مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 71 ـ 80
(71)
    وإلى ذلك تهدف الآية التالية : ( ومَا أَرسَلنا مِن رَسُول إلاّ بلسانِ قَوْمِهِ ليُبيّنَ لَهُم فَيُضُلُ اللّهُ مَن يَشاءُ وَيَهِدي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ ) ( إبراهيم ـ 4 ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة ، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً ، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلاّ بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم ، أعني الاهتداء فهو بيد اللّه سبحانه ، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.
    وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم ، حتى يلزم منهم اختصاص دعوته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه ، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم ، كما هو أساس الشبهة ، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل ، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج ، والوفود إلى زيارة بيته ، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به ، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته ، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية
    نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها : « أنّ كلّ رسول من اللّه يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم » ، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية ، وقال : إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا ، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان ، يلزم منه كونه غير مبعوث من اللّه سبحانه أصلاً.
    وعلى الجملة : تنتج عالمية رسالته ، وسعة نطاق دينه ، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.
    ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية ، إذ ليس مفادها ما تصوّره من


(72)
أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه ، بل مفاده : أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه ، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه (1) أو إلى قومه فقط.
    نعم تنعكس الآية إلى قولنا : من لا يوافق لسانه ، لسان قومه ليس رسولاً من اللّه سبحانه ، وهو صحيح ، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.
    وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً ، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان ، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون ، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه ، وأرسله إليهم ، ثم أنجاه وأهله إلاّ امرأته (2).
    1 ـ هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم ، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة ، راجع الميزان ج 12 ص 13 وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.
    2 ـ الميزان ج 12 ص 13.


(73)
هل كانت
نبوّة نوح والكليم والمسيح
عالمية ؟
    قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) رسالة عالمية ، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.
    غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة ، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم ، أو المناطق التي ظهروا فيها؟
    ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة ، فيقع الكلام في مقامات :
    الأوّل : في عمومية نبوّة نوح وعدمها.
    الثاني : في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.
    الثالث : في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.
    ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليل ( عليها السَّلام ) أيضاً.
    وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة ، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود ، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.


(74)
    على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلاّ فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.
    فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه؟
    يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه : ( إنّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قُوْمِهِ ) ( نوح ـ 1 ) ، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه (1).
    وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية ، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس ، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.
    أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه ، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.
    فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه ، قال سبحانه : ( وَاُوحِيَ إلى نُوح أنّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلاّ مَنْ قَدْ ءَامَنَ فلا تَبْتَئِسَ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا إنّهم مُغرَقُونَ ) ( هود : 36 ـ 37 ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم ، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح ، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.
     تحقيق وتنقيب :
    انّ العلاّمة الطباطبائي ( رضوان اللّه عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح ( عليها السَّلام )
    1 ـ لاحظ الآيات 25 ـ 48 من سورة هود ، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

(75)
في الجزء العاشر من تفسيره القيم « الميزان » فقال :
    المعروف عند الشيعة عموم رسالته ( عليها السَّلام ) وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه : ( ربِّ لا تَذَرْ عَلى الأرضِ مِنَ الكَ ـ فرِينَ ديَّاراً ) ( نوح ـ 26 ) ، وقوله تعالى : ( لا عَاصِمَ اليْومَ مِن أَمْرِ اللّهِ إلاّ مَن رَحِمَ ) ( هود ـ 43 ) وقوله : ( وجَعَلنَا ذُرِيَّتهُ هُمُ البَاقِينَ ) ( الصافات ـ 77 ).
    وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة : أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله اللّه إلى أهل الأرض ، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.
    ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي : « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».
    وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه ، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون : ( وتَكُونَ لكُما الكِبرِيَاءُ فِي الأَرضِ ) ( يونس ـ 78 ).
    فمعنى الآية الاُولى : لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً ، وكذا المراد بالثانية : « لا عاصم اليوم لقومي من أمر اللّه » وكذا المراد بالثالثة : « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.
    ثم انّه ـ قدّس اللّه سرّه ـ أفاد بأنّه لم يستوفوا حق الكلام في هذا البحث.. ثم اختار هو عمومية نبوّته ورسالته بتقديم مقدمة حاصلها :
    أنّ الواجب في عناية اللّه أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه ، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري ، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق ، ومنهج الكمال والسعادة ، وهو طريق الوحي ، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به ، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا


(76)
مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.
    وإن شئت قلت : الواجب في عناية اللّه تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم ، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة ، وقد أخبر اللّه سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه : (َشَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والّذِي أوْحَينَا إليكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إبرهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَّرقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ 13 ) ، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية ، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح ، ولو لم تكن عامة للبشر ، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر ، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.
    وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين (1).
     ملاحظات في كلام العلاّمة الطباطبائي
    وفيما ذكره ـ قدّس سرّه ـ ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :
    أمّا أوّلاً : فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية اللّه تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني ، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه ، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح ، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها ، فإنّ من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي ، فإنّ من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها ، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة ، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن
    1 ـ الميزان ج 10 ص 271 ـ 272.

(77)
تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشىء لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.
    وثانياً : فإنّ ما استفاده ( رحمه اللّه ) من الآية بـ « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.
    وأمّا ثالثاً : انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن ، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال : ( مِنهُم مَن قَصَصْنَا عَلَيكَ وَمِنْهُمْ مَن لَم نَقْصُصْ عَليكَ ) ( غافر ـ 78 ) وقال سبحانه : ( ورُسُلاً قَدْ قَصَصْنَهُم عَلَيكَ مِن قَبلُ ورُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُم عَلَيْكَ ) ( النساء ـ 164 ).
    وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة ، والعصمة للّه سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.
    ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال : تبين الجواب عن السؤال : هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.
    ثم أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق ـ كما قيل ـ لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين (1).
    وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.
    1 ـ الميزان ج 10 ص 272 ـ 273.

(78)
    وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه ، واللّه سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية؟
    إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :
    الأوّل : في عموم دعوته إلى التوحيد.
    الثاني : في عموم شريعته وشمول أحكامه.
    ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم ، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.
    كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم (1) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته ، دون العكس (2) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين ، فنقول :
    المقام الأوّل : في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.
    الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم ، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :
     ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالبَيِّنَتِ ثمَّ اتَّخذْتُمُ العِجْلَ من بَعْدِهِ وأَنتُم ظلِمُونَ ) ( البقرة ـ 92 ).
    وقوله سبحانه : ( وإذْ قالَ مُوسَى لِقَومِهِ يقَومِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أنّي رَسُولُ اللّهِ إليْكُمْ ) ( الصف ـ 5 ).
    1 ـ وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.
    2 ـ لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.


(79)
    وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه ، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم ، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى : ( وَإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَ ـ قوم اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِنْ اله غَيْرُهُ ) ( الأعراف ـ 85 ).
    وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه : ( كَذَّبَ أَصْحَبُ الأَيْكَةِ المرْسَلِينَ * إذْ قَالَ لَهمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ ) ( الشعراء176 ـ 177 ).
    ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته ، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين
    يمكن أن يقال : بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد ، كانت تعم بني اسرائيل والقبطيين.
    وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه : ( حَقِيقٌ عَلى أن لا أقُولَ على اللّهِ إلاّ الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيّنة مِن رَبِّكُمْ فَآرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيل ) ( الاعراف ـ 105 ).
    وقوله سبحانه : ( قَالُوا يمُوسَى ادْعُ لنَاَ رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ معكَ بَنِي إِسرءِيلَ ) ( الأعراف ـ 134 ).
    وقوله سبحانه : ( اذْهَبَا إَلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لعلّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ... فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رسُولاَ رَبِّكَ فأَِرسِْل مَعَنَا بَنِي إِسرءِيلَ ولا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنكَ بِآيَة مِن ربِّك والسّلمُ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدى ) ( طه : 43 و 44 ـ 47 ).
    وقوله سبحانه : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إنَّا رَسُولُ رَبِّ العلَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا


(80)
بَنِي إِسرءِيلَ ) ( الشعراء : 16 ـ 17 ).
    وقوله سبحانه حكاية عن فرعون : ( قَالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي اُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمجْنُونٌ ) ( الشعراء ـ 27 ).
    وقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بآي ـ تِنَا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَيْهِ فَقَالَ إنِِّي رَسُولُ رَبِّ العلَمِينَ ) ( الزخرف ـ 46 ).
    وقوله سبحانه : ( إِنّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُم رَسُولاً شهِداً عَلَيْكُمْ كَما أرْسَلْنَا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فأَخَذْنَهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) ( المزمل 15 ـ 16 ).
    وقوله سبحانه : ( وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطن مُبِين ) ( الذاريات ـ 38 ).
    وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة اللّه والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني اسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لايخلفه هو ولا ذاك ، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر ، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون (1).
    هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من اللّه بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان باللّه سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد اللّه واستضعافهم ، ويؤيده أنّه لمّا أدركه الغرق قال فرعون : ( ءَامَنتُ أنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ الذِي ءَامَنَتْ بهِ بَنُواْ إِسرءِيل وأنَا مِنَ المسْلِمِينَ ) ( يونس ـ 90 ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله : ( الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفسِدِينَ ) ( يونس ـ 91 ).
    ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته ـ حتى بهذا المعنى للقبطيين ، شيء.
    أمّا أوّلاً : فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني اسرائيل فقط ليخلصهم
    1 ـ راجع سورة طه الآيات 42 ـ 70.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس