مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 181 ـ 190
(181)
اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء ، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر ، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية ، فإنّ أقصى ما في هذه ، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين ، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم ، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي ، بقصة موسى وفرعون ، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به ، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :
    استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة ، وعدم انتهائها بآية ثانية ، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم ، ودونك الآية :
    ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاق ) ( غافر ـ 15 ).
    قال المستدل في فرائده : إنّ قوله سبحانه : ( يلقي الروح ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة ، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة (1).

الجواب :
    توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :
    1 ـ الظاهر من « الروح » هو الوحي (2) فاستعير له الروح ، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع ، ويوضح ذلك قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ما
    1 ـ الفرائد ص 313 وص 126 من الطبعة الحجرية.
    2 ـ وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة ، وما اخترناه هو الأولى ، فتدبر.


(182)
كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَبُ وَلاَ الإيمَان ) ( الشورى ـ 52 ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّ ـ ي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً ) ( الإسراء ـ 85 ).
    2 ـ يوم التلاق : إنّما هو يوم لقاء اللّه ، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود ، وأهل الأرض والسماء ، كما يوضحه ما بعد الآية : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ َيْخَفى عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَ ـ يْءٌ لِمَنْ الملْكُ اليَوْمَ للّهِ الوَاحِدِ القَهَّار ) ( غافر ـ 16 ).
    والمراد من قوله : ( لينذر يوم التلاق ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه ، ويجزي المحسن والمسيء ، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.
    إذا عرفت الأمرين ، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان ، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها ، بلا نظر إلى زمان النسبة ، سواء أكان الماضي ، أم الحال أم المستقبل ، كما في قوله :
من يفعل الحسنات للّه يشكرها والشر بالشر عند اللّه سيان
    وعلى هذا ، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق ، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد ، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده ، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم ، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول : ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَة ) ( الفرقان ـ 32 ). أو يطعن ويقول : ( لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيم ) ( الزخرف ـ 31 ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر ، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه ، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض ، التعبير بالماضي ، أو المضارع ، فسواء أقال : « القى الروح » أم قال : ( يلقي الروح ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف ، والمقصد الأسنى ،


(183)
اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده ، من دون دلالة على زمان الاتصاف.
    ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.
    فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل ، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده ، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب ، فيجيب الملك بقوله : إنّ الامر بيدنا ، نقدم من نشاء ، ونؤخر من نشاء ، نرفع من نشاء ونضع من نشاء ...
    فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته ، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل ، متمسكاً بأنّه قال : « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل : « قدمت » .
    لا ، ليس لك ولا لغيرك هذا ، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف ، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي ، فلاحظ.
    فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول : إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة ، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات ، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.
    قال الشيخ المفيد : إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع ، والعلم بأنّه خلاف دين النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار (1).
    1 ـ أوائل المقالات ص 39.

(184)
    قال الفاضل المقداد في أثره القيّم (1) أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخباره ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب ، إلى أن قال : ... يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلاّ لم تكن عامة للخلق ، ولقوله تعالى : ( وخاتم النبيين ) وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :
    وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :
    الاُولى : قوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ اُمّة رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون ) ( يونس ـ 47 ).
    الثانية : قوله سبحانه : ( قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعَاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ لِكُلِّ اُمّة أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعةٌ وَلاَ يَسْتَقْدِمُون ) ( يونس ـ 49 ).
    تقرير هذه الشبهة أنّ اللّه حدد حياة الاُمم بحد خاص ، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم ، فلها أجل خاص ، ومدة محدودة ، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة؟
    وروي عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية ، فأجاب ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بقوله : إن صلحت اُمّتي فلها يوم ، وإن فسدت فلها نصف يوم (2).

الجواب :
    لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين : أمّا الآية الاُولى ، أعني قوله سبحانه : ( ولكل اُمّة رسُول ) فصريح الآية هو أنّ اللّه سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،
    1 ـ اللوامع الالهية في المباحث الكلامية ص 225.
    2 ـ الفرائد ص 17 الطبعة الحجرية.


(185)
مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى ، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه ، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها ، فالآية غير ناظرة إليه ، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص ، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان ، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك ، كما تقدمت دلائله.
    ونظير ذلك قوله سبحانه : ( وَلَقَد بَعَثْنَا في كُلِّ اُمّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَنْ حَقَّْت َعَلْيِه الضَّلالَة ) ( النحل ـ 36 ).
    أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام ، لا ، لا تجده من نفسك ، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.
    وأمّا الآية الثانية ، فكشف الغطاء عن محيا الحق ، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة ، فنقول :
    قال الراغب : الاُمّة ، كل جماعة يجمعهم أمر ما : أمّا دين ، أو مكان ، أو زمان ، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً (1).
    هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب ، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين ، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :
    الجامع الديني ، كما في قوله سبحانه : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا اُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) ( البقرة ـ 128 ) وقوله سبحانه : ( كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّة اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوف ) ( آل عمران ـ 110 ).
    الجامع الزماني كقوله سبحانه : ( وَلِكُلِّ اُمَّة أَجَلٌ فَإِذا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ
    1 ـ المفردات للراغب ص 23 مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال : أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية ، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة ، لاطلاقها على الجماعة.

(186)
سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف ـ 34 ) وفسّرها المفسرون بلازم المعنى وقالوا : بعد حين ، أي بعد انقضاء أهل عصر ، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة ، ومثله قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إِلى اُمَّة مَعْدُودَة لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ألا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً َعْنُهْم وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) ( هود ـ 8 ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى ، وقال : إلى جماعة من الاوقات.
    الجامع المكاني : نحو قوله سبحانه : ( وَلَمَا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ اُمّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُون ) ( القصص ـ 23 ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم ، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة ، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد ، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.
    الجامع العنصري والوشيجة العنصرية ، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه : ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَة أَسْبَاطاً اُمَماً ) ( الأعراف ـ 160 ).
    وقوله : ( وَقَطَّعْنَاهُمْ في الأرْضِ اُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) ( الأعراف ـ 168 ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة ، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية ، إلاّ أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً ، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع ، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :
    إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد ، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه : ( إنَّ إِبْرهِيمَ كَانَ اُمّةً قانِتاً للّهِ حنَيِفاً ) ( النحل ـ 120 ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة اللّه ، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة ، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.
    بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب ، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،


(187)
كقوله سبحانه : ( وَمَا مِن دَابّة في الأرْضِ وَلاَ طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ اُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام ـ 38 ).
    فعدّ اللّه كل صنف من الدواب والطيور اُمماً ، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق ، فهي بين ناسجة كالعنكبوت ، وبانية كالسرفة ، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام ، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع (1).
    ويمكن أن يقال : إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة ، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة ، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان ، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة : الطريقة والدين :
    نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه ، في الكتاب والسنّة ، وهو الطريقة والدين ، كقوله سبحانه : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنا عَلَى اُمّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُهْتَدُون ) ( الزخرف ـ 22 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى اُمّة وَإِنَّا علَىَ آثَارِهِم مُقْتَدُون ) ( الزخرف ـ 23 ).
    قال الجوهري في صحاحه : الاُمّة ، الطريقة والدين ، يقال لا اُمّة له ، أي لا دين ونحلة ، قال الشاعر :
    وهل يستوي ذو اُمّة وكفور ...
    وقال الفيروز آبادي : الاُمة ـ بالكسر ـ الحالة والشرعة والدين ويضم.
    هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلاّ في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.
    1 ـ المفردات للراغب ص 23.

(188)
فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :
    إذا عرفت ما ذكرناه : فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه : ( ولكل اُمّة أجل ... ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة ، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله : ( فإذا جاء أجلهم ... ) إذ يجب حينئذ أن يقول : فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير ، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة (1) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني : أعني الجماعة ، التي يربطهم في الحياة أمر ما ، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً ، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم ، فلا إمهال ولا تأخير ، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.
    وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة (2) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما ، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً ، أو عنصراً ، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.
    وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه ، وأوضحناه ، ودونك بعضها :
    ( وَ مَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ وَلَهَا كِتَ ـ بٌ مَعْلُومٌ (3) * مَا تَسْبِقُ مِنْ اُمّة أَجَلَهَا وَمَا
    1 ـ سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.
    2 ـ وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها ، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».
    3 ـ أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.


(189)
يَسْتَأخِرُون ) ( الحجر 4 ـ 5 ) ، وقوله سبحانه : ( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين * ما تسبق من اُمّة أجلها وما يستأخرون ) ( المؤمنون 42 ـ 43 ).
    وقريب منه قوله سبحانه : ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصالحِين * وَلَن يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون : 10 ـ 11 ) ، وقوله سبحانه : ( يَغْفِرْ لَكُمْ مِن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤخِّرْكُمْ إِلَى أَجَل مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُون ) ( نوح ـ 4 ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :
    ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع ، وانتهاء أمدها ، بل قصر استعماله على موارد اُخرى ، لبيان آجال الديون ، والعقود كقوله تعالى : ( إِذَا تَدَايَنتُم بِدْين إلَى أَجَل مُسَمّىً فَاكْتُبُوه ) ( البقرة ـ 282 ).
    وقوله سبحانه : ( وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَ ـ بُ أَجَلَه ) ( البقرة ـ 235 ).
    أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه : ( هُوَ الذِي خَلَقَكُم مِن طِين ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِندَه ) ( الأنعام ـ 2 ) وقوله سبحانه : ( سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لَِأجَل مُسَمّىً ) ( الرعد ـ 2 ).
    وأمّا قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُول أَن يَأْتِيَ بِآيَة إِلاَّ بِاذْنِ اللّهِ لِكُلّ أَجَل كِتَ ـ ب ) ( الرعد ـ 38 ) فيحتمل وجوهاً :
    1 ـ إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً ، كتب وفرض في ذلك الأجل ، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال ، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.
    2 ـ ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً ، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً ، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن ، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو


(190)
أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح ، ونحن حملنا على الحتم والفرض.
    3 ـ انّ المراد منه : انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه ، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.
    4 ـ انّ لكل أمر قضاه اللّه كتاب كتب فيه ، وأبعد الوجوه هو الأخير ، إذ هو تفسير بالأعم ، وهو سبحانه يقول : ( لكل أجل كتب ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه : ( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بأذن اللّه لكل أجل كتب ) ( الرعد ـ 38 ) فلقد كانوا يقترحون على النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعض الآيات ، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً ، كتبه اللّه لذلك الوقت ، ولايجري إلاّ فيه.
    وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة ، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً ، إلاّ على الوجه الثاني ، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.
    وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً ، والحكم ليس نفس الدين والشريعة ، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.
    وأمّا على المعنى الثالث والرابع ، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً ، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :
    وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً ، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله ، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة ، إذ لنا أن نقول : إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان ، في أديم الأرض وقيام القيامة ، وحضور الساعة ، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس