإنّ الدقة في الأحاديث التفسيرية المروية عن الأئمة تثبت بوضوح ما نقول ، وتدل على أنّ هذا المنهج كان المنهج المحبّب إليهم في إيضاح النصوص القرآنية لتلامذة مدرستهم.
    إنّ الآحاديث التفسيرية المروية عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) تدلّ دلالة واضحة على أنّهم استعانوا بنفس الآيات وعرض بعضها على بعض ، في تفسيرها وبيان معانيها وإيضاح مداليلها ومفاهيمها ولم يتصدوا في وقت من الأوقات لحمل آرائهم الشخصية على الآيات الكريمة حملاً ، بل استنتجوا من مقارنة الجمل والكلمات والألفاظ الموجودة في بعض الآيات استيضاح آيات أُخرى مشابهة لها في المنطوق أو المفهوم.
    يقول علي ( عليه السَّلام ) في كلام له يصف فيه القرآن : « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في الله ولا يخالف بمصاحبه عن الله » (2).
    ولا بأس أن نقدم هنا نموذجاً من تفسير القرآن بعضه ببعض ليرى القارئ الكريم كيف يمكن رفع الالتباس عن الآيات بهذه الطريقة :
    يقول تعالى في سورة الشعراء ـ 173 في قوم لوط : ( وأَمْطَرنَا عَلَيهِم مطَرَاً فَسَاءَ مَطَرُ المُنذَرِينَ ) أنّ هذه الآية واضحة كل الوضوح من جهة المفهوم ولكن فيها غموض من جهة المصداق ، فإنّ الانسان يتحيّر من المعنى المراد من المطر السوء ، إلاّ أنّ الآية
    1 ـ حديث متفق عليه بين الفريقين.
    2 ـ نهج البلاغه ، ج 2 ، ص 22 ، الخطبة 129.


(28)
74 من سورة الحجر ، تبيّن هذا المعنى عندما تقول : ( وَأَمْطَرنَا عَلَيْهِم حِجَارَةً مِن سِجّيل ).
    إنّ اتّباع هذه الطريقة يكشف كثيراً من الحقائق الخفية ويلقي أضواء على ما أُبهم من الآيات ، شريطة أن يجعل الإنسان الصبر على البحث ، والدقة الكاملة والتأنّي في إصدار الحكم ، رائداً له.

2 ـ على ضوء الأحاديث الإسلامية الصحيحة :
    إنّ بعض الآيات تصرح بأنّ النبي الكريم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هو المبيّن للقرآن والمعلّم لآياته ، فيقول تعالى : ( وَأَنزَلنا إليكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ للنّاسِ ما نُزِّل إلَيهم ) ( النحل : 44 ) ويقول : ( هُوَ الّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّنَ رَسُولا مِنْهُم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتبَ ) ( الجمعة : 2 ).
    من هاتين الآيتين نعرف أنّ ما أُبهم من القرآن لمصالح لا نعلمها نحن ، يجب الرجوع للكشف عن غوامضها إلى النبي وأهل بيته الذين هم عدل القرآن بشهادة حديث الثقلين المتفق على روايته عن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    ولابد هنا أن نلفت الأنظار إلى أهمية معرفة الأحاديث الصحيحة ، والتمييز بينها وبين الأحاديث غير الصحيحة ، وأنّه لا يمكن الاعتماد على ما نقل عن الصحابة والتابعين في التفسير بصورة مرسلة غير مسندة ، بل يجب التثبت فيها والتأكد من أنّها واجدة لشرائط الحجية التي هي مذكورة في محالها من مباحث علوم الحديث ، وإلاّ فلا يحسن الاستناد إليها في كشف ما أُبهم من القرآن ، بسبب بعد العهد من عصر الوحي أو كون الآيات نزلت مجملة كذلك لمصالح خاصة ليس هنا محل تفصيلها (1).
    ولقد أثرت عن أهل البيت ( عليهم السلام ) في هذا المجال أحاديث لوحظ في أكثرها جانب التربية والتعليم والمحاولة لتقريب استفادة المعاني والنكات إلى الأذهان ، ( من
    1 ـ مثل الآيات التي ذكرت فيها الصلاة والصوم والزكاة والحج و ...

(29)
دون حشر رأي خاص فيها وحمله على الذي يستعرضه ) بتدبّر ودقة ، وهذا موضوع يتضح جلياً لمن أمعن النظر في تلك الأحاديث التفسيرية. وهذه الأحاديث لها قيمتها الخاصة وإن لم يصح إسناد بعضها ، لمجانبتها عن التفسير التعبدي ومحاولتها التعليم وإرشاد القارئ إلى كيفية استفادة المعاني من الآية نفسها من دون إستناد إلى شيء آخر.

تأثير الحضارة الغربية في المنهج التفسيري
    لقد أثّرت ترجمة الفلسفة اليونانية وعلومها إلى العربية في فهم معاني الآيات والمفاهيم القرآنية تأثيراً بعيد المدى ، فقد ادخلت في التفسير جملة من المسائل الفلسفية والطبيعية التي لا تمت إليه بصلة ، وحملت عليه حملا لايمكن تقبّلها لو تجردنا عن الاتجاه الفلسفي اليوناني الوافد.
    إنّ بعض المفسّرين أوّلوا كثيراً من الآيات حسب المفاهيم الفلسفية الوافدة من المشائيين والاشراقيين وعلى ضوء القواعد البطليموسية في الهيئة القديمة وعلم الفلك ، وللتوفيق بين هذه الآراء والآيات القرآنية والأحاديث التفسيرية ، تشبّثوا بنظريات بعيدة كل البعد عن السياق والمفهوم القرآني ، وكانت محاولتهم فاشلة ، بعد تبدّل النظريات العلمية والمكتشفات التجريبية.
    وقد واجه القرآن هذه المشكلة أيضاً بل أعمق منها بكثير عندما وسّعت أُوربا الخطوات إلى المدنية الحاضرة وكانت لها آراء حديثة في النظريات الفلكية والطبيعية والرياضية وغيرها وسخّرت بمكتشفاتها العلمية الجديدة البحار والوديان ، وراحت لتسيطر على ما في أجواء السماء.
    وانتقل كثير من هذه النظريات الحديثة إلى الشرق ممزوجاً بشيء من سوء الظن بالنسبة إلى المسائل الدينية والأُصول المذهبية ، ذلك لأنّ أُوربا اتخذت التجربة والحس قاعدة أساسية لعلومها ، وأهملت إهمالا كليّاً كل ما يتعلّق بما وراء الطبيعة وربّما عملت على إنكارها وإبادتها وإبعادها عن المجادلات العلمية.


(30)
    إنّ وفود هذا النوع من الفكر المزيج بسوء الظن بالمسائل الغيبية والمعارف الإلهية ، دعا البعض إلى الابتعاد عن الدين ، والالحاد فيه ، كما دعا البعض الآخر إلى تأويل الآيات بما يوافق الاتجاه الفكري المعاصر ، وآل بهم الأمر إلى أن يأوّلوا الآيات المصرّحه بمعاجز الأنبياء ، والروح ، والجن ، والبرزخ ، بتأويل يوافق الأُسس المادية والطبيعية (1).
    كما أنّ تقدم العلوم الطبيعية في مجالات مختلفة ، دفع بعض الباحثين إلى أن يفرطوا في تأويل الآيات حسب الأُسس الطبيعية والنواميس الكونية ، كأنّ القرآن كتاب في الكيمياء والفيزياء وليس له أهداف أُخرى.
    وفي مطاوي بعض الكتب التفسيرية المؤلّفة في هذا القرن ، نرى الاتّجاه العلمي والفكري الغربي بوضوح ، في عرض المسائل القرآنية وتحليلها ، وهي تحاول بكل ما تملك من القوى أن توفق بين المفاهيم القرآنية الاجتماعية والأخلاقية ، وبين النظريات الغربية ، كأنّها كتبت للتوفيق بين المدرسة الإلهية والمدرسة الاُوروبية المعاصرة.
    إنّ هذا الفريق من الباحثين جلبتهم العقيدة الدينية بالقرآن الكريم وتقديسه والإذعان به ، وانجرفوا من جهة أُخرى فى تيار المدنية الغربية المبنية على أساس إنكار المقدسات والمعنويات أو إرضاء لميولهم الخاصة نحو هذه المدنية ، عملوا جادين في تأويل الآيات بالطريقة التي ذكرناها.

نزول القرآن نجوماً
    لا شك أنّ الآيات القرآنية نزلت تدريجياً ، على قلب الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) طيلة ثلاث وعشرين سنة ، ولا نريد في هذا المجال ، الحديث عن علة نزول القرآن هكذا ، لأنّه
    1 ـ هذه الظاهرة المادية تبرز بوضوح في تفسير السيد أحمد خان الهندي والطنطاوي وفي « المنار » وتلامذة مدرسته قليلا.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس