مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 101 ـ 110
(101)
ليس غير وأمّا الدعوة العالمية فتختص بالنبي الخاتم كما أوضحناه (1).
    فانّ قلت : إنّ آدم قد بعث إلى الناس كافة كما أنّ نوحاً كان مبعوثاً إلى أهل الأرض كافة بعد الطوفان لأنّه لم يبق معه إلاّ من آمن به ، وعليه فينتقض الحصر في الحديث المتفق عليه بين الفريقين.
    قلت : الحديث منصرف عن بدء الخلقة وعن النبي الذي لم يكن على أديم الأرض إلاّ نفسه وولده ، أمّا نوح فقد تضافرت الآيات أنّه كان مبعوثاً إلى قومه كقوله سبحانه : ( إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ) ( نوح ـ 1 ).
    وأمّا صيرورة رسالته عالمية بعد الطوفان ، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس ، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.
    أضف إلى ذلك أنّ القدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً ، بل كان خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه ويؤيد ذلك أنّه إذا كان مبعوثاً إلى قومه خاصة لم يكن وجه لتعذيب غيرهم وإهلاكهم بتكذيب قومه إذا لم تصلهم دعوته كما هو الظاهر (2).
     ههناسؤال :
    إذا كانت نبوّة كلّ واحد من هؤلاء الأربعة اقليمية أو مختصة بقوم خاص ، فما معنى « اُولوا العزم من الرسل » الذي وصف اللّه به عدة من الرسل؟ فإنّ المشهور أنّ المقصود منهم من كانت رسالته عالمية موجهة إلى الناس كافة.
    ولأجل الاجابة على هذا السؤال عقدنا البحث التالي.
    1 ـ راجع صفحات 37 ـ 56 من هذا الكتاب.
    2 ـ وقد وقفت على حقيقة الحال عند البحث عن حقيقة نبوّة نوح ( عليها السَّلام ).


(102)
ما المراد باُولي العزم
من الرسل
    لقد وصف اللّه بعض رسله أو كلهم بكونهم (1) اُولي العزم من الرسل حيث قال : ( فاصْبِر كَمَا صَبَرَ اُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ولاَ تَسْتَعْجِل لَهُمْ كَأَنَّ ـ هُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا ِإلاّ سَاعَةً مِن نَهار َبلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاّ القَوْمُ الفاسِقُون ) ( الاحقاف ـ 35 ).
    فأمر نبيّه بالصبر والوقوف في وجه العدو كوقوفهم في وجه معانديهم ومخالفيهم وعندئذ يجب أن نتعرف على ما هو المراد من توصيفهم به وقبل كل شيء نأتي بنصوص أهل اللغة في معنى العزم :
    1 ـ يظهر من ابن فارس في مقاييسه أنّ لهذا اللفظ معنى واحداً وهو القطع ضد الوصل وإليه يرجع معناه الآخر وهو العزم وكأنّه يقطع التحيّ ـ ر والشك قال : « عزم » له أصل واحد صحيح يدل على الصريمة والقطع يقال : عزمت أعزم عزماً ـ إلى أن قال ـ قال الخليل : العزم ما عقد عليه القلب من أمر أنت فاعله أي متيقّنه ويقال : ما لفلان عزيمة أي ما يعزم عليه كأنّه لايمكنه أن يصرم الأمر بل يختلط فيه ويتردد ومن قولهم : عزمت على الجنى وذلك أن تقرأ عليه من عزائم القرآن وهي الآيات التي يرجى قطع الآفة عن المؤوف واعتزم السائر إذا سلك القصد قاطعاً له والرجل يعتزم الطريق : يمضي
    1 ـ الترديد مبني على كون لفظة « من » تبعيضية أو بيانية وإن كان الظاهر هو الأوّل.

(103)
فيه لا ينثني.
    واُولوا العزم من الرسل الذين قطعوا العلائق (1) بينهم وبين من لم يؤمن من الذين بعثوا إليهم كنوح ( عليها السَّلام ) إذ قال : ( لا تَذَرْ على الأَرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّاراً ) وكمحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إذ تبرّأ من الكافر وبرّأه اللّه تعالى منهم وأمره بقتالهم في براءة من اللّه ورسوله (2).
    2 ـ وفسّره الراغب بالقصد وعقد القلب ، من غير إشارة إلى أصله الذي اخذ منه هذا المعنى وقال : العزم والعزيمة عقد القلب على امضاء الأمر قال : ( فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّه ) ، ( ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِكَاح ) ، ( وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَق ) ، ( إنّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُور ) ، ( ولم نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) أي محافظة على ما اُمر به وعزيمة على القيام ، والعزيمة تعويذ كأنّه تصوّر أنّك قد عقدت بها من الشيطان أن يمضي ارادته فيك وجمعها العزائم.
    3 ـ وفسّره الفيروز آبادي بقوله : عزم على الأمر أراد فعله وقطع عليه ، أو جدّ في الأمر ـ إلى أن قال ـ : واُولوا العزم من الرسل الذين عزموا على أمر اللّه فيما عهد إليهم ، ونقل عن الزمخشري : اُولوا الجد والثبات والصبر.
    والمحصّل من هذه النقول أنّ المعنى الأصيل لهذا اللفظ هو القطع ضد الوصل ، ثم يستعمل لأجل المناسبة في عقد القلب والثبات والصبر.
    أمّا القرآن فالظاهر أنّه لم يستعمل فيه إلاّ بمعنى عقد القلب مثل قوله :
    ( فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ) ( محمد ـ 21 ).
    ( فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه ) ( آل عمران ـ 159 ).
    ( وإنْ عَزَمُوا الطَّلاَق ) ( البقرة ـ 227 ).
    ( ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِكَاحَ ) ( البقرة ـ 235 ).
    1 ـ هذا التفسير لم يعهد من المفسرين.
    2 ـ المقاييس ج 4 ص 308.


(104)
( وإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور ) ( آل عمران ـ 186 ).
    أي أنّ الصبر والتقى من الاُمور التي بان رشدها ويجب أن يعزم وينعقد القلب عليها وعقد القلب عليها يستلزم الصبر ويتوقف على الثبات في معارك الحياة ، فالصبر لازم العزم.
    ومثله قوله سبحانه : ( واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُور ) ( لقمان ـ 17 ).
    وقوله سبحانه : ( وَلَمن صَبَرَوغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُور ) ( الشورى ـ 43 ).
    والتدبر في الآيتين الأخيرتين يعطي أن العزم ليس مرادفاً للصبر والثبات وإن فسّره به الزمخشري في كشافه حيث قال في تفسيره : « اُولوا العزم أي اُولوا الجد والثبات والصبر » (1).
    وذلك لأنّ اسم الإشارة في آية سورة لقمان امّا راجع إلى خصوص الصبر كما هو مقتضى الأقربية أو إلى كل ما أوصى به لقمان من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصابه وعلى أي تقدير لا يصح أن يفسّر العزم بالصبر والثبات إذ يصير معنى الآية حينئذ : أنّ الصبر وحده أو هو مع غيره من عزم الاُمور.
    وبذلك يظهر الحال في آية سورة الشورى فلاحظ.
    وقوله سبحانه : ( ولَقَدْ عَهِدْنَا إِلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ولَم نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) ( طه ـ 115 ).
    والمقصود لم نجد له عزماً حافظاً على عهده الذي عاهدناه.
    نعم العزم على الشيء والمحافظة على عقد القلب في طول الحياة لا ينفك عن الثبات والجد والوقوف في وجه المشاكل.
    هذا معنى العزم في القرآن وبذلك يظهر معنى العزم في الآية التي نحن بصدد
    1 ـ الكشاف ج 3 ص 126.

(105)
رفع الستر عن وجهها أعني قوله سبحانه : ( فاصْبِرْ كما صَبَرَ اُولوا العَزْمِ مِنَ الرسُل ). فانّه بمعنى أصحاب العزائم والقصود المؤكدة التي لا تنفصم أصلاً وتدعو إلى العمل والسعي في سبيل اللّه سبحانه.

من هم اُولي العزم من الرسل؟
    يجد القارئ الكريم حول الآية وجوهاً ومعاني حملت على الآية والآية لا تحتملها ودونك تلك الوجوه :
     الوجه الأوّل :
    1 ـ هم الذين بعثوا إلى شرق الأرض وغربها جنّها وانّسها (1).
    هذا المعنى أحد الوجوه التي تفسّ ـ ر بها الآية وعلى هذا يجب عدّ رسالة كلّ من قام الاجماع على كونه من الرسل اُولي العزم أو عدّ منهم في الأخبار الصحاح رسالة عالمية لا اقليمية وبما أنّ موسى والمسيح قامت الضرورة على كونهم من اُولي العزم يجب أن يكون رسالتهم عالمية حسب هذا القول.
    وقد عرفت ضعف هذا القول في البحث الماضي وأنّ الآيات تفيد كون رسالة الكليم والمسيح مختصة بقومهما وبالمناطق التي بعثا فيها فضلاً عن كون رسالة نوح والخليل ( عليهما السَّلام ) عالمية.
    وعلى ذلك فهذا الاحتمال في تفسير الآية لا يمكن الركون إليه فلنبحث عن المحتملات الاُخر حول الموضوع.
     الوجه الثاني :
    أن يراد من اُولي العزم كل الرسل ولم يبعث اللّه رسولاً إلاّ كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال وعقل وعلى هذا فلفظة « من » في قوله : ( من الرسل ) تبيين لا تبعيض كما يقال :
    1 ـ حق اليقين لشبر ص 111 ناقلاً عن كامل الزيارت.

(106)
كسيته من الخز ، وكأنّه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ، ووصفهم بالعزم لأجل صبرهم وثباتهم (1).
    ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ومِنْكَ ومِن نُوح وإِبْرهِيمَ ومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وأَخَدْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً ) ( الأحزاب ـ 7 ).
    فإنّ اضافة الميثاق إلى النبيين دليل على أنّ الميثاق المأخوذ منهم بوصف كونهم من النبيين غير الميثاق المأخود منهم بوصف كونهم من بني آدم الذي يشير إلى ذلك الميثاق قوله سبحانه : ( وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسَتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلَى ) ( الأعراف ـ 172 ).
    فالآية الاُولى تدل على أخذ الميثاق من النبيين عامة وأخذ الميثاق وإن كان لا يدل على العزم الراسخ لكن سكوت القرآن عن نقضهم لهذا الميثاق وبما هم أنبياء معصومون من كل عصيان ، يشعر أو يدل على قيامهم بالميثاق الغليظ الذي يتوقف على العزم الراسخ والإرادة القوية التي تستتبع الصبر والثبات.
    وأمّا تخصيص الخمسة بالذكر فهو لعظمة شأنهم ورفعة مكانهم لكونهم أصحاب الشرائع والكتب لا لانحصار ذاك الوصف فيهم ، كما يمكن أن يتوهم فقد خصّ اللّه سبحانه هؤلاء الخمسة بالذكر في مورد آخر وقال : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والّذِي أَوْحَيْنا إِليْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبرهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أنْ أَقِيمُوا لدِّينَ ولاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ 13 ).
    وقد أشار سبحانه إلى أخذ الميثاق من الأنبياء جميعاً في قوله :
    ( وإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّيَن لَما آتَيْتُكُمْ مِن كِتاب وحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُم إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنا ) ( آل عمران ـ 81 ) (2).
    1 ـ مجمع البيان ج 5 ص 94.
    2 ـ وقد بسّط الطبرسي الكلام في تفسير الآية فراجع ج 1 ص 468.


(107)
    وهذه الآية تحتمل معنيين :
    الأوّل : أنّه سبحانه أخذ الميثاق من النبيين ولم يذكر متعلّق الميثاق عندئذ وقوله : ( لما آتيتكم ) ليس متعلّقاً لأخذ الميثاق منهم ، لكون اللام مفتوحة توطئة للقسم وقوله لتؤمنن جواب له ، وعند ذلك يحتمل أن يكون الميثاق المأخوذ منهم هو وحدة الكلمة في الدين وعدم الاختلاف فيه وإليه تؤمى آية سورة الشورى أعني قوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاتَتَفَرَّقُوا ) ( الشورى ـ 13 ).
    الثاني : انّه سبحانه أخذ الميثاق من الاُمم على أنبيائهم على تصديقهم والاقتداء بهم وعلى ذلك تخرج عمّا نحن بصدد البحث عنه والمعنى الأوّل أظهر.
     الوجه الثالث :
    أن يكون « من » للتبعيض ويراد من « اُولوا العزم » بعض الأنبياء ، قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى إذ قال له قومه : ( إنّا لمدركون قال إنّ معي ربّي سيهدين ) وداود يبكي على زلته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنّها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقال اللّه تعالى في آدم : ( لقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزماً ) ، وفي يونس : ( وَلا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ إذْ نادى وَهُوَ مَكْظومٌ ) (1).
    وهذا القول أقرب الأقوال لولا أنّ فيه مسحة إسرائيلية حيث عد إسحاق ذبيحاً مع أنّ الذبيح هو إسماعيل ولكنّه لا يضر بأصل المعنى ويؤيده كما اُشير إليه نفي العزم عن آدم بعد ما عهد إليه ونسي ما عهد ، والنسيان كناية عن الترك اُطلق السبب واُريد المسبّب لأنّ الشيء إذا نسي ترك ، والمراد من العهد هو النهي عن أكل الشجرة بمثل قوله : ( ولاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشّجَرَةَ ) ( الأعراف ـ 19 ).
    1 ـ مجمع البيان ج 5 ص 194 ـ واحتمله الفخر راجع ج 7 ص 468.

(108)
    وعلى ذلك فالعزم أمّا بمعنى القصد الجازم كما هو الحق أو الصبر والثبات ويؤيده ما رواه القمي في تفسير الآية حيث قال : وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، ومعنى اُولوا العزم : أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار باللّه وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والأذى (1).
    ولا يرد على هذه الرواية ما أوردناه على السابقة ، نعم انحصاره في الخمسة المذكورة في الرواية يحتاج إلى دليل قاطع.
    ومع ذلك فهذا القول أقرب الأقوال لكن بتصرف فيه وهو أنّ جعل « اُولوا العزم » من الرسل حيث قال : اُولوا العزم من الرسل يدل على أنّ عزمهم القوي كان في تبليغ رسالتهم ونشرها بين الناس ، لا مجرد إبتلائهم بالشدائد والبلايا ولو في غير طريق نشر الدين ، فابتلاء يعقوب ويوسف وأيوب وغيرهم لا يجعلهم داخلاً في « اُولوا العزم من الرسل » بما هم رسل ذووا رسالة من اللّه سبحانه إلى عباده.
    ويؤيده أنّ الآية بصدد تحريض النبي على تحمل المشاق في طريق دعوته ورسالته ، والقرآن يصف نوحاً وإبراهيم وموسى بكونهم ذوي عزائم قوية في سبيل الدعوة وتبليغ الدين ولعلّ ههنا من يصفه القرآن بهذا الوصف أو هو كذلك وإن لم يصفه القرآن ولكنّا غير واقفين عليه.
     الوجه الرابع :
    من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه وهم خمسة اُوّلهم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) روي عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه ( عليهما السَّلام ) قال : وهم سادة النبيين وعليهم دارت رحى المرسلين (2).
    1 ـ تفسير القمي ج 2 ص 300.
    2 ـ مجمع البيان ج 5 ص 194.


(109)
    غير أنّه لم يثبت نسخ كلّ شريعة لاحقة لما تقدمها.
    فذا هو عيسى بن مريم يبيّن الغاية من بعثته بقوله : ( قَدْ جِئْتُكُمْ بالحِكْمَةِ ولأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ( الزخرف ـ 63 ).
    فإنّ معنى ذلك أنّ المسيح جاء مبيّناً لا ناسخاً لما تقدمه من الشرائع.
     الوجه الخامس :
    هم الذين اُمروا بالجهاد والقتال وجاهدوا في الدين. نقل عن السدي والكلبي (1).
    وهذا لوجه ينطبق مع بعض المعاني المتقدمة خصوصاً الثالث.
     الوجه السادس :
    إنّ العزم بمعنى الوجوب والحتم واُولوا العزم من الرسل هم الذين شرعوا التشريع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها وخصهم القائل بأربعة أعني نوحاً وهوداً وإبراهيم ومحمداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) (2).
    وهذا المعنى مبني على كون العزم بمعنى الحكم والشريعة مقابل الرخصة وهو الذي يؤيده بعض الروايات المروية عن أهل البيت ( عليهم السَّلام ) وقد روي في العيون عن أبي الحسن الرضا ( عليها السَّلام ) قال : « إنّما سمّي اُولوا العزم اُولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع وذلك أنّ كلّ نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل » (3).
     الوجه السابع :
    المقصود هم الرسل الثمانية المذكورون في قوله سبحانه : ( وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْنَاها
    1 ـ مجمع البيان ج5 ص 194.
    2 ـ مجمع البيان ج5 ص 194.
    3 ـ العيون ج12 الباب 32 ص 80 ونور الثقلين ج 5 ص 22.


(110)
إِبرهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَات مَن نَشاءُ إِنّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنا لَهُ إِسحقَ وَيَعْقُوبَ ) ( الأنعام : 83 ـ 84 ).
    والدليل على ذلك قوله سبحانه : ( اُولَئِكَ الذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه قُلْ لا أَسئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرَى لِلعَلَمِين ) ( الأنعام ـ 90 ).
    وهذا المعنى من أبعد الأقوال عن الحق لأنّه سبحانه لم يخص الاهتداء بالثمانية إلاّ وقد أشار إلى آبائهم بقوله : ( ومِن آبائِهِمْ وَذُرِّيَّ ـ تِهِمْ واِخْوَنِ ـ هِمْ واجْتَبَيْنهُمْ وَهَدَيْنَهُمْ إِلى صِرَاط مُسْتَقِيم ) ( الأنعام ـ 87 ).
    ثم قال سبحانه : ( اُولئكَ الذين هدى اللّه فبهدهم اقتده ).
    فيجب أن يكون الكل اُولي العزم.
    وهناك أقوال اُخر يرجع إلى الاختلاف في عددهم بين كونه تسعة أو سبعة أو ستة أو خمسة أو أربعة وقد ضربنا عن ذكرها صفحاً.
    وعرفت أنّ الحق هو الوجه الثالث بالتصرف الذي عرفته فيه وأوضحنا أنّ هذه اللفظة ليس علماً لعدة معيّنة بل هي وصف يشير إلى الجماعة الذين صبروا في طريق رسالاتهم وتبليغ دين اللّه سبحانه ، وقد عرفت أنّ القرآن يصف ثلاثة من الرسل بهذا العنوان وهم عبارة عن نوح والخليل والكليم ولعلّ هناك من صبر في هذا الطريق ، وعرفه القرآن ولم نقف عليه ، عصمك اللّه وإيّانا من الزلل في القول والعمل وجعلنا من أصحاب العزائم القوية في نشر الحق.

شبهة واهية في المقام :
    ذهب بعض المعترضين من لا إلمام له بحقيقة التعاليم الإسلامية ولا معرفة له باُصول الدين المحمدي وفروعه إلى انكار عالمية الإسلام ، تمسّكاً بالأمر التالي وهو :
    انّ الإسلام جاء بضرائب على الابل والبقر والغنم بمقادير دقيقة في غاية الدقة لأنّ الجزيرة العربية كانت يوم ذاك تكثر فيها الجمال والمواشي دون غيرها من البلاد
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس