مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 121 ـ 130
(121)
والجمع الخواتيم ، وتختمت : إذا ألبسته ، وخاتمة الشيء : آخره.
    ومحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم الأنبياء.
    والختام ، الطين الذي يختم به ، وقوله تعالى : ( ختامه مسك ) أي آخره ، لأنّ آخر ما يجدونه رائحة المسك.
    قال ابن منظور في لسان العرب : ختام القوم ، أقصاهم ، ختام القوم وخاتمهم آخرهم ، محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم الأنبياء ، والخاتم من أسماء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ففي التنزيل : ( ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين ) ، أي آخرهم ، وقد قرأوا « خاتم » بالفتح ، ومن أسمائه « العاقب » أيضاً ومعناه آخر الأنبياء.
    قال أبو محمد الدميري في منظومته :
والخاتم الفاعل قل بالكسر وما به يختم ، فتحاً يجري (1)
    وقال البيضاوي : وخاتم النبيين آخرهم الذي ختمهم ، أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح.
    وفي تفسير الجلالين : وفي قراءة بفتح التاء ، كآلة الختم ، أي به ختموا.
    وقال الراغب في مفرداته : يطلق الختم على البلوغ إلى آخر الشيء ، نحو ختمت القرآن ، أي انتهيت إلى آخره ، وخاتم النبيين ، لانّه ختم النبوّة أي تممها بمجيئه.
    إلى غير ذلك من الكلمات الواردة والنصوص الدالة على تظافر اللغة والتفسير على معنى واحد ، ولباب هذه النصوص : أنّ لمادة هذه الكلمة معنى واحداً وهو الانتهاء والوصول إلى آخره ، وأمّا الخاتم المشتق منها فعلى الكسر بمعنى الآخر ، وعلى الفتح أمّا فعل كضارب ، أو اسم بمعنى ما به يختم.
    وأمّا اطلاقه على الحلية التي تزيّن بها الاصبع ، فلأجل أنّ الدارج في عهد الرسالة طبع الكتاب بالخاتم ، فكانت خواتيمهم طوابعهم ، لا أنّه وضع لها ابتداء.
    1 ـ التيسير في علوم التفسير ص 90.

(122)
    ويدل على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته : انّ رسول اللّه أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام ، وكتب إليهم كتاباً ، فقيل يا رسول اللّه أنّ الملوك لا يقرؤن كتاباً إلاّ مختوماً ، فاتخذ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يومئذ خاتماً من فضة ـ فصّه منه ـ نقشه ثلاثة أسطر : محمد رسول اللّه ، وختم به الكتب (1).
    قال ابن خلدون في مقدمته عند البحث عن شارات الملوك : أمّا الخاتم فهو من الخطط السلطانيةوالوظائف الملوكية ، والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده ، وقد ثبت في الصحيحين ، أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أراد أن يكتب إلى قيصر ، فقيل له : إنّ العجم لا يقبلون الكتاب ، إلاّ أن يكون مختوماً ، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه : محمد رسول اللّه.
    قال البخاري : جعل ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به وقال : لا ينقش أحد مثله ، قال : وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ، ثم سقط من يد عثمان في بئر اريس ...
    وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه :
    وذلك أنّ الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الاصبع ومنه تختم : إذا لبسه ، ومنه ختمت الأمر : إذا بلغته ، وختمت القرآن ، ومنه خاتم النبيين ، وخاتم الأمر ، ويطلق على السد الذي يسد به الأواني والدنان ، ويقال : ختام ، وقد غلط من فسّر هذا بالنهاية والتمام ، قال : آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك ، وليس المعنى عليه و إنّما هو من الختام الذي هو السداد ، لأنّ الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار ، يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأنّ سدادها من المسك وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين المعهودين في الدنيا..
    وأنّ الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في دواة من الطين أو المداد ، ووضع على صفح القرطاس بقى أكثر الكلمات في ذلك الصفح ، وكذلك إذا طبع به على جسم ليّن كالشمع فإنّه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه ... إلى أن قال :
    1 ـ الطبقات الكبرى ج1 ص 258.

(123)
    ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأنّ الكتاب إنّما يتم العمل به بهذه العلامات ، وهو من دونها ملغى ليس بتمام ، ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة ، أي علامته ... إلى آخر ما أفاده.
    كل ما ذكره ذلك الفيلسوف الخبير بأسرار التاريخ ، شواهد على ما ذكرنا فراجع بقية كلامه (1).

تشكيكان حول دلالة الآية على كون نبي الإسلام خاتماً :
    البهائية حزب سياسي ، لها طابع المذهب ، قد اختلقها الميرزا حسين علي النوري المتوفّى عام 1309ه ـ ق في عكا ، ويليهم في العقيدة والغاية « القاديانية » ومؤسسها « غلام أحمد القادياني » ينسب إلى إحدى قرى البنجاب ( قاديان ) ، كان في الرعيل الأوّل من فضلاء البنجاب وعلمائهم ، لكنّه ادّعى عام 1892 أنّه المجدد للقرن الرابع عشر الهجري ، وفق الحديث النبوي : « سيأتي على رأس كل مائة سنة رجل يجدد لها دينها » ، قال : أنا المبعوث لهذا القرن ، فاتبعوني لعلّكم تفلحون ، فأطاعته عدة من الخواص والعوام زرافات ووحداناً ، ولما أحس بروح التبعية فيهم ، ادّعى أنّه المهدي والمسيح الموعود ، ثم ادّعى لنفسه النبوّة وأنّه نبي كمثل أنبياء بني اسرائيل الذين كانوا معه ، وأنّه نبي الاُمّة الإسلامية بغير مصحف ، وعند ذلك هجم الناس عليه ليقتلوه ، لولا تدخل الحكومة الانكليزية ، وبقي على ما ادّعى إلى أن اخترمته المنية عام 1908 ولم يستخلف أحداً ، فحدث بينهم خلاف عظيم ، فمالت فئة من أتباعه إلى ابنه « بشير الدين أحمد » وتبعت فئة قليلة منهم « الأمير محمد علي » الذي شد أزر غلام أحمد من ابتداء الأمر ، وقرروا أن يجعلوا لهم جميعة اُخرى ، ويجتنبوا اتباع ابن غلام أحمد ، وجعلوا مركزهم في « لاهور » عاصمة البنجاب ، واشتهروا باسم الأحمدية اللاهورية ، ومحمد علي هو مترجم
    1 ـ مقدمة ابن خلدون ج1 ص 220.

(124)
القرآن بالانكليزية.
    وبين الطائفتين اختلاف في الاُصول والفروع ، فالأحمدية منهم مؤمنة بأنّ النبي خاتم الأنبياء ولا يؤمنون بنبوّة غلام أحمد ولا يكفّرون المسلمين مهما كانت عقائدهم ، وهو واتباعه يصلّون خلف كل مسلم ، بشرط أن لا يكفّرهم ، وأمّا القاديانية منهم ، فهم يعتقدون أنّ غلام أحمد كان نبياً بلا كتاب سماوي ، كأنبياء بني اسرائيل ، ويؤوّلون آية : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين ) تأويلاً يتوافق على زعم الطائفة المضلة ـ على ما سيأتي.
    نعم تشترك الفئتان في الاعتقاد بحرمة الجهاد ، لأنّ مسيحهما قد بعث وجاء لنشر السلام العام والمحبة ، ولزوم الخضوع والطاعة لمن تسلّط ، والكد والكدح في اكتساب الأموال والنقود ، وأنّ الوحي مستمر إلى الأبد ، إلى غير ذلك من المخازي لتضليل بسطاء الاُمّة عن الإسلام ، وعند التحقيق يظهر أنّ الاستعمار خلق « البابية والقاديانية » لإيجاد التشكيك بين عوام الشيعة والسنّة ، وكلا الاخوين « حية بطن واد » (1).
    ولما أرادت الفرقة الضالّة المضلّة البهائية أن تعرّف زعيمها وقائدها ، رسولاً من اللّه إلى الناس ، كسائر المرسلين ، من موسى والمسيح ومحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حاولت لتدعيم مدعاها أن تشكك في دلالة الآية على ما اتفق عليه المسلمون منذ نزولها إلى الآن ، وقد جاءت في ذلك بتشكيكين لا يقصران عن شبه السوفسطائية في بداهة الاُمور ودونك بيانهما مع دحضهما بأوضح الوجوه :

التشكيك الأوّل :
    خلاصة هذا الوجه ترجع إلى التصرف في معنى « الخاتم » كما أنّ التشكيك الثاني
    1 ـ وقد تحدثت مجلة العرفان عن الأحمدية والقاديانية في عدة من أعدادها ، فراجع المجلد الثامن عشر في مقال تحت عنوان : « الإسلام في الهند » والمجلد التاسع عشر ص 94 والعشرين ص 233 و352 و 489 وفيها مقالات بأقلام جماعة من الباحثين تشرح لنا هوية هذه الفئة.

(125)
يرجع إلى التصرف في معنى « النبيين ».
    بيانه أنّ قوله سبحانه : ( وخاتم النبيين ) لا يدل على انتهاء النبوّة بوجوده ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لاحتمال كون المراد من « الخاتم » الحلية التي تزين بها الاصبع وعندئذ يصير الهدف من اطلاق « الخاتم » عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) واستعارته له هو تشبيه نبي الإسلام بالخاتم في الزينة وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بلغ من الكمال مبلغاً حتى صار زينة الأنبياء ، فهو بين تلك العصابة كالخاتم في يد لابسه.
    وهنا احتمال آخر تسقط معه أيضاً دلالة الآية على ما يرتأيه المسلمون من اختتام النبوّة به ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو جواز أن يكون المراد من خاتم النبيين أنّه مصدق للنبيين وما اُنزل إليهم من الصحف والكتب ، كما قال سبحانه : ( وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) ( المائدة ـ 48 ) وقد تقدمت تصاريح التاريخ على أنّ الدارج في عصر الرسالة هو طبع الكتاب وتصديق ما فيه بالخاتم ، فيصير اطلاق الخاتم عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) واستعارته له ، لأجل أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم النبيين ومصدقهم كالخاتم الذي هو مصدق لمضامين الكتب والصحف ، فأين الدلالة على انسداد باب النبوّة (1).
     الجواب :
    انّ هذا التشكيك بمعزل عن التحقيق ، بل لا يستحق أن يطلق عليه اسم التشكيك والشبهة ، ولا يعرج عليه أي عربي أصيل ، وأي عارف باللغة العربية ، بل أي شخص له أدنى إلمام بها ولا يتردد في مخيلة أي ابن انثى ، إذا كان ذا فكر سليم وذوق مستقيم ، ولا يجود احتماله في كلمات القدامى والمتأخّرين.
    إذ لم تعهد استعارة الخاتم في مصطلح العرف للشخص ، لغاية الزينة والتصديق على وجه المجاز ، أو استعماله فيهما على وجه الحقيقة منذ عصر الرسالة إلى يومنا هذا.
    وقد عرفت المعنى الحقيقي لتلك الكلمة ، ولم تكن الزينة أو التصديق أحد
    1 ـ الخاتمية ص 23.

(126)
معانيه ، وأمّا استعماله فيهما مجازاً ، فيتوقف على حصول أمرين :
    الأوّل : أن يكون الاستعمال متعارفاً ودارجاً بين أهل اللسان ، أو يكون ممّا يستحسنه الطبع والذوق ، وكلاهما منتفيان (1).
    الثاني : وجود قرينة مقالية أو حالية صارفة عن المعنى الحقيقي ، وإلا فيحمل على المعنى الموضوع له ، وهي أيضاً منتفية.
    ولما كانت هذه الشبهة أشبه شيء بحديث خرافة ، وشبه السوفسطائية لم يلتفت إليه أحد من مناوئي الإسلام ، حتى مؤسس الفرقة الضالّة وزعيمها الأكبر ، بل فسّر هو نفسه في بعض كتبه (2) ( خاتم النبيين ) على خلاف ما ذكر في الشبهة ، وقال : « والصلاة والسلام على سيد العالم ، ومربي الاُمم ، الذي به انتهت الرسالة والنبوّة وعلى آله وأصحابه دائماً سرمداً ... ».
    وصرّح بذلك في « ايقانه » (3) وفسره بالختم والانتهاء ، نعم أتى بعد ذلك بتأويلات باردة يشمئز منها الطبع ، وإنّما اوّل ما اوّل ليمهد الطريق لدعوى نبوّته وسفارته من اللّه سبحانه.
    هلم معي نسأل مبدع الشبهة عن أنّه لماذا خص سبحانه « الخاتم » بالاستعارة ، مع أنّ التاج والاكليل ، أولى وأبلغ في بيان المقصود ( الزينة ) ؟
    هلم نسأله عن أنّه لو صح ما أراد ( من أنّ المراد أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مصدق النبيين ) ولن يصح ، ولو صحت الأحلام ، فلماذا عدل سبحانه عن أوضح التعابير وأفصحها ، ولم يقل « مصدق النبيين » كما عبّر به في غير واحد من السور (4) عندما أراد توصيف النبي بكونه
    1 ـ ولأجل ذلك لا تجد في الآداب العربية ولا الفارسية ولا غيرها من اللغات استعارة الخاتم للزينة والتصديق.
    2 ـ اشراقات ص 292.
    3 ـ ايقان ص 136.
    4 ـ سورة البقرة : 41و 91 و97 ـ آل عمران : 3 وغيرهما.


(127)
مصدقاً لمن تقدم عليه وأتى في المقام بتعبير غير مألوف ولا مأنوس.
    نحن نسأله : انّ تصديق من مضى من النبيين ، ليس صفة خاصة له ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فانّ المسيح كان أيضاً مصدقاً للماضين منهم ، وما معهم من الكتب والصحف ، كما حكى عنه سبحانه : ( وَ إِذْ قَالَ عِيسى ابنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَد ) ( الصف ـ 6 ) ، وعند ذاك فلماذا عرّفه سبحانه بوصف مشترك بين الأنبياء جميعاً.
    ماذا يجينا المبدع إذا سألناه ، وقلنا له : إنّ تشبيه الرسول الأعظم بالخاتم في التصديق وليد الأحلام الباطلة ، وشتان بينه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وبين الخاتم ، حتى في نفس وجه الشبه الذي اختلقه المبدع ، فانّ الخاتم ليس هو نفسه مصدقاً ، وإنّما هو آلة التصديق وما يصدق به ، وإنّما المصدق انّما هو كاتب الصحيفة ، وهذا بخلاف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّه هو المصدق نفسه.
    لا أدري ماذا يجيب المشكك عن هذه الأسئلة؟
    نعم اختلقت هذا التشكيك بعض الأقلام المستأجرة ، لتأييد أقاويل تلك الفئة وتسويل أباطيلهم ، والكاتب أعرف ببطلانها ، وقد عرفته الاُمّة ، وعرفت نواياه ، وما تخلّق به من روحيات ونفسيات.

التشكيك الثاني :
    إنّ منصب النبوّة غير الرسالة ، وما هو المختوم إنّما هو الأوّل دون الثاني فباب النبوّة وإن كان مختوماً بنص الآية ، لكن باب الرسالة مفتوح على مصراعيه في وجه الاُمّة ، ولم يوصد ولن يوصد أبداً.
    واجلاء الحق في هذا المقام يتوقف على الوقوف على ما هو المقصود من النبي والرسول في الكتاب العزيز ، وقد عقدنا لبيان الفرق بين النبي والرسول فصلاً خاصاً (1)
    1 ـ سيوافيك هذا الفصل في الجزء الرابع من هذه الموسوعة.

(128)
وأوضحنا فيه حال هذا التشكيك وجعلناه في مدحرة البطلان وأقمنا الدليل على أنّ ختم النبوّة يلازم ختم الرسالة.
    وخلاصة ما قلناه هناك : إنّ النبي حسب ما يظهر من آيات الذكر الحكيم وكلمات اعلام اللغة ، هو الانسان الموحى إليه من اللّه باحدى الطرق المعروفة ، وأمّا الرسول فهو الانسان (1) القائم بالسفارة من اللّه بابلاغ قول أو تنفيذ عمل وإن شئت قلت : النبوّة منصب معنوي يستدعي الاتصال بالغيب باحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسل ( بالفتح ) من جانبه سبحانه لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج أو ابلاغه إلى المرسل إليهم.
    وبعبارة ثالثة : النبوّة تحمل الأنباء من اللّهوالرسالة تنفيذ ما تحمله من الانباء بالتبشير والانذار والتبليغ و التنفيذ.
    ولأجل ذلك يقترن لفظ الوحي بلفظ « النبيين » ويقول سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوح وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) ( النساء ـ 163 ).
    ولو اقترن لفظ الوحي بالرسول في آية اُخرى ، فلمناسبة اُخرى اقتضت العدول فيه كما أنّه يقترن في القرآن إلزام الانسان بتبليغ كلام عنه سبحانه أو تنفيذ عمل في الخارج بلفظ « الرسول » ويقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك ) ( المائدة ـ 67 ).
    وقال سبحانه : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ لاَِهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ) ( مريم ـ 19 ).
    وعلى ذلك فالنبي أمّا صيغة لازم بمعنى صاحب النبأ ومتحمله ، أو صيغة متعد بمعنى المخبر عنه سبحانه ، والرسول هو الموظّف لتحقيق ما تحمله النبي من جانب اللّه سبحانه عن طريق الوحي.
    فلو فرض أنّه أوصد باب النبوّة وختم نزول الوحي إلى أي انسان كما يصرح به
    1 ـ المقصود هو الرسول المصطلح فلا ينافي اطلاقه على الملك والشخص العادي في القرآن الكريم.

(129)
لفظ « خاتم النبيين » فعند ذاك يختم باب الرسالة الالهية أيضاً بلا ريب ، لأنّ الرسالة لا تهدف سوى تنفيذ ما يتحمله النبي من جانب اللّه عن طريق الوحي فإذا انقطع الوحي والاتصال بالمبدأ الاولى والاطلاع على ماعنده ، لا يبقى موضوع للرسالة أبداً ، فإذا كان محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتماً للنبيين أي مختوماً به الوحي والاتصال فهو خاتم الرسل والمرسلين طبعاً ، لأنّ رسالة الانسان من جانب اللّه سبحانه ، عبارة عن بيان أو تنفيذ ما أخذه عن طريق الوحي ، فلا تستقيم رسالة أي انسان من جانبه سبحانه إذا انقطع الوحي والاتصال به تعالى ولا يقدر أن يقول أي ابن اُنثى بالرسالة من ناحيته سبحانه إذا كانت النبوّة موصدة باعترافه.
    هذا خلاصة ما قلناه هناك وسيوافيك تفصيله بدلائله وشواهده من الكتاب والسنّة وكلمات اعلام اللغة.

التنصيص الثاني (1) على الخاتمية :
    هلم معي نقرأ النصوص الباقية الدالة على كون نبيّنا خاتم الرسل ، وانّ رسالته خاتمة الرسالات حتى يتضح الحق بأجلى مظاهره ، فمن النصوص قوله سبحانه :
    1 ـ الهدف الأسمى من الاستدلال بهذه الآية وما تليها ، هو نفي قسم خاص من أقسام النبوّة ، أي النبوّة التشريعية الناسخة ، فهذه الآية وأمثالها تكذّب كل من ادّعى لنفسه منصب النبوّة التشريعية ، وادّعى أنّه نبي كموسى وعيسى ومحمد ، وانّ له كتاباً وشريعة ناسخة لما قبلها من الكتب والشرائع ، إذ لا يعقل أن يكون لمجتمع واحد كتابان مختلفا الأهداف والأغراض ، أو نذيران متعددا الغايات.
    فلا يصح أن يكون الفرقان والقرآن نذيراً لهم ، وفي الوقت نفسه يكون كتاب آخر ، يخالفه في المضمون نذيراً لهم أيضاً ، وقس على ذلك سائر ما يرد عليك من الآيات.
    نعم هذه الآية ونظائرها لا تفي بنفي النبوّة التبليغية المحضة ، أو التشريعية غير الناسخة ، بأن تكون النسبة بين الشريعتين نسبة الأقل إلى الأكثر ، أو المجمل إلى المفصل ، والدليل الوحيد في القرآن ، على انسداد أبواب النبوّاة على اطلاقها ، هي الآية المتقدمة ، وما سيوافيك من الأحاديث المتواترة ، الدالة على اغلاق باب النبوّة على وجه الاُمة بعامة أنواعها واقسامها فلاحظ.


(130)
(تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعلَمِينَ نَذِيراً ) ( الفرقان ـ 1 ) .
    وصريح النص أنّ الغاية من تنزيل الفرقان على عبده ( رسولنا ) كون القرآن نذيراً للعالمين ، أي الخلائق كلها من بدء نزوله إلى يوم يبعثون.
    قال « الراغب » في مفرداته : العالم اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأعراض وهو في الأصل اسم لما يعلم به ، كالطابع والخاتم ، لما يطبع به وما يختم به ، وجعل بناءه على هذه الصفة ، لكونه كالآلة والعالم آلة ، في الدلالة لصانعه ، وأمّا جمعه فلأن كل نوع من هذه قد يسمى عالماً ، فيقال عالم الانسان وعالم الماء ، وعالم النار ، وأمّا جمعه على السلامة فلكون الناس من جملتهم والانسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب عليه حكمه ، وقيل إنّما جمع هذا الجمع لأنّه عنى به أصناف الخلائق من الملائكة والجن والناس دون غيرها وروي هذا عن ابن عباس وقال جعفر بن محمد عنى به الناس ، وجعل كل واحد عالماً (1).
    وقال : العالم عالمان : الكبير وهو الفلك بما فيه والصغير لأنّه مخلوق على هيئة العالم (2).
    قال الزمخشري : العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض ، وجمع ليشمل كل جنس مما سمّي به ، وأمّا جمعه بالواو والنون مع كونه اسماً غير صفة وإنّما يجمع بها صفات العقلاء ، أو ما في حكمها من الأعلام ، فلأجل معنى الوصفية فيه وهي الدلالة على معنى العلم (3).
    1 ـ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، ويشهد له ما نقله سبحانه ، عن قوم لوط في خطابهم له ، عند نزول ضيوفه : ( قالَ إنَّ هؤُلاءِ ضِيْفَي فَلا تفضحون * وَاتَّقُوا اللّهَ ولا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نُنْهكَ عَنِ العَلَمِينَ ) ( الحجر : 68 ـ 70 ) أي قالوا في جوابه : أوليس كنا قد نهيناك عن أن تستضيف أحداً من الناس ، ولا معنى لأن ينهوه عن الأجرام السماوية ، أو الجن والملائكة.
    ونظيره قوله سبحانه ـ حكاية عن لوط في الرد على قومه ـ : ( أَتَأتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَلَمِينَ ) ( الشعراء ـ 165 ) فالمراد من العالمين فيه هو الناس بلا ريب.
    2 ـ المفردات للراغب ص 349.
    3 ـ الكشاف ج1 ص 6.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس