مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 91 ـ 100
(91)
    الثالث : انّ الأنبياء أصحاب الشرائع واُولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورين في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء ويدل على تقدمهم أيضاً قوله : ( وإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّينَ مِيثَاقَهُمْ ومِنكَ وَمِن نُوح وإِبرهِيمَ ومُوسَى وعيسى ابْنِ مَرْيمَ وأخَذْنا مِنْهُم مِيثاقاً غَلِيظاً ) ( الأحزاب ـ 7 ) (1).
     الجواب :
    انّ ما ذكره ( رضوان اللّه عليه ) وإن كان صحيحاً لكنّه لا يدل على عمومية نبوّة هؤلاء الأربعة ومنشأ الاشتباه ( في الاستدلال بالآية وأضرابها على عمومية الدعوة ) هو الخلط بين عمومية دعوتهم وتداول شريعتهم بعدهم ، فقد جرت سنّة اللّه على بعث أنبياء غير صاحبي شريعة في المناطق التي بعث فيها نفس أصحاب الشرائع وهؤلاء المبعوثون كانوا يحملون النبوّة والوحي ، ويتشرّفون بالبيّنات والمعجزات من دون أن تكون لهم شريعة مستقلة ، بل كانوا تابعين لإحدى الشرائع الأربع المتقدمة أو المتعاصرة وناشرين لها ، وكانت نبوّتهم مختصة بقومهم ومنطقتهم غير أنّ ظهور كل واحد منهم من منطقة من المناطق ، كان دليلاً على انتهاء نبوّة النبي صاحب الشريعة عند بعث النبي اللاحق ، بل كان دليلاً على عدم سعتها من بدء الأمر ، كما إذا كان النبي المروّج معاصراً للنبي صاحب الشريعة مثل لوط بالنسبة لإبراهيم ( عليها السَّلام ) .
    وهذا ، هو القرآن يحكي عن أنبياء مروّجين معاصرين لصاحب الشريعة أو تالين له ، آخذين بشريعته.
    فقد بعث اللّه هوداً إلى عاد بشريعة مثل شريعة نوح التي كانت بسيطة غاية البساطة ، كما بعث صالحاً إلى ثمود ، بمثل ما بعث به هوداً.
    وقد بعث اللّه لوطاً إلى قومه ، دون أن تكون له شريعة بل كان يتبع شريعة إبراهيم وكانا يعيشان في عصر واحد ، كما بعث شعيباً إلى أصحاب مدين والايكة ، فأهلك
    1 ـ الميزان ج 18 ص 28.

(92)
مدين بصيحة جبرئيل ، والايكة بعذاب يوم الظلة ولم تكن له شريعة مستقلة ، بل كان يتّبع شريعة الخليل ويروّجها وينشرها.
    وقد بعث اللّه يونس إلى مائة ألف أو يزيدون وكان يعمل بشريعة موسى ، وهكذا حكم سائر الأنبياء المبعوثين في الآونة بعد الآونة ، في ثنايا أزمنة أصحاب الشرائع.
    فهؤلاء الأنبياء المروّجون لم يكونوا من علماء الاُمّة حتى يكونوا مشمولين لدعوة أصحاب الشرائع ، بل كانوا ذوي دعوة وارشاد ، ووحي واعجاز ، خارجين عن دعوة من تقدمهم ، داعين إلى أنفسهم ونبوّتهم وإن كانوا آخذين بشريعته وكانت الاُمّة التي بعث هؤلاء إليهم مكلّفة بتلبية نداء هذا النبي الجديد ، والاقتداء بهداه والاتباع لقوله وفعله وهذا دليل على انقطاع نبوّة النبي السالف ورسالته أو عدم سعته من أوّل الأمر كما إذا كانا متعاصرين مثل لوط وإبراهيم.
    نعم ، لم تكن هذه الجماعة كنفس أصحاب الشرائع أيضاً ، أنبياء عالميين بعثوا لهداية من في الشرق والغرب ، بل كانوا أنبياء محليين (1) مبعوثين إلى أقوامهم ومناطقهم المستعدة للبعث كنفس أصحاب الشرائع.
    فثبت بذلك أنّ نبوّة مثل موسى كانت محدودة بأمرين :
    الأوّل : انّ نبوّته كانت اقليمية لا عالمية.
    الثاني : انّ نبوّته كانت منقطعة ، ببعث نبي بعده ، وإن لم يكن صاحب شريعة ، بل مروّجاً وتابعاً لشريعته ، وبقاء الشريعة ، غير عمومية النبوّة.
    نعم ، النبوّة بمعنى الصفات الحاصلة للنبي مثل علمه ، لا ترتفع بموته ، لبقاء روحه المقدسة ونفسه الكريمة ، والنبوّة بهذا المعنى لا ترتفع إلى الأبد ، بل المراد ما تستتبعه هذه الصفات من كونه قائداً رسمياً من جانب اللّه سبحانه ، يجب على الناس الانتماء والانتساب إليه ، بحيث يعد الانسان من تابعيه واقعاً ، وهذا المعنى أمر قابل
    1 ـ سيوافيك توضيحه عند الاجابة عن السؤال الثاني.

(93)
للارتفاع بعدظهور النبي اللاحق وإن كانت الشريعة باقية.
    على أنّ الظاهر من بعض الآيات ، تخصيص كلّ نبي لاحق وإن كان تابعاً لشريعة من قبله ، بشيء من الحكم ، لم يكن موجوداً في شريعة من قبله ، فلم يكن وزانهم وزان العلماء بحيث لا يزيدون ولا ينقصون ، بل كان لهم بعض الخصائص من الأحكام والتعاليم ، كما يفيده قوله سبحانه :
     ( قُلْ آمنّا باللّهِ وَمَا اُنزِلَ عَلَيْنا وَمَا اُنزِلَ عَلَى إِبرهِيم وإِسمعِيل وإِسحَقَ وَيَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ وَمَا اُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى والنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران ـ 84 ).
    فظهور الآية في استقلالهم بالنبوّة واختصاص كلّ واحد بشيء من الوحي ، ممّا لا ينكر؟
    نعم كون شريعة نوح محدودة ببعث إبراهيم أو كون شريعة الأخير محدودة ببعث موسى ( عليهم السَّلام ) لاينافي كون الاُمّة المحمدية مأمورة باتباع ملّة إبراهيم لا لأجل بقاء نبوّته أو شريعته بل لأجل وحدة الشريعتين في الجوهر والاُصول التي أهمّها التوحيد ورفض الأوثان والأصنام ، قال سبحانه : ( إِنّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبرهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبعُوهُ وهَذَا النَّبِيُّ والّذِينَ آمَنُوا واللّهُ وَلِيُّ المؤْمِنِينَ ) ( آل عمران ـ 68 ).
    وقوله : ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبرهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَان َمِنَ المشْ ـ رِكِينَ ) ( آل عمران ـ 95 ).
    إلى غير ذلك ممّا ورد من الأمر بالاتباع لملّة إبراهيم ، وهذا لا يدل على بقاء الشريعة ، بل لما كان إبراهيم ، هو البطل الوحيد في كسر شوكة الأصنام وتحطيم انوف المشركين وعبدة الأوثان وقد بعث النبي الأعظم محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بنفس ما بعث به إبراهيم ، أمر سبحانه بالاتباع لملّته وطريقته قال : ( مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبرهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) ( الحج ـ 78 ).
    ولأجل هذه الملاحظة ، يقول يوسف لصاحبيه في السجن : ( واتَّبعْتُ مِلَّةَ آبائي إِبرهِيمَ وإِسحقَ ويَعْقُوبَ ) ( يوسف ـ 38 ).


(94)
    وما هذا إلاّ بقاء جوهر الدين في الشرائع السماوية كلّها فالاُمّة المسلمة كانت خليلية إلى أن صارت موسوية ، فعيسوية فمحمدية على المعنى الذي عرفته.
     السؤال الثاني :
    لو كانت نبوّة موسى والمسيح اقليمية فماذا يعني الحديث التالي ، وإلى ماذا يشير :
    « إنّما سمّي اُولوا العزم ، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كل نبي كان بعد نوح ، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه ، إلى زمن إبراهيم الخليل وكلّ نبي كان في أيام إبراهيم الخليل وبعده ، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى ( عليها السَّلام ) وكلّ نبي كان في زمن موسى وبعده ، كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن عيسى ( عليها السَّلام ) وكلّ نبي كان في أيام عيسى وبعده ، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فهؤلاء الخمسة اُولوا العزم وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده » (1).
    الجواب المستفاد من الحديث أمران :
    الأوّل : الحديث يدلّ بصراحة على وجود أنبياء في زمن هؤلاء الأربعة وهذا أقوى شاهد على عدم كون نبوّتهم عالمية ، إذ لا وجه لبعث نبيين إلى اُمّة واحدة ولم يثبت الاشتراك في النبوّة إلاّ في موسى لقوله سبحانه : ( وَأَشرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ( طه ـ 32 ).
    وقوله سبحانه : ( فأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِقُنِي ) ( القصص ـ 34 ).
    الثاني : إنّ الأنبياء المبعوثين في زمنهم أو بعدهم ، كانوا متمسكين بشرائع هؤلاء الأربعة وكانت شريعتهم متداولة بينهم.
    والثابت تداول شريعتهم في المناطق التي بعث فيها هؤلاء ولعلّ تداول شريعتهم بين الاُمم السالفة ، من دون تبديل ، صار سبباً لتوهّم كون نبوّتهم عالمية لا اقليمية. ولكنّه لم يثبت تداول شريعتهم بين اُمم الأرض جميعاً وإنّما القدر المتيقّن تداولها في
    1 ـ بحار الأنوار ج 15 ص 145 ، ورواه الكافي في باب الشرائع ج2 ص 17 بأدنى اختلاف.

(95)
الشرق الأوسط وما ضاهاه لا أقطار الأرض جميعاً ، نعم دلّت الآيات القرآنية على أنّه لم تخل أرض معمورة من نبي أو نذير قال سبحانه : ( وإن مِن اُمّة إِلاّ خَلاَ فِيها نَذِيرٌ ) ( فاطر ـ 24 ).
    وقال سبحانه : ( ولَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ اُمّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ واجتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) ( النحل ـ 36 ).
    وقال سبحانه : ( إِنَّمَ ـ ا أَنتَ مُنذِرٌ ولِكُلِّ قَوْم هَاد ) ( الرعد ـ 7 ).
    وهذه الآيات وما يشابهها تدل على شمول فيض النبوّة لأقطار الأرض واُممها وأنّه لم تخل اُمّة من تلك النعمة الإلهية ويؤيد ذلك ما عن أمير المؤمنين : اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة ، أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته (1).
    وعند ذلك يتوجّه السؤال التالي :
     السؤال الثالث :
    لو كانت نبوّة هؤلاء الأربعة اقليمية وشريعتهم متداولة في الشرق الأوسط ، فمن الذي بعثه اللّه إلى هؤلاء الاُمم المبعثرة في أقطار الأرض وأرجائها ومن هم حجج اللّه وبيّناته بين ظهرانيهم؟
    الجواب : انّ القرآن لم يقصص قصص الأنبياء عامة ولم يأت بأسمائهم جميعاً والمذكور منهم لا يتجاوز عن ستة وعشرين نفراً ، قال سبحانه : ( ولَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِن قَبْلِكَ مِنهُم مَنْ قَصَصْنا َعَلْيَكَ ومِنْهُم مَن لَم نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر ـ 78 ).
    وقال سبحانه : ( ورُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء ـ 164 ).
    1 ـ نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 147.

(96)
    ولم تحصل لنا الإحاطة بكل من بعثه اللّه إلى الاُمم ، وقيّضهم لهداية الناس.
    وقد روى الفريقان عن النبي أنّ عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً وقد جاء في التواريخ والأدعية قسم كبير من أسماء الأنبياء لا نعرف عن أحوالهم إلاّ شيئاً يسيراً فلعلّه كانت هناك جماعة كبيرة وعظيمة من الأنبياء مبعوثين إلى هداية الناس ودعوتهم إلى اللّه من دون أن نسمع لهم ذكراً أو نعرف لهم حالاً وقد سأل السائل صادق الاُمّة وإمامها وقال : فاخبرني عن المجوس أفبعث اللّه إليهم نبياً فانّي أجد لهم كتباً محكمة ومواعظ بليغة وأمثالاً شافية يقرّون بالثواب والعقاب ولهم شرائع يعملون بها؟
    قال ( عليها السَّلام ) : ما من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير وقد بعث إليهم نبياً بكتاب من عند اللّه فأنكروه ومجدوا كتابه (1).
    فلو كانت نبوّة المجوس بعد موسى وقبل المسيح لما أمكن أن تكون نبوّة موسى عالمية.
    1 ـ الاحتجاج ج2 ص 91.

(97)
هل كانت
نبوّة المسيح عالمية؟
    بعد أن أسفر وجه الحقيقة من ثنايا البحث وظهر أنّ الحق هو أنّ نبوّة موسى كانت لقوم خاص ، وإن كانت شريعته متداولة بين المبعوثين من بعده من الذين بعثوا في الأقوام التي بعث فيها نفس الكليم فلنشرع في تحقيق حال نبوّة المسيح سعة وضيقاً فنقول :
    ظاهر بعض الآيات يفيد أنّ رسالته كانت لقوم خاص أيضاً وأنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصة قال سبحانه : ( وإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائيلَ إِنّي َرُسوُل اللّهِ إِليْكُمُ مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التورَاةِ ) ( الصف ـ 6 ).
    وقال سبحانه : ( ولَما ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّون ) ( الزخرف ـ 57 ) ( إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسرائيلَ ) ( الزخرف ـ 59 ) ( ولَما جَاءَ عِيسَى بِالبَيِّناتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالحِكْمَةِ ولاُِبَيِّنَ لكُم بَعْضَ الذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللّهَ وأَطِيعُون ) ( الزخرف ـ 63 ).
    وقال سبحانه : ( إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الذِينَ أَسْلَمُوا للذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتبِ اللّهِ ) ( المائدة ـ 44 ) ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِعِيسَى ابنْ ِمرَيْمَ َمصُدَقِّاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوراةِ ) ( المائدة ـ 46 ).


(98)
    فانّ تقفية النبيين الذين كانت نبوّتهم لقوم خاص قطعاً بعيسى بن مريم وكونه مصدقاً للتوارة المختصة ببني اسرائيل تشعر بكون نبوّته مثلهم أيضاً ، وقال سبحانه : ( وقَالَ المسِيحُ يا بَنِي إِسرائيلَ اعْبُدوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة ـ 72 ).
    وقال سبحانه : ( ورَسُولاً إلى بَنِي إِسرائيلَ أنِّي قَدْ جِئْتُكُم بآية مِن ربِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِينِ كَهَيْئَةِ الطيْرِ ) ( آل عمران ـ 49 ).
    وقال سبحانه : ( لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسرائيلَ وأرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وفَرِيقاً يَقْتُلُون ) ( المائدة ـ 70 ) ( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ المسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقَالَ المسِيحُ يا بَني إسرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة ـ 72 ).
    ولا يخفى على القارئ ما فيها من الدلالة على كونه مبعوثاً إلى بني إسرائيل حيث جعل محور الكلام في الآيتين ، المرسلين إلى بني إسرائيل وقال : ( وأرسلنا إليهم رسلا ) ثم حكم بكفر من قال بأنّ اللّه هو المسيح بن مريم مشعراً بذلك بأنّ المسيح كان من المبعوثين إليهم وهم الذين ألبسوه لباس الالوهية وجعلوه إلهاً.
    أضف إلى ذلك أنّ المسيح جعل محور الخطاب قوم بني إسرائيل وقال : ( يا بَنِي إِسرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) ( المائدة ـ 72 ).
    نعم ظاهر بعض الآيات يفيد عمومية نبوّته ودعوته كما في قوله تعالى : ( وأَنزَلَ التْورَاةَ والانجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِلناسِ وأَنزَلَ الفُرْقَانَ ) ( آل عمران ـ 3 ـ 4 ) ويعالج الاختلاف بما عالجنا به ما ورد في حق الكليم والتوراة ، بأنّ الاستغراق في قوله : ( للناس ) عرفي لا عقلي ويراد من قومه : الكثيرون.
    وقال العلاّمة في شرح التجريد : ذهب قوم من النصارى إلى أنّ محمداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مبعوث إلى العرب خاصة (1).
    1 ـ كشف المراد ص 283 ط قم.

(99)
    فهذا إقرار منهم على عدم عمومية رسالة المسيح.
    وقال الطبرسي (1) في تفسير قوله تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني اسرائيل انّي رسول اللّه إليكم ... ).
    أي اذكر إذ قال عيسى بن مريم لقومه الذين بعث إليهم.
    وقال العلاّمة في تهذيبه عند البحث عن تعبّد النبي ، قبل بعثته بدينه لا بدين من قبله من الرسل : الأقرب انّه ( عليها السَّلام ) قبل النبوّة لم يكن متعبّداً بشرع أحد وإلاّ لاشتهر ولافتخر به أربابها ونمنع عموم دعوة من سبقه ( عليها السَّلام ) (2).
    وقد عدّ العلامة ذلك من خصائص بعثته إلى الناس كافة (3).
    وها هنا سؤال : وهو أنّه إن كانت نبوّة المسيح مختصة ببني إسرائيل فلماذا جعل النبي نصارى العرب من أهل الذمة مثل يهود العرب وعامل النصارى واليهود معاملة واحدة مع أنّه ثبت أنّ الكليم كان مبعوثاً إلى خصوص بني اسرائيل؟ والاجابة عن هذا السؤال سهلة : لأنّ من المحتمل جداً أنّ الرسول كان مأموراً بالحكم على كل متمسّك بالكتاب السماوي احتراماً للعنوان ، لا لكون الكتاب نازلاً فيه كما هو الحال في اتباع المجوس ، فعامل الرسول مع المتمسّكين بدين « زرادشت » معاملة المتمسّك بدين المجوس مع أنّ أهل الكتاب هو الثاني دون الأوّل.
    ويؤيد كون رسالة المسيح ( عليها السَّلام ) لقوم خاص اُمور :
    1 ـ إنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية ، كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.
    قال الزرقاني : إنّ العرب من عهد إبراهيم كانوا على دينه ولم يكفر أحد منهم إلى
    1 ـ مجمع البيان ج 5 ص 279 طبع صيدا.
    2 ـ تهذيب الاُصول إلى علم الاُصول ص 56 الطبع الحجري.
    3 ـ التذكرة ج 2 اوائل كتاب النكاح والمطبوع منها غير مرقم.


(100)
أن جاء عمرو بن لحي فهو أوّل من عبد الأصنام وغيّ ـ ر دين إبراهيم وكان قريباً من كنانة جد النبي (1).
    2 ـ يظهر مما أنشأه عبد المطلب في قصة أصحاب الفيل أنّه وقومه كانوا متحرّزين من النصارى على وجه الاطلاق حيث أنّه بعد ما رجع من عند « قائد الجيش » « إبرهة » آيساً من إنصرافه عن هدم الكعبة ، أخذ بحلقة الباب قائلاً :
    
لا يغلبنّ صليبهم ومحا لهم عدواً محالك (2)
    3 ـ ما رواه الحافظ البخاري : عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي ... واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة » (3) وفي بعض ألفاظ الحديث : « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى كل أحمر وأسود ».
    وقال الشيخ منصور علي ناصف في كتابه القيّم « التاج الجامع للاُصول » روي عن جابر عن النبي قال : « اُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من قبل ، نصرت بالرعب مسيرت شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً واُعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ، رواه الخمسة إلاّ أبا داود (4).
    4 ـ روى الكليني عن أبي عبد اللّه الصادق ( عليها السَّلام ) : انّ اللّه تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والإنس (5).
    فقد ظهر من هذا البحث الحديثي ، أنّه لم تكن نبوّة الكليم والمسيح فضلاً عمّن كان قبلهم من إبراهيم ونوح تعم العالم كلّه ، بل كانت دعوتهم اقليمية أو لقوم خاص
    1 ـ سيرة ابن هشام ج1 ص 79.
    2 ـ بحار الأنوار ج 15 ص 145 نقلاً عن مناقب آل أبي طالب.
    3 ـ صحيح البخاري في مختلف كتبه ، التيمم الباب الأوّل ، الغسل الباب 36 الصلاة الباب 54.
    4 ـ يعنى رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة راجع ج1 ص 30.
    5 ـ الكافي ج2 باب الشرائع ص 17 طبعة دار الكتب الإسلامية.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس