مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 41 ـ 50
(41)
يسبقوه إلى أهله ، فجعل يقول : يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم. (1)
    هكذا بدأت الدعوة الإسلامية ، وهو ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يخطو خطوات قصيرة ، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس ، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه ، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته ، وتفاقمت جرائم قريش نحوه ، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه ، بإنهاء حياته وإطفاء نوره ، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة ، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً ، ويسلّموا له سيفاً صارماً ، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد ، حتى يموت ، فيستريحوا منه ، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً ، ولا يقدر بنو هاشم ، على حربهم.
    ولكنّ الله ردّ كيدهم ، وصدّهم عن ذلك ، وخيّب حيلتهم ، وأخبر الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن المكيدة الداهمة ، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها ، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج ، وبايعوه ، ووعدوه بالنصر ، والمؤازرة والحراسة.
    والرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وإن غادر مكة ، وترك قومه ، إلاّ أنّ قومه لم يتركوه ، بل أجّجوا نار الشحناء عليه ، ودارت بينهم و بين الرسول حروب دامية ، وحملات طاحنة ، وبذلت قريش آخر ما في وسعها ، ورمت كل ما في كنانتها ، وبالغت في تقويض الإسلام ، وهدم بنائه ، إلى أن دخل العام السادس ، من الهجرة ، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات ، بشروط خاصة.
    هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية ، انقلب الى فتح مبين للإسلام ، فانتهز الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة ، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم ، وكسرى فارس ، وعظيم القبط ، وملك الحبشة ، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام ، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،
    1 ـ السيرة الحلبية ، ج 1 ، ص 321 المقصود : هوجمتم من قبل العدو.

(42)
بل إلى رؤساء العرب ، وشيوخ القبائل ، والاساقفة ، والمرازبة ، والعمال ، يدعوهم إلى دين الإسلام ، الذي هو دين السلام ، ورسالته من الله وما أُنزل إليه من ربّه.
    وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته ، عالمية لا تحدد بحد ، بل تجعل الأرض كلها مجالا لإقامة هذا الدين ، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :
    1 ـ كتب إلى كسرى ملك فارس :
    « بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس : سلام على من اتبع الهدى ... أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لاُنذر من كان حيّاً ، ويحق القول على الكافرين ، أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس ». (1)
    2 ـ وكتب ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى قيصر ملك الروم :
    « بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين ». (2)
    وما ذكرناه نماذج من رسائله ، وكتاباته الابلاغية ، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم ، وإلى الناس كلهم ، من غير فرق بين اللون والجنس ، والعنصر والوطن ، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة ، ووجود الانسان ، وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يكافح كل مبدأ يضاد دينه ، وكل رساله تغاير رسالته ، وقد جرى الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عليه طيلة حياته الرسالية ، حتى التحق بالرفيق الأعلى.
    يقول السير توماس ارنولد : « إنّ هذه الكتب قد بدت في نظر من أُرسلت إليهم ضرباً من الخرق ، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».
    1 ـ تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 295 ، تاريخ اليعقوبي ، ج 2 ، ص 61 وغيرهما.
    2 ـ السيره الحلبية ، ج 2 ، ص 275 ، مسند أحمد ، ج 1 ، ص 263 وغيرهما.


(43)
    فقد قال الله تعالى في سورة ص 87 ـ 88 : ( إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ لِلعلَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين ).
    وفي سورة يس 69 ـ 70 : ( وَمَا عَلَّمنهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغي لَهُ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وَقُرءَانٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيَّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الكَفِرِينَ ).
    وفي سورة الفرقان 1 : ( تَبَارَكَ الّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعلَمِينَ نَذِيراً ).
    وقال سبحانه : ( وَمَا أَرسَلْنَاكَ إلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ : 28.
    وقال سبحانه : ( قُلْ يَأيُّهَا النَّاسُ إِنّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً ). سورة الأعراف 158.
    وقال سبحانه : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلمِ ديناً فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَسِرينَ ). سورة آل عمران : 85.
    وقال سبحانه : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبرهيمَ حَنِيفاً ). سورة النساء : 125.
    وقال سبحانه : ( قَتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولا باليَومِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَبَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَد وَهُمْ صَغِرُونَ * وَقَالتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابنُ اللهِ وَقَالَتِ النَصَرَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوهِهِمْ يُضَهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً وَاحِداً لا إِلهَ إلاّ هُوَ سُبْحنَهُ عَمَّا يُشرِكُونَ * يُرِيدُونَ أن يُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِم وَيَأْبَى اللهُ إلاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَفِرُونَ * هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ). التوبة : 29 ـ 33. (1)
    1 ـ الدعوة إلى الإسلام ، ص 34.

(44)
تأثير تلكم الكتب :
    وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء ، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط ، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم ، فنبهتهم من رقدتهم ، وانهضتهم من كبوتهم ، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته ، وخاضع لرسالته ، ومؤمن بما أتاه ، إلى معظّم لرسله ، ومجيز لهم ، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة ، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات ، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :
    قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ : أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر ، وقال لأبي سفيان : إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي ، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.
    وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب ، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس : يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد ، يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وأنّ أحمد رسول الله.
    وقال المقوقس : إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده ساحراً ضالاّ ، ولا كاهناً كذّاباً.
    وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً ، أظهر فيه إسلامه ، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه ، فأبى فأمر بقتله ، فقال حينما يقتل :
بلّغ سراة المسلمين بأنّني سلم لربّي أعظمي وبناني
    وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.
    ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.
    وأجابه ملوك حمير ، وأساقفة نجران ، ولبّاه عمّال كسرى باليمن ، واقيال


(45)
حضرموت ، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام ، أو بإعطاء الجزية.
    وكتب النجاشي ملك الحبشة ، كتابه المعروف ، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عندما بلغه موته (1).
    هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.
    نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لف لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان ، فأبى أن يكون تابعاً للعرب ، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.
    ولأجل ذلك لاتعجب إذا ثارت ثائرة كسرى ، فمزّق كتاب الرسول ، وأرسل إلى باذان ، عامله باليمن ، وكتب إليه : « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به ». (2)
    هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها ، أتينا بها بصورة مصغّرة ، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص ، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة ، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق ، وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يصرّح بذلك في بدء دعوته ، وأثنائها ... ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :
    هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته ، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص ، أو أُمّة معيّنة ، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق ، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :
    1 ـ راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».
    2 ـ الكامل ، ج 2 ، ص 81 ، السيرة الحلبية ، ج 3 ، ص 278 ، إلى غير ذلك.


(46)
    الأوّل : انّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية ، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً ، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين ، وأنّه بشير ونذير للناس كافة ، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه ، من غير فرق بين شخص وشخص ، أو عنصر وآخر ، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :
    1 ـ ( قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُمْ جَميعَاً ) ( الأعراف ـ 158 ).
    2 ـ ( وَمَا أَرسَلنكَ إلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) ( سبأ ـ 28 ).
    3 ـ ( وَأَرْسَلنَكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ) ( النساء / 79 ).
    4 ـ ( وَمَا أَرْسَلنكَ إلاّ رَحمَةً للعالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ 107 ).
    5 ـ ( تَبَارَكَ الّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً ) ( الفرقان ـ 1 ).
    6 ـ ( وَأُوحِىَ إِلىَّ هَذِا القُرءَانُ لاُنْذِرَكُمْ بِه وَمَنْ بَلَغ ... ) ( الأنعام ـ 19 ).
     ـ أي كل من بلغه القرآن ، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض ـ.
    7 ـ ( هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه وَلَوْ كَرِهَ المُشرِكُونَ ) ( الصف ـ 9 ).
    8 ـ ( يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَبِّكُمْ فآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ... ) ( النساء ـ 170 ).
    9 ـ ( الر كِتبٌ أَنْزَلْنَهُ إِلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم ـ 1 ).
    10 ـ ( هَذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظةٌ لِلمُتَّقِينَ ) ( آل عمران ـ 138 ).
    وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها ، صريحة في أنّ هتاف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يختص بأُمّة دون أُمّة ، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.
    الثاني : انّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء ، وهذا دليل


(47)
واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة ، ودونك نماذج من هذا القسم.
    1 ـ ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة ـ 21 ).
    2 ـ ( يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا ممَّا فِي الأرْضِ حَلَلا طيّباً ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَيْطَنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( البقرة ـ 168 ) إلى غير ذلك ...
    فترى أنّه يخاطب الناس ، ويقول : يا أيّها الناس ... تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم ، لا إلى صنف خاص منهم.
    فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً ، ورسالته طائفية ، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ : ( يا أيّها الناس ) ؟!.
    فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.
    بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله ( يا أهل الكتاب ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.
    وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة (1).
    الثالث : انّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه ، من غير تقييد بلون ، أو عنصر ، أو شعب أرض خاصة ، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها ، وأنّ الرسالة التي أُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد ، ودونك نماذج من هذا القسم :
    1 ـ ( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إليهِ سَبِيلا ) ( آل عمران ـ 97 ).
    فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه ، عرباً كانوا ، أم غير عرب ،
    1 ـ لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص 113.

(48)
فلم يقل : لله على الأُمّة العربية ـ مثلا ـ حج بيته.
    2 ـ ( وَالمَسجِدِ الحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَهُ لِلنَّاس سَوَاءً العَكِفُ فِيهِ وَالبَادِ ) ( الحج : 25 ).
    3 ـ ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشتَرِي لَهْوَ الحَديثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيرِ عِلْم ) ( لقمان ـ 6 ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة (1).
    فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.
    الرابع : يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص ، بل تعم كل من تظلّه السماء ، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :
    1 ـ ( يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهنٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) ( النساء : 174 ).
    2 ـ ( شَهرُ رَمَضَانَ الّذِي اُنْزِلَ فِيهِ القُرءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ ... ) ( البقرة ـ 185 ).
    3 ـ ( ولَقَد ضَرَبْنَا للنَّاسِ فِي هَذا القُرءانِ مِن كُلِّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر : 27 ).
    4 ـ ( الر كِتَابٌ أَنْزَلنَهُ إِلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَتِ إلى النُّورِ ) ( إبراهيم ـ 1 ).
    أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم ، لا للعرب خاصة ، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة بأُمّة دون أُمّة؟! هذا ونجد سبحانه يقول : ( وآخَرينَ مِنهُمْ لمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) ( الجمعة : 3 ) وما المراد من ال ـ : ( آخرينَ منهم ) ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد
    1 ـ راجع المكاسب ، ص 38 ، للشيخ الأعظم الأنصاري.

(49)
الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم؟ (1) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.
    هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث ، وتهدف إلى أمر واحد : وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية ، غير محدودة بحد ، فلا يحدها قطر ، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد ، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ (2).

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :
    وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالا وثيقاً بطبيعة الإسلام ، وبفكرته الكلية ، عن الكون والحياة والإنسان ، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.
    بيانه : أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق ، في مختلف الأبواب والفصول ، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع ، ولا تأخذ غيره دعامة ، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلاّ لنفس الأمر.
    وإن شئت فقل : إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده ، إلاّ على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده ، في عامة أقطار الأرض جميعاً ، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد ، فلا وجه
    1 ـ مجمع البيان ، ج 5 ، ص 284.
    2 ـ هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب ، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته ، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والأُصول ، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه ، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.


(50)
لاختصاصه بإقليم دون إقليم ، أو بشعب دون شعب. (1)
    ولا يجد الباحث ـ مهما أُوتي من مقدرة علمية كبيرة ـ في ما جاء به نبي الإسلام ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، على سعة نطاقه ، وبحثه في شتى الجهات ، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي ، أو صبغة طائفية ، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة ، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.
    هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية ، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد أُخرى ، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص ، أو شريعة لفئة محدودة؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات ، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية ، أو ظروف محلية ، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها ، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، وصار النافع منها ضاراً ، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الأمارات.
    هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل ، ونضعها على طاولة الحساب ، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع : فقبل كل شيء ، لاحظ كتاب الله العزيز ، ومعجزة الإسلام الخالدة ، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً ، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف ، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته ، وساد العداء والتنازع بين الناس ، وكان نظام الغاب وحده ، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.
    وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم ، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته ، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية ، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.
    هلم معي نستعرض تعاليمه ، فهل نرى آية من آياته الباهرة ، أو قانوناً من قوانينه ، أو حكمة من حكمه ومعارفه ، أو سننه من سنة ، أو فريضة من فرائضه تنفع في
    1 ـ سوف نرجع إليه في ختام البحث ، ونجعله دليلا مستقلا على عمومية رسالته.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس