مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 31 ـ 40
(31)
تحدث هو عن هذا في بعض الآيات (1).
    وإنّما الذي يهمّنا الحديث عنه هنا هو : أنّ القرآن لم يكن كتاباً من صنع البشر يتكوّن من أبواب وفصول ويبحث في كل موضوع عن نقطة خاصة ، وإنّما هو كتاب سماوي أنزله الله تعالى لإرشاد البشر إلى المبدأ والمعاد والتكامل الروحي والجسمي ، ولا يحتاج مثل هذا الكتاب إلى التنظيم والالتزامات المتبعة في المؤلّفات الأُخرى ولأجل ذلك فله خصائص لا توجد في غيره ونشير إلى بعضها فيما يلي :
    1 ـ تنتقل الآيات من موضوع إلى موضوع آخر لمناسبات تستدعي الانتقال إذ ربّما تذكر عدة مواضيع في سورة واحدة ، هدفها الوعظ ، والإرشاد ، وإيقاظ الضمير ، والعطف نحو العقل والحكمة ، فجاءت تلكم المواضيع واحدة بعد أُخرى ، يجمعها ذلك الهدف الخاص ، ولكن يسبق إلى أذهان بعض أنّه لاربط وثيق بينها ، إلاّ أنّه يجد عند الدقة والتدبّر ، نوعاً خاصاً من الارتباط الذي يسلك عقودها في سلك واحد ووجود هذا القسم من الآيات الكثيرة ، من الوفرة بحيث يغنينا عن التمثيل لها هنا.
    2 ـ أهمية توجيه الفكر الإنساني ، وفطرته نحو الهدى والحق من جانب وإيقاظ الضمائر الميتة الكامنة في نفوس مريضة من جانب آخر ، تستدعي تكرار بعض الموضوعات في مناسبات شتى ، والعود إليها بمختلف الأساليب البيانية ، وهذا في تكرار الخطابات من الأهمية بمكان وهو من المحسنات التي لابد منها في الكلام الموجه إلى الناس بشكل عام.
    مثلا أنّنا نرى القرآن الكريم يكرّر في مناسبات شتى موضوع الاعتبار من حياة الأُمم السالفة والملوك والجبابرة والطغاة الماضين كما أنّه يذكر موضوع : ( سيروا في الأرض ) في أكثر من مناسبة واحدة ، وفلسفة هذا التكرار والعود إلى الموضوع مرّة بعد أُخرى هي ما ذكرناه.
    1 ـ ( وقال الّذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا ) ( الفرقان ـ 32 ).

(32)
    3 ـ ربّما يتحدث القرآن الكريم في سورة عن جانب خاص من جوانب قصة أو موضوع متعدد الجوانب ، واسع الأطراف لتعلّق ذاك الجانب الخاص فقط بما يقصده من الكلام دون سائر جزئياتها وتفاصيلها ، ثم يعود في سورة أُخرى إلى تلك القصة أو ذلك الموضوع ليذكرها بتفاصيلها وجزئياتها. وأكثر ما نشاهد هذا في قصص الأُمم الماضية للاعتبار بها ، وهذه طريقة ضرورية لكتاب أُنزل لهداية الناس وانتشالهم من الضلال.
    4 ـ يتبع القرآن طريقة التدرّج ، في بيان مفاهيمه العقلية ومعارفه التربوية فيستدل مثلا على مفهوم من مفاهيمه في بعض السور باستدلال ، ثم يعود إلى استدلال آخر لنفس المفهوم في سورة أُخرى. وبهذا توزع الأدلّة في عدة أمكنة وتذكر حسب المناسبات التي تقتضي ذلك.
    مثلا أنّ موضوع المعاد والرجوع إلى حياة جديدة من المسائل الإسلامية والقرآنية المهمة التي ركّز على إثباتها القرآن ، فاستدل له بأدلّة ستة (1) ولكنّها موزّعة ، لكل واحدة
    1 ـ انّ الفكرة تتضح أبعادها ، وتنكشف جوانبها ، إذا تعددت الاستدلالات عليها من طرق شتى ، والمثال على ذلك حديث البعث والمعاد في القرآن الكريم ، فقد استدل القرآن على إمكان وقوعه بطرق ستة ، ونحن نذكرها في المقام على وجه الاجمال ونكتفي في بيان كل طريق ، بآية واحدة ، مع كثرتها في كل باب :
    1 ـ الاستدلال بعموم قدرته على كل شيء كما في قوله سبحانه : ( أَوَلم يروا أنّ الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر على أن يحي الموتى بلى إنّه على كلّ شيء قدير ) ( الأحقاف ـ 33 ).
    2 ـ قياس الاعادة على الابتداء كما في قوله سبحانه : ( كما بدأنا أوّل خلق نعيده ) ( الانبياء ـ 104 ).
    3 ـ الاستدلال على امكان احياء الموتى ، باحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات كما في قوله سبحانه : ( ويحيي الأرض بعد موتها كذلك تخرجون ) ( الروم ـ 19 ).
    4 ـ قياس قدرة الاعادة على قدرة اخراج النار من الشجر الأخضر كما في قوله سبحانه : ( قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً إذا أنتم منه توقدون ) ( يس : 79 ـ 80 ).
    وسيوافيك في بحث المعاد أنّ للآية معنى آخر ألطف بكثير مما ذكره المفسرون ، ورائدنا فيه التدبير في ذيل الآية ، وما كشفه العلم الحديث في حقيقة الحرارة الكامنة في الأشجار وحقيقة انطلاقها منها عند الاحتراق.
    5 ـ الاستدلال بالوقوع على الامكان فإنّ أدل دليل على امكان الشيء وقوعه ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني اسرائيل ( البقرة : 67 ـ 73 ) ، وحديث عزير ( البقرة ـ 259 ).
    6 ـ الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنين فإنّ النوم أخو الموت ولا سيما الطويل منه كما أنّ القيام منه يشبه تجدد الحياة وتطورها.


(33)
منها في مكانها نكتة خاصة.
    هذه الخصائص القرآنية التي استعرضنا بعضها ، تدفعنا إلى أن نشبّه القرآن الكريم بحديقة غنّاء مليئة بالأزهار الملوّنة ، والورود المنوّعة ، وقد وزعت توزيعاً طبيعياً جميلا تأخذ بالأبصار ، فهي بالرغم من أنّها موزّعة إلاّ أنّ فيها طرافة وظرافة ، لأنّ كل واحد منها وضع في مكانه اللائق به.

الجمود فى التفسير
    إنّ استعراض كتب التفسير وملاحظتها بشيء من الإمعان ، يوصلنا إلى حقيقة غير خافية ، وهي : أنّ علماء الإسلام مع شدّة اهتمامهم بالتفسير وفهم الآيات والكشف عن معانيها ، لم تتطور مؤلّفاتهم التفسيرية بالقدر الذي يجب أن تتطور طيلة القرون الأربع عشر الماضية.
    فمع غض النظر عن طائفة من التفاسير المهمة المعاصرة ، نرى أنّ التفسير لم يتم ولم يتكامل عند السنّة والشيعة منذ تفسير « الطبري » إلى « المنار » و تفسير « التبيان » إلى « الميزان ».
    ومن العوامل التي سبّبت الجمود المذكور ، أنّ التفاسير سارت على وتيرة واحدة في تفسير القرآن سورة فسورة ، ففسّروها من البدء إلى الختم أو فسّروا بعضها على


(34)
الترتيب المذكور ، ولم يهتمّوا في كتابة التفسير بالتفسير الموضوعي (1) الذي يقتضي نزول الآيات نجوماً وتوزع الآيات الراجعة إلى أكثر الموضوعات في أمكنة وسور القرآن.

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم
    وما ذكرنا حول نزول القرآن التدريجي وألمعنا إلى ما فيه من الخصائص يقتضي أن يفسر القرآن أيضاً حسب الموضوع إلى جانب تفسيره على ترتيب السور ، فتجمع آيات كل موضوع في مكان وتفسر مجموعتها لئلاّ تتشتت الجوانب المختلفة.
    مثلا المفسر الذي يحاول التعمّق في الحديث عن السماء والأرض على ضوء القرآن الكريم ، أو يريد أن يبحث بحثاً مستوفى عن المعاد ، أو يستعرض قصص بني إسرائيل ، أو يحكم في أفعال الإنسان من جهة الجبر والاختيار ، أو يكشف عن المعارف الإسلامية المتعلّقة بأفعال الله تعالى من قبيل الإرادة والهداية والضلال والقضاء والقدر ... لابد أن يتبع الطريقة الموضوعية التي ذكرناها ليتمكن من جمع أطراف الموضوع جمعاً كاملا شاملا.
    من جملة الأسباب التي دعت إلى ظهور عقائد مختلفة بين المسلمين ، وتشبّث كل صاحب عقيدة بطائفة من الآيات ، أنّهم وجهوا اهتمامهم إلى آيات خاصة لتركيز معتقداتهم ، وأهملوا الآيات التي تكشف لهم آفاقاً أُخرى ، وتوضح لهم النقاط التي زلّوا فيها ، ولو أنّهم كانوا يلاحظون في كل مسألة من المسائل العقائدية الآيات بمجموعها لدرأوا عن أنفسهم الوقوع في هذه المهاوي السحيقة.
    ومن باب المثال نذكر بهذا الصدد أصحاب مذهب الجبر في أفعال الانسان أو مذهب التفويض فيها فإنّهم ابتلوا بما ذكرناه وخبطوا خبط عشواء في فهم المقاصد الإلهية وتفسيرها.
    1 ـ نريد من « التفسير الموضوعي » تفسير القرآن على حسب الموضوعات التي وردت فيه وبحث القرآن في مواضع مختلفة مقابل تفسيره على حسب السور والآيات.

(35)
    أجل يمكن القول بأنّ العلاّمة المجلسي هو أوّل من استعمل إجمالا هذه الطريقة ( التفسير حسب الموضوع ) ، فإنّه في كتابه « بحار الأنوار » جمع الآيات المربوطة بكل موضوع في أوّل الأبواب ، وفسّرها تفسيراً سريعاً بلا استنتاج منه. وهذه الخطوة القصيرة خطوة جليلة في عالم التفسير نأسف على أنّ المفسرين بعده لم يسيروا على ضوئها ، ولا يمكن تفسير القرآن بالقرآن ، والاستفادة الكاملة منه وتلقّي مفاهيمه العالية الصحيحة إلاّ بالمنهج المذكور.

أوّليات الطريقة الموضوعية في التفسير
    لا شك أنّ الطريقة الموضوعية فى التفسير التي نتحدث عنها في هذا المجال طريقة ، لم ينهجها علماء التفسير حتى الآن ، كما قلناه وعليه نعتقد أنّ فيها كثيراً من الصعوبات التي تعترض سيرها ، فإنّ تنظيم الآيات وتقسيمها حسب الموضوعات أمر لا يتم بعمل فردي ، بل لابد من لجنة تتولّى هذا العمل ، ويجب أن يكون أعضاء اللجنة اُناساً علماء لهم الخبرة الطويلة ، والاختصاص في الفروع العلمية المختلفة. وممارسة طويلة في الآيات القرآنية وفهم معانيها واستنباط مقاصدها ودرك مفاهيمها العالية.
    ونقترح أن تتبع هذه اللجنة الإرشادات التالية :
    1 ـ تقرأ الآيات واحدة واحدة بدقة وإمعان لافرازها موضوعياً ، ثم يهيّأ فهرس دقيق للموضوعات الواردة في القرآن والمبحوث عنها في آياتها ليعلم بصورة مؤكدة عدد ما جاء فيها من المباحث المختلفة ، وما ورد في كل واحد منها ، من الآيات.
    2 ـ تهيّأ بطاقات خاصة بكل موضوع ، لتكتب فيها آياته. والأحسن في هذا أن تصور هذه البطاقات في عدة نسخ ، لتوضع في متناول أيدي الباحثين والمحقّقين ليقرأوها ثم يبدوا ملاحظاتهم وانتقاداتهم ، وبعد المداولة في شأنها من قبل العلماء ، تطبع بصورة نشرات حسب الحروف الهجائية وتوزّع في إطار واسع ليطّلع عليها المعنيون في


(36)
    الأقطار.
    3 ـ وبعد أن تنتهي اللجنة من فهرسة الآيات كما ذكرناه ، يدعى كبار الشخصيات الإسلامية العلمية ليتولّى كل واحد منهم ، موضوعاً حسب اختصاصه ، فتقدم اللجنة لهم الموضوعات التي تم فهرستها ، ليختار هو الموضوع الذي جمعت آياته في البطاقات الخاصة به ، ويكتب حولها ما يرى من البحوث والدراسات.
    والنتيجة الحاصلة من هذه الجهود المشتركة المبذولة من قبل كبار علماء الإسلام أنّه تكتب للقرآن الكريم دائرة معارف كبيرة ملؤها التحقيق والبحث العلمي لتبرز ما فيه من الحقائق التي لا زالت خفية حتى الآن.
    إنّ هذا العمل الجبار ( بالاضافة إلى ما يحتاج من ميزانية ضخمة ) رهن لجنة مركزية تكون حلقة وصل بين علماء الإسلام القاطنين في أقطار نائية بعيدة الأطراف فإنّه لايتم عمل كبير كهذا العمل إلاّ باللجنة المركزية ، فهي التي تنتخب الأعضاء الذين يقومون بفهرسة الآيات ، وهي التي تصوّر البطاقات وتعرضها على الباحثين والناقدين وبعد التنسيق الدقيق تنشرها في نشرات متسلسلة ، وهي التي تتصل بالشخصيات العلمية لكتابة التفسير كما ذكرناه.
    انّ هذا الاقتراح ربّما يكون كبيراً وغير قابل التنفيذ في رأي البعض ، إلاّ أنّه بسيط عند ذوي الهمم العالية والعاملين في حقول العلم والثقافة ، فقد قامت جمعيات دينية قبل هذا بأعمال مشابهة ، لكتبهم المنسوبة إلى السماء ، وكان جهدهم من الطرافة بحيث أظهر كتبهم المحرّفة بحلل زاهية تأخذ بالأبصار وتثير إعجاب القارئين لها.
    ونحن نأمل أن يتصدى مراجع الدين وكبار العلماء لتحقيق هذه الأُمنية ، فيتداولوا بينهم الأمر لإزالة العوائق عن الطريق وتيسير المقدّمات الأوّلية وتعيين نقطة الانطلاق لهذا المشروع الديني العلمي.


(37)
منهجنا في هذا الكتاب
    بعد أن أمضى مؤلف هذا الكتاب خمس عشرة (1) سنة في دراسة القرآن الكريم دراسة مستوعبة وكتابة تفاسير لبعض السور ، أجمع عزمه على كتابة نماذج من التفسير الموضوعي المقترح ، ليعبّد الطريق للمحققين الذين يحلو لهم السير في هذا السبيل ومن الطبيعي أنّ مثل هذا العمل الإسلامي الكبير خارج عن نطاق شخص واحد ، ويحتاج إلى ذوي الاختصاص من العلماء كما ذكر سابقاً ، ولكن بدأ به من زاوية ، كان المؤلف قد أشبعها بحثاً ودراسة وهيّأ موادها من ذي قبل.
    انّه فكّر في نفسه ، ربّما لا يتحقق هذا الأمل الجديد ، أو لا يسعفه الأجل في أن يرى انجازه كما يتصوره ويود إنجازه ، فعزم على أن يخطو خطوة نحوه ورائده « الميسور لا يسقط بالمعسور » وعند ما يهيّئ الله تعالى جماعة من محققي الإسلام لهذا المشروع ، يمكنهم اعتبار هذا الكتاب جزءاً من دائرة معارف القرآن بعد سد ما يرون فيه من النقص الذي هو من لوازم عمل الفرد.
    لقد اخترنا من بين الموضوعات الكثيرة التى ترجع إلى النبىّ الأكرم هذه المواضيع :
    1 ـ الإسلام شريعة عالمية لا إقليمية.
    2 ـ الخاتمية في الذكر الحكيم وأنّ الرسول الأعظم هو خاتم الأنبياء.
    3 ـ النبي الأُمّي في القرآن المجيد.
    4 ـ علم الغيب في الكتاب العزيز.
    5 ـ أسماء النبي وصفاته في القرآن العزيز.
    1 ـ بدأ المؤلف بالبحث عن خصوص هذا النمط من التفسير منذ عام 1388 هـ بعد ما صرف شطراً من عمره في تفسيره على النمط الآخر أعني تفسير القرآن على حسب السور.

(38)
    ولما خرج هذا الجزء إلى البياض ، عرضته على الأُستاذ العلاّمة ، المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي مؤلف الكتاب القيّم « الميزان في تفسير القرآن » وغيره من الآثار الخالدة ، فقدّره واستحسنه وشجعني على مواصلة العمل ، وتفضل بكلمة (1) سجلتها في صدر الكتاب لتبقى ذكرى خالدة من عواطفه الكريمة المبذولة لأحد تلامذة مدرسته وللأُستاذ ـ روحي فداه ـ منّي تحية عبقة وتمنيات خالصة.
    وفي الختام لو ترتب ثواب على عملي الضئيل فإنّما أهديه :
    إلى من أنا مدين له في كل شيء حتى في هذه الدراسات التي بين يديك.
    إلى أوّل من فتح قلبي على أشعة نور القرآن وأرشد عقلي إلى الاهتداء بهداه.
    إلى سيدي الوالد آية الله الشيخ محمد حسين السبحاني (2) تغمده الله برحمته والله ولي التوفيق ...
جعفر السبحاني
قم ـ إيران
20 جمادى الآخر 1393 هـ

    1 ـ وقد أتتنا كتب ورسائل من الشخصيات العلمية بعد انتشار هذا الجزء لأوّل مرة نشرنا بعضها في مقدّمة الجزء الثاني وقد وافاك بعضها في أول هذا الجزء من هذه الطبعة.
    2 ـ لبّى دعوة ربّه ضحوة يوم الحادي عشر من شهر شوال عام 1392 هـ ، سعيداً نقي الصحيفة ودفن في مقبرة العلماء بقم بعد أن شيّع جنازته الزكية حشد من العلماء وشيوخ الحوزه العلمية وقد حك على صخرة قبره هذان البيتان :
انّ الذي صنع الجميل مخلّد فإذا انقضت أيام مدة عمره لا سيما في العلم والعرفان فجميل صنع المرء عمر ثان
تجد ترجمته الضافية في مقدمة كتابه « نخبة الأزهار » بقلم العلاّمة الحجة السيد أحمد الأشكوري دام ظله ، رحم الله الماضين من علمائنا العاملين ووفقنا للاهتداء بهداهم والسير على ضوء تعاليمهم. والله خير موفق ومعين.


(39)
الفصل الأوّل
عالمية الإسلام
على
ضوء القرآن الكريم
    الحديث عن دعوة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) متعددة الجوانب ، واسع الأبعاد ، بعيد الأغوار ، وبالرغم من سعة مجالات القول ، وجوانب البحث فيها ، فانّنا نحاول بهذه النظرة الثاقبة الفاحصة ، أن نتحدث عن ناحية خاصة لدعوة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأنّها دعوة عالمية لا إقليمية ، وهي من أبرز الخطوط التي يستهدفها القرآن بشأن دعوته ورسالته.
    نحن في رحاب القرآن الكريم ، نسمع نداءه العالمي ، وإن فصلتنا عنه حقب بعيدة من الزمان ، ونعي صراحته ومجاهرته : بأنّ الإسلام عقيدة لا ينفرد بها شعب أو مجتمع بعينه ، ولا يختص ببلد ، أو بلاد معينة ، بل هو دين ذو قوانين تسري على الأفراد على اختلافهم : في العنصر ، والوطن ، واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الانسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية ، أو اقليمية.
    فهذا تاريخ دعوته ، وسيرته في نشر دينه ، نتطلّع إليه بشوق ولهفة ، حيث يبدد الدياجير من أمام أبصارنا ، وبصيرتنا ، ويقرّب لنا الواقع دونما تكلّف ، أو اصطناع.


(40)
    كانت دعوة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في بدء أمرها تدور بين أهله وعشيرته ، ممتثلا لما أمره الله سبحانه بذلك ، بقوله : ( وَأَنذِر عَشِيرَتِكَ الأقرَبينَ ) ( الشعراء ـ 214 ) ، والسر في ذلك أنّ النفوذ في الآل والعشيرة ألزم وأسهل من الأجانب والأباعد.
    مضى رسول الله في دعوته السرية ثلاث سنين ، وهو ينذر طيلة تلك المدة قومه وعشيرته ، ويؤمي إلى عموم دعوته تارة ، ويجاهر بذلك أُخرى ، ويستنتج أنّ دعوته وشريعته عالمية ، سوف تعم العالم كله ، ولا تحبس بإطار خاص.
    قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في خطاب ألقاه في داره ، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله ومن كانت له به صلة :
    « والله الذي لا إله إلاّ هو ، أنّي رسول الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة (1) والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وأنّها الجنّة أبداً ، والنار أبداً » (2).
    ثم إنّه كان ينتهز الفرص ، التي تسنح له للاجهار بدعوته ، إلى أن أمره تعالى بأن يصدع بما اُمر به ، وأن ينادي الناس عامّة باتباع دينه وشريعته ، امتثالا لما أمره سبحانه به ، بقوله :
     ( فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكينَ ) ( الحجر ـ 94 ).
    فصعد رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على الصفا وهو يهتف ويقول : واصباحاه! فاجتمع الناس حوله ، فقال : إن أخبرتكم أنّ خيلا تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم تكذّبوني؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ، فإنّي لا أُغني عنكم من الله شيئاً ، انّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ، إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو ، فانطلق يريد أهله فخشى أن
    1 ـ أليس هذا تصريحاً بعمومية رسالته في بدء دعوته.
    2 ـ الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 41.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس