مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 131 ـ 140
(131)
    وعلى أي تقدير سواء أكان المراد من العالمين في الآيات الآخر جميع المخلوقات التي يحويها الفلك من الجواهر والأعراض ، أم كان المراد الإنس والجن ، فالمراد منه في الآية بقرينة كونه « نذيراً » خصوص الانسان أو مطلق من يعقل ، فالآية صريحة في أنّ انذاره لا يختص بناس دون ناس ، أو بزمان دون زمان ، فهو على اطلاقه يعطي كونه نذيراً للاُمّة البشرية بلا قيد ولا حد.
    ولقائل أن يعترض ويقول : ربّما يطلق « العالمون » ويراد منه الجم الغفير من الناس كما في قوله سبحانه في تفضيل بني اسرائيل : ( يَا بَنِي إِسْرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِي التِي أَنْعَمْتَ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمين ) ( البقرة ـ 47 ) ويقال رأيت عالماً من الناس يراد به الكثرة وعند ذاك لا تكون الآية صريحة فيما نرتئيه.
    والجواب : انّ المتبادر من العالمين في مصطلح العرف والقرآن هو المعنى العام وهو عبارة أمّا عن الخلائق عامة كما عليه قوله سبحانه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمين * قَالَ رَبُّ السَّمواتِ وَ الأرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) ( الشعراء 23 ـ 24 ).
    وغيره من الآيات الكثيرة التي استعملت فيها كلمة « العالمين » في الخلق كلّه ، أو نوع ما يعقل من الملائكة والإنس والجن وعليه قوله تعالى : ( وَلكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْل عَلَى العلَمِينَ ) ( البقرة ـ 251 ).
    وقوله سبحانه : ( وما اللّه يريد ظلماً للعلمين ) ( آل عمران ـ 108 ) ، أو خصوص الإنس وعليه قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَ هُدًى لِلعلَمِينَ ) ( آل عمران ـ 96 ).
    وقوله سبحانه : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العلمِينَ ) ( الشعراء ـ 165 ).
    وقوله سبحانه : ( أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِنَ العلَمِينَ ) ( الأعراف ـ 80 ، وقريب منها ما في العنكبوت ـ 28 ).
    وعلى ما ذكرنا فلا يسوغ أن يحمل هذ اللفظ على غير هذه المعاني ، إلاّ بقرينة صارفة عن ظاهره وهي غير موجودة في المقام.


(132)
    وأمّا قوله سبحانه : ( وأنّي فضّلتكم على العلمين ) فليس ظاهراً فيما فسره صاحب الكشاف ، من الجم الغفير ، ولأجل ذلك فسّره حبر الاُمّة بأهل عالمي زمانهم كلهم ، لا بالجم الغفير ، كما فسّر به قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَ طِهَّرَكِ وَ اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العلَمِينَ ) ( آل عمران ـ 42 ).
    وعلى أي حال سواء أفسّرناه بالجم الغفير أم خصصناه بأهل عالمي زمانهم فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهره ، حيث دل القرآن على أنّ الاُمّة الإسلامية أفضل الاُمم ، لقوله سبحانه : ( كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّة اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَ تَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ ) ( آل عمران ـ 110 ).
    ونظير تلك الآية ما دل على اصطفاء مريم على نساء العالمين ، كما قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلى نِسَاءِ العَالَمينَ ) ( آل عمران ـ 42 ) فالمراد منه هو نساء عالمي أهل زمانها ، لما اُثر عن النبي وآله من عدم فضلها على ابنته فاطمة ( عليها السَّلام ) .
    أخرج ابن سعد ، عن مسروق ، عن عائشة في حديث : انّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أسر إلى فاطمة عند مرضه وقال : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الاُمّة ، أو نساء العالمين (1).
    ورواه أبو نعيم الاصفهاني أيضاً بهذه العبارة (2).
    وأخرج مسلم والترمذي والبخاري في صحاحهم عن عائشة ، قالت : إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال لفاطمة في اُخريات أيامه : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الاُمّة (3).
    روى الحديث بألفاظه المختلفة العلاّمة المجلسي في بحاره ، فراجع (4).
    ولولا هذه المأثورات عمّن نزل عليه القرآن لكان الواجب الأخذ بظاهرها والحكم
    1 ـ الطبقات الكبرى ج8 ص 27 ، حلية الأولياء ج 2 ص 40.
    2 ـ الطبقات الكبرى ج8 ص 27 ، حلية الأولياء ج 2 ص 40.
    3 ـ التاج الجامع للاُصول ج 3 ص 314.
    4 ـ بحار الأنوار ج43 ص 36.


(133)
بتفضيلها ( مريم ) على نساء العالمين جميعاً.
    على أنّه يمكن الأخذ باطلاق قوله سبحانه : ( وأنّي فضّلتكم على الع ـ لمين ) والقول بتفضيلهم على الناس كلّهم بتقريب أنّ ملاك فضلهم على غيرهم ، تخصيصهم بأشياء من بين الاُُمم إذ انزل عليهم المنّ والسلوى ، وبعث فيهم رسلاً ، وأنزل عليهم الكتب ونجّاهم من فرعون وملائه إلى غير ذلك مما خص به تلك الاُمّة من بين الناس ولا يلزم منه تفضيل واحد منهم على غيرهم (1).
    وعلى أي تقدير فالمتبع هو ظاهر الآية ما لم يدل دليل على خلافه ، وليست في المقام قرينة تصرف قوله سبحانه : ( ليكون للعالمين نذيراً ) عن ظاهره وصريحه.

النص الثالث من القرآن على الخاتمية :
    ومن النصوص قوله سبحانه : ( انّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وأنّه لكتب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ( فصّلت 41 ـ 42 ).
    والمقصود من « الذكر » هو القرآن ، لقوله سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَ الذِّكْرِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران ـ 58 ).
    وقوله سبحانه : ( وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل ـ 44 ).
    والضمير في « لا يأتيه » يرجع إلى « الذكر » ومفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من أي جهة من الجهات ، فلا يأتيه البطل بأي صورة متصورة ، ودونك صوره :
    1 ـ لا يأتيه الباطل : لا ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء.
    1 ـ مجمع البيان ج1 ص 102.

(134)
    2 ـ لا يأتيه الباطل : لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه بأن يجعله سدى ، فهو حق ثابت لا يبدل ولا يغير ولا يترك.
    3 ـ لا يأتيه الباطل : لا يتطرق في اخباره عمّا مضى ولا في اخباره عمّا يجيء ، الباطل ، فكلّها تطابق الواقع.
    وعلى أي تقدير فمحصل الآية بحكم الاطلاق المستفاد من قوله سبحانه : « لا يأتيه » أنّ القرآن حق لا يدخله الباطل إلى يوم القيامة.
    ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر ـ 9 ) أي نحفظه عن تطرق أي بطلان إليه إلى يوم البعث ، كما هو أيضاً مقتضى اطلاقه.
    والحق المطلق الذي لا يدانيه الباطل أبداً ، والمحفوظ عن تسلل البطلان إليه إلى يوم القيامة كما هو ظاهر الآيتين ، يمتنع أن يكون حجّة محدودة ، بل يكون متبعاً لا إلى غاية خاصة وأمد محدود ، لأنّ خاصية الحق المطلق والمصون عن تطرق البطلان مطلقاً هو كونه حجة لا إلى حد خاص واللّه سبحانه عهد : ( لِيُحِقَّ الحَقَّ وَ يُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الانفال ـ 8 ).
    فإذا كان القرآن حقاً مطلقاً مصوناً عن تسلل البطلان إليه ، ومتبعاً للناس إلى يوم القيامة ، يجب عند ذلك ، دوام رسالته وثبات نبوّته وخاتمية شريعته.
    وإن شئت قلت : إنّ الشريعة الجديدة إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقة المحقة التي لا يقارنها ولا يدانيها الباطل أو غيرها ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى الثانية ، وعلى الثاني فامّا أن تكون الثانية حقّة كالاُولى ، فيلزم كون المتناقضين حقاً ، أو يكون الاُولى حقّة دون الاُخرى ، فهذا هو المطلوب.
    والرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يزل يبيّن شريعته ، بالكتاب الحق الذي لا يدانيه الباطل وبسنّته المحكمة التي لا تصدر عنه إلاّ بإيحاء منه سبحانه ، كما قال : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى ) ( النجم : 3 ـ 5 ) وعلى أي تقدير فالآية


(135)
صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن ، وشريعة غير الإسلام فتدل بالملازمة على عدم النبوّة التشريعية بعد نبوّته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) .

النص الرابع من القرآن على خاتمية الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) :
    ومن النصوص قوله تعالى : ( قُلْ أَيُّ شَيْء أَكْبَرُ شَهدَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اُوحِيَ إِليَّ هَذَا القُرآنُ لاُنْذرَكُمْ بِهِ وَ مَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ 19 ) وفسره أمين الإسلام الطبرسي بقوله : أي لا خوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، ولذا قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : من بلغه أنّي أدعو إلى أن لا إله إلاّ اللّه فقد بلغه ، أي بلغته الحجة وقامت عليه ، حتى قيل من بلغه القرآن ، فكإنّما رأى محمداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وسمع منه وحيث ما يأتي القرآن ، فهو داع ونذير (1).
    قوله سبحانه : ( ومن بلغ ) معطوف على الضمير المنصوب في قوله : ( لاُنذركم ) لا على الفاعل المستتر.
    وقد وافاك توضيح مفاد الآية والتوفيق بينها وبين قوله سبحانه : ( ولتنذر اُمّ القرى ومن حولها ) عند البحث عن كون رسالة الرسول عالمية (2).

النص الخامس على الخاتمية :
    ومن النصوص قوله تعالى : ( وما أرسلناكَ إلاّ كافَّةً للناسِ بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمونَ ) ( سبأ ـ 28 ).
    المتبادر من الآية ، كون ( كافة ) حالاً من الناس قدمت على ذيها ، وتقدير الآية : « وما أرسلناك إلاّ للناس كافة بشيراً ونذيراً ».
    ويحتمل كونها حالاً من الضمير المنصوب في « أرسلناك » ومفاد الآية : وما أرسلناك إلاّ أن تكفّهم وتردعهم. ولكنّه ضعيف جداً ، إذ لا حاجة عندئذ إلى لفظ
    1 ـ مجمع البيان ج3 ص 282.
    2 ـ راجع ص 63 ـ 70 من كتابنا هذا.


(136)
« كافة » بعد تذييل الجملة بقوله : ( بشيراً ونذيراً ) إذ لا معنى للكف والردع إلاّ تخويفهم عن عذابه وعقابه حتى يرتدعوا بالتأمل فيما أوعد اللّه في كتابه العزيز ولسان نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على مقترفي الجرائم ، وليس ذلك إلاّ نفس الانذار الوارد في الآية :
    أضف إليه أنّه لم يستعمل لفظ « كافّة » في القرآن إلاّ بمعنى عامة كقوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا فِي السلْمِ كَافَّةً ) ( البقرة ـ 208 ).
    وقوله عز وجل : ( وَ قَاتِلُوا المشرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافَّةً ) ( التوبة ـ 36 ).
    وقوله سبحانه : ( وَ مَا كَانَ المؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً ) ( التوبة ـ 122 ).
    وكل ذلك يؤيد كون ( كافة ) بمعنى عامة حالا من الناس ، والآية مع كونها دليلاً على كون رسالته عالمية ، دليل على كونه مبعوثاً إلى كافة الناس إلى يوم يبعثون (1).

النص السادس على الخاتمية :
    ثم إنّه سبحانه جعل نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم النبيين ، وكتابه خاتم الكتب ، وجعله مهيمناً على جميع الكتب النازلة من قبل.
    قال سبحانه : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لاتَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحْقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجاً وَلَو شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمّةً وَاحِدَةً وَلِكنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) ( المائدة ـ 48 ).
    والمهيمن هو الرقيب الشهيد وقد فسّر باُمور اُخرى يقرب بعضها من بعض فهو
    1 ـ ويؤيد ذلك ما رواه ابن سعد في « طبقاته الكبرى » عن خالد بن معدان قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي فإليّ وحدي.
    ونقل عن أبي هريرة ، أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : اُرسلت إلى الناس كافة ، وبي ختم النبييون ( الطبقات الكبرى ج 1 ص 192 ) وكل ذلك دليل على أنّ الصحابة لم يفهموا من الآية إلاّ ما استظهرناه.


(137)
مراقب أمين يشهد على الكتب النازلة قبله بالصحة في مورد ، والبا لتحريف في مورد آخر. ولو أراد أهل الكتب الوصول إلى الحق الواضح لرجعوا إلى ذلك الكتاب ، لأنّهم لم يؤتوا علم كتابهم كلّه ، بل : ( اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتب ) ( آل عمران ـ 23 ) وأنّهم : ( ... نسُوا حظّاً مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) (1) ، وكانوا : ( يُحرِّفونَ الكَلِمَ عن مواضِعِهِ ) (2).
    وفسره العلاّمة الطباطبائي بوجه آخر وقال :
    هيمنة الشيء على الشيء كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه ومراقبته وأنواع التصرف فيه ، وهذا حال القرآن الذي وصفه اللّه تعالى بأنّه تبيان كلّ شيء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية ، يحفظ منها الاُصول الثابتة غير المتغيرة ، وينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليه التغير والتبدل ممّا يناسب حال الانسان بحسب سلوكه صراط التكامل بمرور الزمان ، قال تعالى : ( إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ( الإسراء ـ 9 ).
    وقال : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِنْهَا أَوْ مِثْلِها ) ( البقرة ـ 106 ).
    فهذه الجملة أعني قوله : ( ومهيمنا عليه ) متممة لقوله : ( مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ) تتميم ايضاح ، إذ لولاها لأمكن أن يتوهّم من تصديق القرآن للتوراة والانجيل أنّه يصدق ما فيهما من الشرائع والأحكام ، تصديق إبقاء من غير تغيير وتبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبيّن أنّ تصديقه لهما تصديق إنّهما شرائع حقّة من عند اللّه ، وانّ للّه أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ والتكميل كما يشير إليه قوله سبحانه في ذيل الآية : ( ولو شاء اللّه لجعلكم اُمّة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ) (3).

اشارات قرآنية إلى الخاتمية :
    ثم إنّ في الكتاب الحكيم آيات تشير إلى خاتمية الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وخاتمية كتابه
    1 ـ لاحظ الآية 13 من المائدة.
    2 ـ لاحظ الآية 13 من المائدة.
    3 ـ الميزان ج 5 ص 378 ـ 379.


(138)
ويقف على تلك الإشارات كل من أمعن النظر في مضامينها ونذكر في المقام بعض الآيات :
    1 ـ ( أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحقِّ فَلاتَكُونَنَّ مِنَ الممتَرِينَ * وَ تمّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لكلمتِهِ وَ هُوَ السميعُ العليمُ ) ( الأنعام 114 ـ 115 ).
    ودلالة قوله سبحانه : ( وتمّت كلمتُ ربّك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلمته ) على إيصاد باب الوحي وانقطاعه إلى يوم القيامة وتمامية الشرائع النازلة من اللّه سبحانه طوال قرون إلى سفرائه ، واضحة بعد الوقوف على معنى الكلمة في القرآن.
    إن « الكلمة » في القرآن قد استعملت في معان أو في مصاديق مختلفة بمعنى واحد جامع واسع ، حتى استعملت في العين الخارجي.
    قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ المَسيحُ عَيسى ابْنُ مَرْيَم ) ( آل عمران ـ 45 ) كما استعملت في القضاء والوعد القطعي قال سبحانه : ( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمعِينَ ) ( هود ـ 119 ) إلى غير ذلك.
    لكن المراد منها في الآية هو الدعوة الإسلامية أو القرآن الكريم ، وما فيه من شرائع وأحكام ، والشاهد عليه الآية المتقدمة حيث قال سبحانه : ( وهو الذي أنزل إليكم الكت ـ ب مفصّلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّل من ربّك بالحق ) فالمراد من قوله : ( أنزل إليكم الكتاب ) هو القرآن النازل على العالمين ، ثم يقول : بأنّ الذين آتيناهم الكتاب من قبل كاليهود والنصارى إذا تخلصوا عن الهوى ، يعلمون أنّ القرآن وحي إلهي كالتوراة والأنجيل وأنّه منزل من اللّه سبحانه بالحق ، فلا يصح لأي منصف أن يتردد في كونه نازلاً منه إلى هداية الناس.
    ثم يقول في الآية التالية : ( وتمت كلمة ربّك ) بظهور الدعوى المحمدية ، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب وصارت مستقرة في محلها بعد ما كانت تسير دهراً


(139)
طويلاً في مدارج التدرج بنبوّة بعد نبوّة وشريعة بعد شريعة (1).
    وهذه الكلمة الالهية أعني الدعوة الالهية المستوحاة في القرآن الكريم صدق لا يشوبه كذب وما فيه من الأحكام من الأمر والنهي ، عدل لا يخالطه ظلم ولأجل تلك التمامية لا تتبدل كلماته وأحكامه من بعد (2).
    وأمّا ما احتمله صاحب المنار من أنّ المراد من الكلمة ما وعد اللّه به نبيّه من نصره وخذلان مستهزئيه مستشهداً بقوله سبحانه : ( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورون * وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمْ الغلِبُونَ ) ( الصافات : 171 ـ 173 ) وما في معناه من الآيات ، فممّ ـ ا لا يلائم سياق الآيات ولا يناسب قوله : ( صدقاً وعدلاً ) ولا قوله : ( لا مبدّل لكلمته ) إلاّ بالتكلّف الذي ارتكبه صاحب المنار (3).
    هذا حال الخاتمية في الذكر الحكيم وقد عرفت أنّه ناطق بايصاد باب النبوّة والرسالة ، وخاتميتهما ، وقد وردت في المقام أحاديث متواترة عن النبي الخاتم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وآله الطاهرين فلأجل ايقاف القارئ على تلكم الكلم الرية عقدنا الفصل التالي :
    1 ـ الميزان ج7 ص 328 ، مجمع البيان ج 2 ص 354.
    2 ـ وقد استعملت الكلمات في القرآن الكريم في الشرائع الالهية قال سبحانه واصفاً مريم : ( وصدقت بكلمات ربّها وكتبه ) ( التحريم ـ 12 ).
    3 ـ المنار ج8 ص 12.


(140)
الخاتمية
في الأحاديث الإسلامية
    لقد حصحص الحق بما أوردناه من النصوص القرآنية وانكشف الشك عن محيا اليقين ، فلم تبق لمجادل شبهة ، في أنّ الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم النبيين والمرسلين ودينه خاتم الأديان وكتابه خاتم الكتب وقد وردت عن النبي والأئمّة من بعده نصوص في المقام تؤكد المطلب فلا بأس بالتعرض لها ، وتوضيح بعضها ، إذ لم نجدها مجتمعة في باب أو كتاب.

تنصيص الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على الخاتمية
    1 ـ خرج رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من المدينة إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال له علي ( عليها السَّلام ) : أخرج معك؟ فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : لا ، فبكى علي ، فقال له رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبي بعدي ، أو ليس بعدي نبي ، أو لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي » (1).
    وهذا الحديث صحيح متفق عليه بين الاُمّة ، لم يشك أحد في صحة سنده ولا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في ثبوته.
    1 ـ سمّي حديث المنزلة ، لأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نزّل فيه نفسه منزلة موسى ، ونزّل علياً مكان هارون.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس