مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 111 ـ 120
(111)
والقارات وذلك آية كونه ديناً اقليمياً لا عالمياً ، بل آية على أنّ تخطيطاته الاقتصادية ، وقوانينه في الضرائب وغيرها تناسب عصر الجمال والمواشي ، لا عصر الصاروخ والطائرة ، والمعامل الكبرى ، والمصانع الضخمة ، والأعمال التجارية الهائلة.
    قلت : هذه شبهة يتمسّك بها تارة على نفي كون الإسلام ديناً عالمياً ، واُخرى على نفي كونه ديناً أبدياً وخاتماً لرسالات السماء بحجّة أنّ ما جاء به الإسلام من تشريع في مجال الضرائب ناقص لا يفي بالحاجات المتجددة في العصور المتطورة والحضارات المتقدمة ، والنفقات المتزايدة.
    وقد أجبنا عن هذه الشبهة مفصّلاً في الجزء الثاني من هذه الموسوعة عند البحث عن ( المنابع المالية للحكومة الإسلامية ) فلاحظ تجد فيها ما يقطع جذور الشبهة من أساسها.


(112)

(113)
الفصل الثاني
الخاتمية
في
الذكر الحكيم
    اتفقت الاُمّة الإسلامية عن بكرة أبيها على أنّ نبيّهم محمداً خاتم النبيين ، وأنّ دينه خاتم الأديان ، وكتابه خاتم الكتب والصحف ، فهو ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) آخر السفراء الالهيين ، أوصد به باب الرسالة والنبوّة ، وختمت به رسالة السماء إلى الأرض.
    لقد اتفق المسلمون كافة على أنّ دين نبيّهم ، دين اللّه الأبدي ، وكتابه ، كتاب اللّه الخالد ، ودستوره الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد أنهى اللّه إليه كلّ تشريع وأودع فيه اُصول كلّ رقي ، وأناط به كلّ سعادة ورخاء ، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.
    توضيحه : أنّ الشريعة الحقة الالهية التي أنزلها اللّه إلى أوّل سفرائه لا تفترق جوهراً عمّا أنزله على آخرهم ، بل كانت الشريعة السماوية في بدء أمرها كنواة قابلة للنمو والنشوء ، فأخذت تنمو وتستكمل عبر القرون والأجيال ، حسب تطور الزمان وتكامل


(114)
الاُمم ، وتسرب الحصافة إلى عقولهم ، وتسلل الحضارة إلى حياتهم.
    ويفصح عمّا ذكرنا قوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ... ) ( الشورى ـ 13 ) فقد وصّى نبيّنا محمداً بما وصّى به نوحاً ، من توحيده سبحانه وتنزيهه عن الشرك ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، والتنديد بالجرائم الخلقية ، والقضاء على أسبابها ، إلى غير ذلك ممّا تجده في صحف الأوّلين والآخرين.
    وتتجلى تلك الحقيقة الناصعة ، أي وحدة الشرائع السماوية ، جوهراً من مختلف الآيات في شتى المواضع ، قال سبحانه : ( إنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلامُ وما اخْتلفَ الّذِينَ اُوتُوا الكتابَ إلاّ مِن بَعد ما جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بينهُمْ ) ( آل عمران ـ 19 ) وظاهر الآية يعطي أنّ الدين عند اللّه ـ لم يزل ولن يزال ـ هو الإسلام في طول القرون والأجيال ، ويعاضدها قوله تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( آل عمران ـ 85 ).
    وقد نبّه سبحانه في مورد آخر على خطأ اليهود والنصارى في رمي ـ بطل التوحيد ـ إبراهيم باليهودية والنصرانية ، و قال : ( مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يِهُودِيّاً وَ لانَصْرَانِيّاً وَ لكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران ـ 67 ).
    نعم المراد من الإسلام في الآيتين هو التسليم للّه والامتثال لأوامره ونواهيه لا المعنى العلمي منه ، الذي يقابل اليهودية والنصرانية.
    وقد سئل علي ( عليها السَّلام ) عن حقيقة الإسلام ، فقال : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين » (1) ففسّ ـ ر الإسلام بالتسليم له سبحانه ، وحقيقة التسليم هنا هو إرجاع الأمر والنهي إليه سبحانه ، فالواجب ما أمر به والحرام ما نهى عنه ، لا ما أمر به الأحبار والرهبان ، أو نهوا عنه ، ولا يتحقق التسليم إلاّ برفض تحكيم الرجال في الشريعة ، ورد آراء الناس والأحبار والرهبان في الحلال والحرام.
    فحقيقة الشرائع السماوية في جميع الأدوار والأجيال كانت أمراً واحداً وهو
    1 ـ نهج البلاغة : المختار من الحكم 125.

(115)
التسليم للّه في فرائضه وعزائمه وحده.
    ولأجل ذلك كتب الرسول إلى قيصر عندما دعاه إلى الإسلام ، قوله سبحانه : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بييننا وبينكم الاّ نعبد إلاّ إياه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه ، فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنّا مسلمون ) (1).
    وقد أمر سبحانه في آية اُخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعاً إلى اتباع ملّة إبراهيم ، قال سبحانه : ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكينَ ) ( آل عمران ـ 95 ).
    وصرّح سبحانه بأنّ كلّ نبي جاء عقب نبي آخر ، كان يصرّح بأنّه مصدّق بوجود ذلك النبي المتقدم عليه وكتابه ودينه ، فالمسيح مصدّق لما بين يديه من التوراة ومحمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مصدّق لما بين يديه من الكتب وكتابه مهيمن عليه ، كما قال سبحانه : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّورَاةِ ) ، ( وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتبَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمعا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) ( المائدة : 46 ، 48 ).
    وهذه النصوص كلّها تعبّر عن وحدة اُصول الشرائع وجذورها ولبابها.
    وعلى هذه فرسالة السماء إلى الأرض ، رسالة واحدة في الحقيقة مقولة بالتشكيك ، متكاملة عبر القرون ، جاءت بها الرسل طوال الأجيال ، وكلّهم يحملون إلى المجتمع البشري رسالة واحدة لتصعد بهم إلى مدارج الكمال ، وتهديهم إلى معالم الهداية ومكارم الأخلاق.
    نعم كان البشر في أوّليات حياتهم يعيشون في غاية البساطة والسذاجة ، فما كانت لهم دولة تسوسهم ، ولا مجتمع يخدمهم ولا ذرائع تربطهم ، وكانت أواصر الوحدة ووشائج الارتباط بينهم ضعيفة جداً ، فلأجل ذاك القصور في العقل ، وقلة التقدم ، وضعف الرقي ، كانت تعاليم أنبيائهم ، والأحكام المشروعة لهم ، طفيفة في غاية البساطة ، فلما أخذت الانسانية بالتقدم والرقي ، وكثرت المسائل يوماً فيوماً ، اتسع نطاق الشريعة
    1 ـ السيرة الحلبية ج2 ص 275 ، مسند أحمد ج1 ص 262.

(116)
واكتملت الأحكام تلو هذه الأحوال والتطورات.
    فهذه الشرائع ( مع اختلافها في بعض الفروع والأحكام نظراً إلى الأحوال الاُممية والشؤون الجغرافية ) لا تختلف في اُصولها ولبابها ، بل كلها تهدف إلى أمر واحد ، وتسوق المجتمع إلى هدف مفرد ، والاختلاف إنّما هو في الشريعة والمنهاج لا في المقاصد والغايات كما قال سبحانه : ( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَلََكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ) ( المائدة ـ 48 ) . (1)
    وقال سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لايَعْلَمُونَ ) ( الجاثية ـ 18 ).
    وخلاصة القول : إنّ السنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللانجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ولكن الدين هو الاُصول والعقائد والأحكام التي تساير الفطرة الإنسانية ولا تخالفها ، واحد.
    وهاتان الآيتان لا تهدفان إلى اختلاف الشرائع في جميع موادها ، ومواردها اختلافاً كلّياً بحيث يكون من النسبة بينها نسبة التباين ، كيف وهو سبحانه يأمر نبيّه بالاقتداء بهدى أنبيائه السالفين ويقول : ( اُولئِكَ الذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه ) ( الأنعام ـ 90 ).
    وتخصيص الاقتداء بالتبعية لسننهم وسيرتهم في دعوة أقوامهم إلى الدين والصبر على أذاهم كما في قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ اُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِل لَهُمْ ) ( الأحقاف ـ 35 ) تخصيص بلا وجه.
    فالقول باختلاف الشرائع وتباينها في جميع الموارد لا يرتضيه القرآن والقول باتحاد الشرائع باطل بالضرورة قال سبحانه : ( لِكُلِّ اُمَّة جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا
    1 ـ أي جعلنا لكل من موسى وعيسى ومحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو لكل من اُمم التوراة والانجيل والقرآن شريعة وطريقاً خاصاً إلى ما هو الهدف الأقصى من بعث الرسل ومنهاجاً واضحاً ، والاختلاف بين الكتب والشرائع جزئي لا كلي ، والنسخ في بعض الأحكام لا في جميعها.

(117)
يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ ) ( الحج ـ 67 ).
    والقول الوسط هو الأوسط ، والشريعة الكاملة السمحة الصالحة لكلّ زمان وكلّ مكان هي الشريعة التي جاء بها الإسلام ونبيّه الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) .
    ثم إنّه سبحانه يصرح بحكمة اختلاف الشرائع وتعددها بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) ( المائدة ـ 48 ).
    فإنّ الشريعة الواحدة إنّما تصلح لاُمّة مخلوقة على استعداد واحد ، وحالة واحدة كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين كالطير والنمل والنحل ، وأمّا النوع الممتاز كالانسان الذي يرتقي في اطوار الحياة بالتدريج وعلى سنّة الارتقاء فلا تصلح له شريعة واحدة في كل طور من أطوار حياته ، فشدة أحكام الانجيل في الزهد وترك الدنيا والخضوع لكل حاكم وكل معتد لا يمكن أن يؤخذ به في هذا العصر ، ومثله ما في التوراة من أحكام شديدة كما لا يخفى.
    نعم جاءت الرسل تترى ، وتواصلت حلقات النبوّة في الأدوار الماضية إلى أن بعث اللّه آخر سفرائه ، فأتم به نعمته وأكمل به دينه ، فأصبح المجتمع البشري في ظل دينه الكامل وكتابه الجامع ، غنياً عن تواصل الرسالة وتعاقب النبوّة ، وأصبح البشر غير محتاجين إلى ارسال أي رسول بعده ، إذ جاء الرسول بأكمل الشرائع وأتقنها وأجمعها للحقوق وبكل ما يحتاج إليه البشر في أدوار حياتهم وأنواع تطوّراتهم وفي الوقت نفسه فيها مرونة تتمشى مع جميع الأزمنة والأجيال ، من دون أن تمس جوهر الرسالة الأصلي بتحوير وتحريف.
    ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية.

النصوص القرآنية الدالّة على ختم النبوّة :
    لقد نص القرآن الكريم على ذلك تنصيصاً لا يقبل الشك والترديد ، ولا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية ، وذلك في مواضع :


(118)
    النص الأوّل : قوله سبحانه :
    ( ما كَانَ مُحمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً ) ( الأحزاب ـ 40 ).
    توضيحه : تبنّى رسول اللّه زيداً قبل عصر الرسالة ، وكان العرب ينزّلون الادعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج والميراث ، فأراد اللّه سبحانه أن ينسخ تلك السنّة الجاهلية ، فأمر رسوله أن يتزوّج زينب زوجة زيد بعد مفارقته لها ، فلمّا تزوّجها رسول اللّه ، أوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين والمتوغلين في النزعات الجاهلية ، والمنساقين وراءها ، فرد اللّه سبحانه مزاعمهم وطعنهم بقوله : ( ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ) من الذين لم يلدهم ومنهم زيد ولكنّه ( رسول اللّه ) وهو لا يترك ما أمره اللّه به ( وخاتم النبيين ) وآخرهم ختمت به النبوّة فلا نبي بعده ولا شريعة سوى شريعته ، فنبوّته أبدية وشريعته باقية إلى يوم الدين.

الخاتم وما يراد منه :
    الخاتم ( سواء كان بفتح التاء كما عليه « عاصم » أم بكسرها ، كما عليه الباقون وعلى الفتح سواء أقلنا أنّه فعل كضارب بمعنى ختمهم ، أم اسم بمعنى آخرهم ، أو بمعنى ما يختم به أي المختوم به باب النبوّة ، كما يختم بالطابع ) لا يفهم منه في المقام إلاّ معنى واحد وهو أنّه قد ختم به باب النبوّة وأوصد بوجوده ودينه وكتابه باب الرسالة فلا نبي بعده أصلاً.
    وقد أصفقت على هذا كتب اللغة والتفسير والتاريخ طيلة أربعة عشر قرناً ولم يختلف فيه اثنان ، ولم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه ، فهذه معاجم اللغة وكتب التفسير المؤلفة في العهود الإسلامية السابقة ، بيد أساطين اللغة وفطاحلها وأئمّة التفسير وأبطاله ، ضع يدك على أي واحد منها ، تجدها متضافرة على ما قلناه وسوف ننقل بعض نصوصهم.


(119)
    والأولى أن نرجع قبل كل شيء إلى نفس القرآن وموارد استعمال هذه المادة فيه ، حتى نستعين بالقرآن الكريم نفسه ، في رفع الابهام :
    1 ـ ( يَسْقَوْنَ مِنْ رَحِيق مَختُوم ) ( المطففين ـ 25 ) أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه ، تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك ، أو مختوم بابه بشي مثل الشمع وغيره ، وذلك آية خلوصه.
    2 ـ ( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ ) ( المطففين ـ 26 ) مقطعه رائحة مسك إذا شرب.
    3 ـ ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) ( الشوري ـ 24 ).
    4 ـ ( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ ) ( يس ـ 65 ) أي طبع على أفواههم فتوصّد أفواههم وتتكلم أيديهم.
    5 ـ ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْم وَ خَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ ) ( الجاثية ـ 23 ).
    6 ـ ( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ ) ( البقرة ـ 7 ).
    7 ـ ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصَارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ) ( الأنعام ـ 46 ).
    فإذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم اللّه أنّه لا يؤمن ، يطبع اللّه على قلبه كما يطبع على الشيء بالشمع والطين فيصير قلبه كالمختوم عليه ، لا يدخله شيء ، ولا يخرج منه شيء ، فلا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر.
    فالختم على الشيء ، بمعنى الطبع عليه كناية عن ختم أمره ، فالختم على القلب يلازم انتهاء أمره وامتلاءه بالكفر والالحاد فلم يبق فيه موضع لنور الحق وكلماته ، كما أنّ ختم الورقة وطبعها بالطابع علامة أنّ الكاتب بلغ ما أراد من كتابته فيها ، وانتهى غرضه


(120)
ومقصده.
    والختم على النبوّة عبارة عن أنّه أوصد باب النبوّة وطبع على بابها ، فهو مقفل إلى يوم القيامة ، لا يفتح في وجه أحد.
    وعلى أي تقدير فالناظر في هذه الآيات لا يتلقّى من تلك المادة إلاّ معنى واحداً وهو الانتهاء ، أو ما يلازمه من الطبع على الشيء.
    وقد أوضحه إمام اللغة ابن فارس في معجمه وقال : « الختم » له أصل واحد وهو البلوغ آخر الشيء ، يقال ختمت العمل ، وختم القارئ السورة ، فأمّا الختم وهو الطبع على الشيء ، فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلاّ بعد بلوغ آخره في الإحراز ، والخاتم مشتق من الختم ، لأنّه به يختم ، ويقال : الخاتم بالكسر ، والخاتام والخيتام.
    والنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم الأنبياء لأنّه آخرهم ، وختام كل مشروب ، آخره ، قال اللّه تعالى : ( ختامه مسك ) ، أي أنّ آخر ما يجدونه عند شربهم إياه رائحة المسك.
    وقال أبو البقاء العكبري : الخاتم بفتح التاء على معنى المصدر ، أو هو فعل مثل قاتل بمعنى ختمهم ، وقال الآخرون : اسم بمعنى آخرهم ، وقيل : هو بمعنى المختوم به النبيون ، كما يختم بالطابع ويقرأ بكسرها ، بمعنى آخرهم (1).
    وقال الجوهري في صحاحه : ختمه ويختمه ختماً وختاماً ، طبع على قلبه : جعله لا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء ، وختم الشيء : بلغ آخره ، والختام ككتاب : الطين يختم به على الشيء ، والخاتم ما يوضع على الطينة ، وحلي للاصبع ...
    قال الفيروز آبادي في قاموسه : ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختم ، شدّد للمبالغة ، وختم اللّه له بخير منه ، وختمت القرآن : بلغت آخره ، واختتمت الشيء : نقيض افتتحته ، و الخاتم بكسر التاء و فتحها ، والخيتام والخاتام : كلّها بمعنى واحد ،
    1 ـ التبيان في اعراب القرآن ج 2 ص 100.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس