مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 61 ـ 70
(61)
    بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول : ( أكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَن أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُل مِنْهُمْ أنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس ـ 2 ).

2 ـ عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :
    انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :
     ( لَيسُوا سَواءً مِن أَهْلِ الكِتَبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَتِ اللّهِ ءَانَآءَ الَّيلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يؤْمِنُونَ بِاللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَرِعُونَ فِي الخَيْرتِ وَاُوْلَئِكَ مِنَ الصَّلِحِينَ ) ( آل عمران : 113 ـ 114 ).
    فلو كانت رسالة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين؟
     الجواب :
    انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :
     ( وَلَو آمَنَ أَهْلُ الكِتَبِ لَكَانَ خَيراً لَهُمْ مِنْهُم المؤمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَسِقُونَ ).
    وقال : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلاّ أَذًى وَإنْ يُقَتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ).
    وقال في حق اليهود :
     ( ضُرِبَتْ عَلَيْهمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ... ) ( آل عمران : الآيات110 ، 111 ، 112 ).
    أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم ، تمشّياً مع الحقيقة ، ووفاء للحق. وقال :
     ( لَيسُوا سَواءً ... ).


(62)
    أي ليس الجميع ـ من أهل الكتاب ـ على وتيرة واحدة ، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه ، ويثبت على أمر اللّه ، ويتلوا آيات اللّه فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.
    ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.
    وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.
    ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية 110 بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :
     ( وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتَبِ لَكَانَ خَيراً لَهُمْ ).
    وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.
     إجابة اُخرى :
    غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا : لما أسلم عبد اللّه بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلاّ شرارنا فأنزل اللّه : ( لَيسُوا سَواءً ... ـ إلى قوله ـ مِنَ الصَّلِحِينَ ).
    روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.
    وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم (1).
    غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله : ( لَيسُوا سَواءً مِن أَهلِ الكِتَبِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم
    1 ـ مجمع البيان ج 4 ص 488 ، راجع الدر المنثور ج 2 ص 64 و 65.

(63)
بأنّهم يتلون آيات اللّه آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

3 ـ تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :
    وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :
     ( وَهَذا كِتبٌ أنْزَلْنَهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالأخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِم يُحفِظُونَ ) ( الأنعام ـ 92 ).
    وقال سبحانه :
     ( وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيكَ قُرءَاناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَن حَولَهَا وَتُنذِرَ يَومَ الجَمعِ لا رَيبَ فيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَريقٌ فِي السَّعِير ) ( الشورى ـ 7 ).
    فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.
    وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّ ـ ي اطلق عليها في هذه الآية.
    وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.
     الجواب :
    غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً ، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي (1) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود ، كما وافاك بيانها.
    1 ـ بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته ، حيث أنّه سبحانه قال : ( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب ، وإنّه منزّل من ربّهم : مصدّق لما تقدمه من الكتب ، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

(64)
    نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته ، وأن ّ اللّه سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه : ( قُلْ أيُّ شَيء أكبرُ شَهَ ـ دَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَينَكُم وأُوحِ ـ ىَ إلَ ـ يَّ هذا القُرءَانُ لأُِنذِرَكُم بهِ وَمَن بَلَغَ أئِنَّكُم لَتَشهَدُونَ أنّ مع اللّهِ آلهَةً اُخرَى قُل لا أشهَدُ قُل إنَّما هُو إلهٌ وحِدٌ وإنَّنِي بريءٌ مِمّا تُشرِكُونَ ) ( الأنعام ـ 19 ).
    وصريح هذه الآية أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه ، عربياً كان أو أعجمياً ، شرقياً كان أم غربياً ، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة؟!
    فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق ، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.
    ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين ، لكنّه حسب أنّ اللّه تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول : ( وَلَوْ كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَ ـ فاً كَثيراً ) ( النساء ـ 82 ).
    نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته ، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلاّ تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.
    والحق أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل ، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين ، فالمسيح كان رسول اللّه ، إلى أُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل (1) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول
    1 ـ نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع ، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل ، لما ثبت من بعثه ( عليها السَّلام ) رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني اسرائيل بصلة ، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

(65)
إليهم وإلى غيرهم وقال : ( يبَنِي إسرءِيلَ إِنِّي رسُولُ اللّهِ إِليكُمْ مُّصَدِّقَاً لِمَا بَينَ يَديَّ مِنَ التَّورَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأتِي مِنْ بَعدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... ) ( الصف ـ 6 ).
    فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول اللّه إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.
    وقد ضارعه نبي الإسلام ، فهو مع كونه رسول اللّه إلى الناس جميعاً ، ومع أنّه أمره اللّه أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها (1) أمره اللّه سبحانه أن يقول : ( لِتنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَن حَولَهَا ) ( الأنعام ـ 92 ، الشورى ـ 7 ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها ، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.
    وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ ، فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه : « انّي رسول اللّه إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».
    وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث (2).
    هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله ، من اُولي العزم من الرسل ، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال ، مراعين في ذلك شرائط البلاغة ، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة ، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص ، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.
    وإن شئت قلت : انّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال : « انّي رسول
    1 ـ الأنعام ـ 119.
    2 ـ أنظر ص 135 من كتابنا هذا.


(66)
اللّه إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.
    ويشير إلى ذلك قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي ، فإلي وحدي » (1).
    وقال الإمام الصادق ( عليها السَّلام ) :
    « انّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ( عليهم السَّلام ) : التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال : ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس » (2).
    ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة ، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص ، فعند ذلك يصح لك أن تقول : بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول : بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا ...
    على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته ، مكية ، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين ، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته ، فضلاً عن الاجهار بعالميتها ، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر ، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة ، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض
    1 ـ الطبقات الكبرى ج 1 ص 192.
    2 ـ الكافي ج 2 ص 17 وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».


(67)
الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكة صالحاً. كما في قوله سبحانه : ( وَمَا هُوَ إلاّ ذِكرٌ لِلع ـ لَمِينَ ) ( القلم ـ 52 ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله : ( لاُُِنذِرُكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ 19 ) والسورة مكية ، وإن شئت قلت : انّ الظروف في مكة كانت مختلفة متلوّنة ، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد ، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته ، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها ، والمسلمون من جانب ـ اضطهاد قريش لهم ـ كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.
    وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً ، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله : يا معشر قريش انقذوا أنفسكم ... واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة ، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته ، وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال : ( وأُوحي إليَّ هذا القُرءَانُ لاُِنذِرُكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة ، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول : ( وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرى وَمَن حَولَهَا ) فيعلم من ذلك أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.
     جواب آخر عن الشبهة :
    جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء ، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر (1) مبني على أمرين :
    1 ـ ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج3 ، ص334 ، و ج5 ، ص22 والمفردات للراغب مادة « اُم ».

(68)
    الأوّل : انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى : ( لِتُنذِرَ أُمَّ القُرى وَمَنْ حَولَهَا ) ما يعم المدن الواسعة ، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى : ( وسْئَلِ القَريَةَ الَّتي كُنَّا فِيهَا والعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَ ـ دِقُونَ ) ( يوسف ـ 82 ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها ، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة ، ذات أبواب متفرّقة ، لقوله سبحانه : ( يَبَنيَّ لا تَدخُلُوا مِن بَاب وَحِد وَادْخِلوا مِن أَبُوب متفرِّقَة ) ( يوسف ـ 67 ).
    الثاني : قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ اللّه سبحانه دحى الأرض يوم دحاها ، من تحت مكة ، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء ، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء ، ثم برز سائر اجزائها ، عن تحت الماء تدريجاً ، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد ، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.
    قال : إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة ، فيصير المراد من « أُمّ القرى » ، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من ( ومن حولها ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد اللّه بن عباس ، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله : « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها » (1) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.
    وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :
    أمّا أوّلاً : فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكة ، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه ، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكُ القُرَى حَتّى يَبعَثُ فِي اُمّها رسُولاً ) ( القصص ـ 59 ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات اللّه عليهم. وهذه سنّة اللّه تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً ، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكة ومن حولها.
    1 ـ مجمع البيان ج 5 ص 22.

(69)
    وهذا إمام اللغة ابن فارس ، يقول في مقاييسه : « أُمّ القرى ، مكة ، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».
    قال ابن فندق في تاريخه : إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل ، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له ، أُمّ القرى ، ثم أتى بأمثلة وقال : فصنعاء أُمّ القرى في اليمن ، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق ، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا ... (1).
    فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده ، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص ، بل هو والعرف في ذلك سواسية ، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل : ( لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَن حَولَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة ، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلاّ ما يراد في نظائرها ، فإذا قيل : هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها ، فلا يراد إلاّ نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها ، حكماً وسياسة واقتصاداً ، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية ، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً ، وهكذا إذا قيل : بعث نبي الإسلام لينذر مكة ومن حولها ، لا يراد منه إلاّ أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً ، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة ، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها ، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه ، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود ، لو لم يكن مستهجناً.
    وأمّا ثانياً : فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره ، صحيح ، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل ، ودون اثباته خرط القتاد ، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى ، على مكة ، من غير أن يكون لهم علم
    1 ـ تاريخ بيهق ج ص 22 بتعريب منّا.

(70)
ولا عهد بهذه المعارف ، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن ، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج ، والحق في الجواب ما أوضحناه.

4 ـ كلّ نبي مبعوث بلسان قومه
    جرت سنّة اللّه على بعث رسله بلسان قومهم ، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.
    أمّا إذا كان مبعوثاً إلى أُمّة أوسع من قومه ، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة ، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل ، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه ، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.
    على أنّ إيمان قومه به ، وخضوعهم له ، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه ، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه ، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.
    على أنّ في إرسال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.
    فلو أنزل اللّه سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه : ( وَلَوْ نَزّلْنهُ على بَعضِ الأعْجَمِينَ * فقرأهُ عليهِم ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنيِن ) ( الشعراء : 198 ـ 199 ) فلأجل ذلك بعثه اللّه سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.
    ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين ، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية ، فضلاً عن المبادىء العامّة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس