مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 81 ـ 90
(81)
وينجيهم من فرعون وأعوانه ، غير أنّ انجائهم من أيديهم لمّا كان متوقفاً على اثبات نبوّته وأنّه مأمور من جانب اللّه سبحانه ، أخذ يحاور فرعون ويرضيه بانجاء بني اسرائيل ، ولو كان إنجاؤهم غير موقوف على هذه المحاورات لما تحمّل هذه المشاق ويؤيده أنّه سبحانه بعدما قال :
     ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ في الأرْضِ وجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبناءَهُم وَيَسِتَحْيِ نِساءَهُمْ إنّهُ كان َمِنَ المفْسِدِينَ ) ( القصص ـ 4 ) عقبها بقوله : ( ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمّةً ونَجْعَلَهُمُ الورِثِينَ ) ( القصص ـ 5 ).
    وظاهره يفيد أنّ الغاية من بعث موسى إلى فرعون هو اطلاق سراح المستضعفين من بني اسرائيل في الأرض.
    وإن شئت قلت : أنّ محاورته مع فرعون وقيامه ضده وضد ملائه وعرض بيّناته واحتجاجاته عليهم ، كانت مقدمة لانقاذ بني إسرائيل وإرجاعهم إلى الأرض المقدسة ولو كان المطلوب حاصلاً بلا مشاجرة ونزاع معهم لما نهض بين يديه محتجاً بآياته وبيّناته؟
    وثانياً : انّه كلّما حاور مع فرعون واحتج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين عقب كلامه بقوله : فارسل معي بني اسرائيل حيث قال سبحانه : ( قَدْ جِئتكُم ِبَيِّنَة مِن رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرءِيل ) ( الأعراف ـ 105 ) وقال سبحانه : ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرءِيل ولا تُعَذِّبْ ـ هُم ) ( طه ـ 47 ).
    والظاهر من الآيتين أنّ الهدف الأقصى من بعث موسى هو انقاذ بني اسرائيل غير أنّه لما كان متوقّفاً على المحاورة مع فرعون واثبات أنّه رسول من اللّه سبحانه كلمه بأنّي رسول ربّك ويقرب ذلك أنّه سبحانه لما آخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات وأوقع عليهم الرجز جعلوا جزاء موسى ـ إذا استجيبت دعوته ـ أنّهم يؤمنون به ويرسلون معه بني اسرائيل كما حكى اللّه سبحانه عنهم : ( قَالُوا يمُوسى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ


(82)
بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنُؤمِنَنَّ لَكَ ولنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرءِيل ) ( الاعراف ـ 134 ).
    وعلى ذلك فالمراد من إيمانهم بموسى ، إيمانهم بأنّه مبعوث من اللّه سبحانه لهداية بني اسرائيل وانقاذهم من العذاب ، لا إيمانهم بأنّه نبي بعث إلى القبطيين وبني اسرائيل جميعاً كما هو المدّعى.
    ولقائل أن يقول : إنّه إذا لم يكن مبعوثاً إلى فرعون وملائه فلماذا أمر اللّه سبحانه موسى وأخاه هارون بقوله : ( فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لعلّه يَتَذَكَّرُ أوْ يخْشَى ) ( طه ـ 44 ) وقوله : ( اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى * فقُلْ هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزكَّى * وأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) ( النازعات : 17 ـ 19 ).
    وتمكن الاجابة عنه بأنّ الذهاب إليه وتذكيره وتحذيره لأجل أن يعلم فرعون بأنّ موسى مبعوث من جانبه سبحانه لإنقاذ قومه حتى يرسل معه بني اسرائيل ، كما يفيده ذيل الآيات : ( فأتِيَاهُ فقُولا إِنّا رسولا ربّكَ فأَرسِل مَعَنَا بَنِي إسرءِيل ولا تُعَذِّبهُم ) ، لاحظ سورة طه الآيات 43 ـ 47 ، خصوصاً بالنظر إلى ما فرع على قوله : ( إنَّا رسولا رَبِّكَ ) ، قوله : ( فأَرسِل مَعَنَا بَنِي إسرءِيل ).
    ويؤيد ذلك أيضاً أنّه لمّا لم ينجح النبي موسى في انقاذ قومه من سلطان فرعون وعساكره ، أراد سبحانه أن ينجيهم بأسباب غير عادية كما قال سبحانه : ( ولَقَدْ أَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً في البَحْرِ يَبَساً لا تَخفُ دَرَكاً ولاَ تَخْشَى ) ( طه ـ 77 ).
    وقوله : ( وجوَزْنَا بِبَنِي إِسْرءِيل البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْم يَعْكُفُونَ علَىَ أصنَام لَهُم ) ( الأعراف ـ 138 ).
    وقوله سبحانه : ( وجوَزْنَا بِبَنِي إِسْرءِيل البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ بَغْياً وَعدْواً ) ( يونس ـ 90 ).
    وقوله سبحانه : ( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ * واتْرُكِ البَحْرَ رَهْواً إنَّهُمْ


(83)
جُندٌ مُغْرَقُونَ ) ( الدخان23 ـ 24 ).
    وذلك يدلّ على أنّ الغاية من الرسالة هو انقاذ بني اسرائيل فقط لا ارشاد فرعون وملائه.
    ثالثاً : انّ قوله سبحانه : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ (1) رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالبِّينتِ فَما كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ على قُلُوبِ المعْتَدِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُوسى وهرونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ بآيتِنا فَاْسْتَكْبَرُوا وكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِين ) ( يونس 74 ـ 75 ).
    يفيد أنّ رسالة الأنبياء الذين تتراوح دعوتهم بين نوح وموسى بشهادة قوله : ( بعثنا من بعده ( أي نوح ) رسلاً إلى قومه ) كانت مختصة بقومهم حتى إبراهيم كما أنّ دعوة موسى كانت مختصة بقومه لا تعدوهم إلى فرعون أيضاً وملائه وعلى ذلك تصير دعوة كلّ من نوح وإبراهيم وموسى غير عالمية لا تتعدى دعوة موسى بني اسرائيل أو القبطيين.

موقف دعوة الكليم من غير القبطيين
    الظاهر أنّه لم تكن دعوته شاملة لغيرهم لو فرضنا شمولها لهم ويشعر بذلك أنّهم لما نجّاهم سبحانه من فرعون وجاوز بهم البحر فرأوا في ذلك الجانب ، من ضفة البحر قوماً يعكفون على أصنام فطلب منه قومه أن يجعل لهم الهاً كما لهم آلهة فرد عليهم موسى بأنّكم قوم تجهلون (2) ولم يتعرض موسى لعبدة الأصنام (3) لا بالنقد والرد ولا بالمنع ولم يكن خضوعهم للأصنام أقل ضرراً من عبادة قوم فرعون له وإنّما تعرض لعمل فرعون دون عمل هذه الجماعة لأجل أنّ انقاذ بني اسرائيل من مخالب فرعون وقومه كان متوقفاً على المحاورة معه والاحتجاج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين ، دون المقام ، فانّ العاكفين
    1 ـ والضمير في قوله « من بعده » يرجع إلى نوح.
    2 ـ راجع الآية 138 من سورة الأعراف.
    3 ـ بحكم سكوت القرآن عن ذلك وإن كان السكوت لا يكون دليلاً على عدم التعرض لكنه مشعر بذلك.


(84)
على الأصنام في ضفة البحر لم يكونوا مزاحمين لموسى وقومه ولذلك تركهم وشأنهم ، ولم ينكر عليهم بحكم سكوت القرآن وعدم اظهار أي ردة فعل بالنسبة إليهم. وهذا يؤيد ما استظهرناه من عدم عمومية دعوته للقبطيين أيضاً.
    نعم ما نذكره من السكوت اشعار بالمدّعى لا أنّه دليل قطعي.
    ويؤيد خصوصية الدعوة أنّه لم يعهد منه بعد انجاء قومه من فرعون ، أنّه دعا أقواماً آخرين ، بل لما عبر موسى بهم البحر وهلك فرعون ، أمرهم اللّه بدخول الأرض المقدسة ، فلمّا نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول فيها كما حكى اللّه سبحانه عن موسى قائلاً : ( يقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المقَدَّسَةَ الِتي كَتَبَ اللّهُ لَكُم وَلا تَرتَدّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خسِرِينَ * قَالُوا يمُوسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبّارِينَ وإِنَّا لَن نَدْخُلَها حَتّى يَ ـ خْرُجُوا مِنهَا فإِن يَ ـ خْرُجُوا مِنْها فإِنّا دخِلون ) ( المائدة : 21 ـ 22 ).
    فأوحى اللّه إليه أنّهم يتيهون في الأرض أربعين سنة فبقوا في التيه أربعين سنة وكان ينزل عليهم المن والسلوى ومات النقباء غير يوشع بن نون ومات أكثرهم ونشأ ذراريهم وتوفّي موسى وهارون في التيه ، توفّي هارون قبل موسى بسنة وقد فتحها يوشع بعد موت موسى ، وقيل فتحها موسى وكان يوشع في مقدمته (1).
    ولم يرد في القرآن شيء يستشم منه أنّه دعا الاُمم الاُُخرى طول حياته في التيه ، بل كان يعاشر قومه فقط ويرشدهم حسب استعدادهم وامكاناتهم.
    أضف إلى ذلك فقدان الامكانيات وضعف المواصلات في تلكم الأيام ، فتشريع نبوّة عامة تشمل العالم أجمع مع فقدان الامكانيات اللازمة وقلّة الترابط بين الاُمم أمر غير مفيد.
    مضافاً إلى أنّ تشريع النبوّة على صعيد عالمي فرع التهيّؤ في روح المجتمع الانساني لقبولها ، فانّ الناس كانوا عصابات وأقواماً متنافرة يتعصّب كل منهم تجاه الآخر
    1 ـ مجمع البيان ج 2 ص 179.

(85)
ولا ينزل واحد منهم على حكم الآخر ولا لنبي من قوم آخر ، فالطريق الأصلح لهذا هو بعث الأنبياء في داخل الاُمم كما قال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ اُمّة رسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهُ واجتَنِبُوا الطغُوتَ ) ( النحل ـ 36 ) (1).
    أضف إلى ذلك أنّ الاُمم اليهودية يخصون نبوّة موسى بأنفسهم ولذا لا ترى منهم التبليغ والتبشير في مجتمعات العالم (2).
    ومع هذه الوجوه كيف يمكن القول بعمومية دعوته وعالميتها في عصره إلى أن يبعث اللّه نبياً مثله.
    وترشدك إلى ما ذكرناه ، قصة موسى مع من آتاه اللّه الرحمة وعلّمه من لدنه علماً وقال سبحانه : ( فَوَجَدَا عَبْداً من عِبَادِنا آتَيْناهُ رحَم ـ ْةً مِنْ عِندِنَا وعَلَّمَنهُ مِن لدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتّبِعُكَ عَلى أَن تُعَلِّمَنِ ممّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف 65 ـ 66 ) (3).
    ووصفه بما ورد في الآية من الأوصاف يدل على كونه ولياً من أوليائه بل نبياً مثله ـ ومع ذلك ـ كيف تكون نبوّة موسى عالمية مع عدم شمول نبوّتها لمصاحبه ولا لاُمّته إذا فرضنا للمصاحب اُمّة وليس من البعيد أن يكون ذلك المصاحب العائش في زمن موسى مثل لوط المعاصر لإبراهيم وكلّ مبعوث إلى اُمّة دون اُمّة ، وتعاصر النبيين يكشف عن ضيق نطاق نبوّتهم وعدم شمول احدى النبوّتين ، بما تشمله الاُخرى.
    قال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبرهِيمَ بِالبُشْرَى قَالُوا إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
    1 ـ نعم ذابت هذه التعصّبات القومية في المجتمع الانساني إلى حد استعد مزاج الانسانية لبعث نبي عالمي وكمل استعدادهم لقبول النداء العالمي ولأجل ذلك لم يمض ربع قرن إلاّ وقد ضرب الإسلام بجرانه في شرق الأرض وغربها.
    2 ـ وإن كان قول اليهود وفعلهم ليسا بحجة فإنّهم خصّوا اللّه سبحانه بأنّه اله شعبهم فما ظنّك بهم في رسالة موسى ( عليها السَّلام ) .
    3 ـ واحتمال أنّه كان من اُُمّة موسى ولكن اللّه جعل عنده علماً خاصاً لم يؤته موسى فصار موسى مأموراً بالتعلّم منه ، رجم بالغيب وموجب لزيادة الفرع على الأصل واعلمية بعض الاُمّة من نبيّها مع أنّ سياق الآيات لا يناسب ذلك الاحتمال.


(86)
القَرْيَةِ إِنّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَ ـ لِمِين * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِيّنَّهُ وأهْلَهُ إلاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَبِرِينَ ) ( العنكبوت 31 ـ 32 ).

المقام الثاني في عموم شريعته (1) :
    هل كانت الشريعة التي أتى بها موسى في الألواح التي يصفها اللّه سبحانه بقوله : ( وكَتَبنَا لَهُ في الألْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتْفِصيلاً لِكُلِّ شَيْء ) ( الأعراف ـ 145 ).
    مختصة بقومه أم تعم غيرهم؟ ظاهر بعض الآيات ، يفيد كون كتابه حجة على الناس كلهم حيث وصفه بكونه ، هدى ونوراً للناس وقال : ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتبَ الذِي جاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وهُدىً للناسِ ) ( الأنعام ـ 91 ).
    وقوله سبحانه : ( ولَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وهرُونَ الفُرْقَانَ وضِياءً وذِكْراً للمُتّقِين ) ( الأنبياء ـ 48 ).
    فإذن هو ضياء وذكر للمتقين سواء أكانوا من بني إسرائيل أم غيرهم وقوله سبحانه : ( قَالُوا يقَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتباً اُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الحقِّ وإلى طريق مُستَقِيم ) ( الاحقاف ـ 30 ).
    فإنّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( فَقَالُوا إنّا سَمِعْنَا قُرْءاناً َعَجَباً * يَهْدِي إلى الرشْدِ فآمنّا بِهِ ولَن نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ) ( الجن 1 ـ 2 ).
    فإنّ وصف الجن للقرآن بأنّه نزل من بعد كتاب موسى مع كون القرآن ومن جاء به مبعوثين إلى الانس والجن ، يشعر بكون كتاب موسى مثله أيضاً نزلا إلى كلّ من الفريقين ، فكيف تجتمع خصوصية رسالته مع كون كتابه دليلاً وحجة على الكلّ؟
    1 ـ البحث عن عموم شريعته ، فرع ثبوت سعة دعوته في مسألة عبادة اللّه وخلع عبادة الأوثان وقد عرفت عدم ثبوتها ، فالبحث عن عموم شريعته مبني على ثبوت عموم دعوته في جانب الاُصول.

(87)
    ويمكن الاجابة عن الاستدلال بهذه الآيات أوّلاً : بأنّ كون الكتاب نوراً وهدى للناس ، لا يفيد تعميم شريعة موسى وأحكامه لغير بني اسرائيل ، إذ من الممكن أن يستفيد الغير مما ورد في ذلك الكتاب من عظات وحكم وإن لم يكن تابعاً لأحكام ذلك الكتاب. فنحن المسلمون ، نستفيد في هذا اليوم مما في التوراة والانجيل من المواعظ ولسنا تابعين لشريعة من انزلا إليه.
    فبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله سبحانه : ( ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى وهرُونَ الفُرْقَانَ وضِيَاءً وذِكْراً للمُتَّقِينَ ) ( الأنبياء ـ 48 ).
    وثانياً : انّ الظاهر من بعض الآيات اختصاص كتاب موسى بقومه مثل قوله تعالى : ( وءاتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ وجَعَلنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسرءِيلَ ) ( الإسراء ـ 2 ) وقوله سبحانه : ( ولَقَدْ ءاتَيْنا مُوسَى الهدَى وأَوْرَثْنَا بَنِي إِسرءِيلَ الكِتبَ ) ( غافر ـ 53 ).
    فلو كان كتابه حجة على الناس كلّهم لورثه الناس كلّهم دون بني اسرائيل وحدهم (1).
    وقوله : ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا على بَنِي إِسرءِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد في الأَرْضِ فَكَأَنَّما َقَتَل الناسَ جَمِيعاً ) ( المائدة ـ 32 ).
    وقد كتبه سبحانه عليهم في التوراة.
    وقوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسرائيلَ الكِتَب والحُكْمَ والنبُّبوَّةَ ) ( الجاثية ـ 16 ).
    وإن أردت أن تتوسع في البحث فلاحظ الآيات التالية فانّها تخص بني إسرائيل
    1 ـ نعم يمكن أن يقال : انّ تخصيص بني اسرائيل بأنّهم الوارثون لكتاب موسى لأجل أنّ بني اسرائيل وأنبياءهم ، هم القائمون بأمر الكتاب وحفظه دون سائر الناس ، فلأجل ذلك خصهم بالميراث ، وإن كانت الشريعة عامة.
    وهذا نظير قوله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ( فاطر ـ 32 ) فورّث الكتاب العباد المصطفون وإن كانت الشريعة عامة ، على أنّه يحتمل أن يكون المراد بالكتاب ، هو الوعد الذي وعده اللّه لإبراهيم وموسى بأن يدخلهم الأرض التي كتبها اللّه لهم.


(88)
بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب ، فإنّ كونهم ممّن اُوتوا الكتاب وإن كان لا يعارض كون غيرهم كذلك ، إلاّ أنّ تكرار توصيفهم بأنّهم ، هم الذين اُوتوا الكتاب يوجب ظهورها في نفيه عن غيرهم (1) مثل : قوله سبحانه : ( الذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ) ( البقرة ـ 121 ).
    وقوله سبحانه : ( وإِنَّ الذِينَ اُوتُوا الكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن ربِّهِمْ ) ( البقرة ـ 144 ).
    وقوله سبحانه : ( الذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا َيْعِرُفوِن أَبنَاءَهُمُ ) ( الأنعام ـ 20 ).
    وقوله سبحانه : ( الذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ) ( القصص ـ 52 ).
    وقوله سبحانه : ( والذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِِّ ) ( الأنعام ـ 114 ).
    وقوله سبحانه : ( والذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتبَ يَفْرَحُونَ بِمَا اُنزِلَ إِلَيْكَ ) ( الرعد ـ 36 ).
    وقوله سبحانه : ( فالذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) ( العنكبوت ـ 47 ).
    وقوله سبحانه حكاية عن المشركين بأنّه نزل الكتاب على الطائفتين المسيحية واليهودية ولم ينزل علينا : ( أَن تَقُولُوا إِنَّما أُنزِلَ الكِتبُ على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وإن كُنّا عن دِراسَتِهِم لغَافِلينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّا أُنزِل عَلَيْنا الكِتبُ لَكُنّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِن ربِّكم وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ) ( الأنعام 156 ـ 157 ).
    فبهذه الآيات وما تقدمها يمكن تفسير ما تقدمها من الآيات المفيدة المشعرة بكون التوراة نازلة إلى الناس كلّهم بحمل ما دلّ على سعة التشريع ، على الاستغراق
    1 ـ اللّهمّ إلاّ أن يحمل التأكيد بأنّهم هم الذين اُوتوا الكتاب على كون الكتاب نزل على بني اسرائيل وليس معناه أنّه لا يجوز لغيرهم العمل به.

(89)
العرفي ، دون العقلي ، فيراد من قوله سبحانه : نوراً وهدى للناس ، أو ضياء وذكراً للمتقين ، الكتلة المتماسكة من بني اسرائيل.
    نعم ، يمكن أن يقال بعكس ذلك ، فيقال : انّ تخصيص بني اسرائيل بالذكر لأجل أنّ التوراة كانت هدى لبني إسرائيل قبل أن تكون لغيرهم بشهادة بعث موسى فيهم وتولّده ونشوئه بينهم ولأجل ذلك خص اللّه ذلك القوم بالذكر وقال : ( وجَعَلْناهُ هُدًى ِلَبِني إِسرائيلَ ) ( الإسراء ـ 2 ).
    ولمّا مات وترك بينهم ذلك الكتاب الكريم ، كانت تلك الطائفة أولى بميراث نبيّهم ولأجل ذلك قال : ( وأَوْرَثنا بَنِي إِسرائيلَ الكِتبَ ) ( غافر ـ 53 ).
    ولكن يؤيد الحمل الأول ، أعني كون الاستغراق عرفياً لا عقلياً ، قوله سبحانه : ( وكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النفْسَ بالنفْسِ والعَيْنَ بالعَيْنَ والأنفِ بالأنفِ ) ( المائدة ـ 45 ) وقد كتب اللّه لهم هذا الحكم في التوراة وتقييد الكتابة بلفظ ( عليهم ) يؤيد كون الكتاب نازلاً لهدايتهم خاصة.
    ويؤيد الحمل الثاني قوله سبحانه : ( إنّا أَنزَلْنَا التوراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النبِيُّونَ الذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والربَّانِيُّونَ والأحْبَارُ بِما استُحْفِظُوا مِن ِكتابِ اللّهِ وكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ ) ( المائدة ـ 44 ).
    فظاهر الآية أنّ التوراة كانت محكمة بعد موسى عبر القرون يحكم بها النبيون فالآية تفيد سعة نطاق كتابه وشريعته.
    ومع ذلك كلّه فالامعان في الآية لا يفيد إلاّ كون الكتاب حجة لبني اسرائيل ومحكماً عليهم والأنبياء الذين كانوا يحكمون به كانوا من بني اسرائيل لا من غيرهم ولقد بعثوا لهدايتهم وذلك لأنّ اللّه يقول : ( ويحكم بها النبيّون للذين هادوا ) ( لا لغيرهم ) الذي هو المطلوب.
    هذا ما بلغ إليه فهمنا القاصر من التدبّر في آيات الذكر الحكيم ولما كانت في المقام أسئلة حول المختار عقدنا لها الفصل التالي.


(90)
أسئلة وأجوبة
السؤال الأوّل :
    ربّما يستدل على كون دعوة نوح والخليل والكليم والمسيح عالمية بقوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى ِبِه ُنوحاً والذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبرهِيمَ ومُوسَى وعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيه ) ( الشورى ـ 13 ) ويستند في كيفية الاستدلال إلى ما أفاده العلاّمة الطباطبائي حيث قال :
    يستفاد من الآية اُمور :
    أحدها : انّ السياق بما أنّه يفيد الامتنان وخاصة بالنظر إلى ذيل الآية ، والآية التالية يعطي أنّ الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية ولا ينافيه قوله تعالى : ( لِكُلّ َجَعْلَنا مِنكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ) ( المائدة ـ 48 ) لأنّ كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي جامعيتها.
    الثاني : انّ الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي إنّما هي شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحق الجامعية المذكورة.
    ولازم ذلك أوّلاً : انّ لا شريعة قبل نوح ( عليها السَّلام ) بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الانساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية ، وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : ( كانَ الناسُ اُمّةً واحِدةً فَبَعَثَ اللّهُ النِبِّيينَ ) ( البقرة ـ 213 ).
    وثانياً : انّ الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم وبعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى وهكذا.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس