مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 171 ـ 180
(171)
كما قال النقطة الاولى من قبل بعينه يقوله ، من يأتي من بعد » (1) ويدعو إلى نبوّته ورسالته تارة اُخرى ، وأنّه نبي كسائر الأنبياء ، وأنّ باب النبوّة مفتوح إلى يوم القيامة ، لم يوصد بعد نبي الإسلام ، ثم إنّ لهؤلاء الأقوام كُتّاباً مستأجرين استأجرهم الاستعمار لنصرة هذا الحزب المختلق بإسم الدين وطابع المذهب ، وقد جاءوا بشبهات تافهة في مسألة الخاتمية ، فدونك هذه الشبهات مع أجوبتها :

الشبهة الاُولى :
    كيف يدّعي المسلمون انغلاق باب النبوّة والرسالة مع أنّ صريح كتابهم قاض بانفتاح بابه إلى يوم القيامة ، وذلك قوله سبحانه :
    ( يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يأتينَّكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي فَمَن اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأعراف ـ 35 ).
    قال : فهذا الخطاب الوارد في القرآن الكريم ، النازل على قلب سيد المرسلين ينبئ عن مجيء الرسل بعد نبي الإسلام ، ويدل بظاهر قوله : ( يأتينّكم ) الذي هو بصيغة المضارع ، على أنّ باب النبوّة لم يوصد وأنّه مفتوح بعد ، ومعه كيف يدعي المسلمون أنّ محمداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خاتم النبيين وآخرهم وكتابهم يشهد على خلافه (2).

الجواب عن الشبهة :
    هذه الشبهة الواهية حصلت من الجمود على نفس الآية والغض عمّا تقدمها من الآيات فإنّك إذا لاحظت سياقها تذعن بأنّها ليست إنشاء خطاب في ظرف نزول القرآن بل حكاية لخطاب خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة ، ولقد حكاه في القرآن بعد لأي من الدهر ، فكما أنّه سبحانه يحكي فيه الخطابات الدائرة بين رسله
    1 ـ بديع ص 154.
    2 ـ الفرائد ص 314 ط مصر 1315 هـ.


(172)
وجبابرة عصورهم من فرعون وقارون من دون انشاء خطاب في زمن الرسول ، فهكذا يحكي في هذه الآية وما تقدمها ، الخطابات الصادرة منه سبحانه في بدء الخلقة ، وإن كنت في ريب مما ذكرناه ، فلاحظ الآيات الواردة في سياقها ودونك إجمالها.
    ابتدأ سبحانه بقصة آدم في سورة الأعراف ، من الآية الحادية عشرة وختمها بما استنتج منها من العبر في الآية السابعة والثلاثين ، ودونك اجمال القصة ونتائجها بنقلالآيات.
    ( ولقدْ خلقناكُمْ ثمَّ صوّرناكُمْ ثمَّ قُلْنا للملائكةِ اسْجُدُوا لآدمَ فسجدُوا إلاّ إبليسَ لم يَكُن مِنَ الساجِدِينَ * قالَ ما منعكَ ألاّ تَسجُدَ إذْ أمرتُكَ قَالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نار وَخَلَقْتَهُ مِن طين * قالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فما يَكُونُ لَكَ أَن تتكبَّر فِيها فَاخْرُجْ إِنّكَ مِن الصاغِرينَ * قالَ انظِرْني إلى يومِ يُبْعَثُونَ * قالَ إنّكَ مِنَ المنظرينَ * قالَ فبما أَغْوَيْتَنِي لأقعدنَّ لهُمْ صِراطَكَ المستقيمَ * ثمَّ لأَتينَّهُم مِن بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلفهِمْ وعن أَيمانهِمْ وَعَن شمائِلهِمْ ولا تجدُ أكثرهُمْ شاكرينَ * قالَ اخْرُجْ مِنها مَذموماً مدحوراً لمن تبِعكَ منهُمْ لاََملأَنَّ جهنّمَ منكمْ أجميعنَ * وبا آدمُ اسكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجنّةَ فكُلا مِن حيثُ شِئْتما ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشجرةَ فتكُونا مِن الظالمينَ * فَوَسوسَ لَهما الشيطانُ ليبديَ لهما ما وُريَ عنْهُما مِن سَوْءاتِهِما وقالَ ما نهاكُما ربّكُما عَنْ هذهِ الشجرةِ إلاّ أن تكُونا مَلكيْنِ أو تكونَا مِنَ الخالدينَ * وقاسمَهُما إنِّي لكُما لمنَ الناصحينَ * فدلاّهما بغُرور فلمّا ذاقا الشجرةَ بدتْ لهُما سوءاتُهُما وطفِقا يخصفانِ عليهِما من ورقِ الجنّةِ وناداهُما رَبُّهُما ألمْ أَنْهكُما عن تِلْكُما الشجرةِ وأَقُل لكُما إِنَّ الشيطانَ لكُما عدوٌّ مُبِينٌ * قالاَ ربَّنا ظلمْنا أنفُسَنا وإِن لَم تغفِرْ لَنا وترحَمْنا لنكُوننَّ منَ الخاسرينَ * قالَ اهبطُوا بعضكُمْ لبعض عدوٌّ ولكُم في الأرضِ مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حين * قالَ فيها تَحْيَوْنَ وفيها تموتونَ ومنها تُخرجُونَ ) ( الأعراف ـ 11 ـ 25 ).
    وعند ذلك ناسب أن يستنتج سبحانه من تلك القصة ويخاطب أبناء آدم بخطابات أربعة ، هادفة إلى لزوم طاعة اللّه سبحانه والتجافي عمّا يأمر به الشيطان ،


(173)
وإنّ لهم في قصة أبيهم واُمّهم لعبرة واضحة فقال سبحانه :
    1 ـ ( يا بني آدمَ قدْ أنزلْنا عليكُمْ لباساً يُواري سوءاتِكُم وريشاً ولباسُ التقوى ذلكَ خيرٌ ذلكَ منْ آياتِ اللّهِ لعلّهُم يذَّكَّرونَ ) ( الأعراف ـ 26 ).
    2 ـ ( يا بني آدمَ لا يفتننَّكُمُ الشيطانُ كما أخرجَ أبويْكُم منَ الجنَّةِ ينزعُ عنهما لباسَهُما ليريَهُما سواتِِهما إنّهُ يَراكُم هوَ وقبيلُهُ من حيثُ لا تروْنَهُم إنّا جعلنا الشياطينَ أولياءَ للذينَ لا يؤمنونَ ) ( الأعراف ـ 27 ).
    3 ـ ( يا بني آدمَ خذوُا زينتكُم عندَ كُلِّ مسجِد وكلُوا واشربُوا ولا تسرفُوا إنّهُ لا يحبُّ المسرفينَ ) ( الأعراف ـ 31 ).
    ولا تجعل قوله سبحانه في ثنايا الخطابات الأربعة : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ... ) دليلاً على كونها انشاء خطاب في عصر القرآن للمسلمين بقرينة ذكر المسجد ، لأنّه مردود بوجهين :
    الأوّل : لوجود المسجد في الاُمم السابقة وعدم اختصاصه بعصر الرسالة كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( قالَ الّذينَ غلبُوا على أمْرِهِمْ لنتَّخِذَنَّ عليْهِم مسْجداً ) ( الكهف ـ 21 ).
    الثاني : إنّ المراد من المسجد ليس البناء الخاص الدارج في البلاد الإسلامية بل هو كناية عن حالة الصلاة والعبادة التي أمر اللّه بها عباده في الاُمم جمعاء على اختلافها في الأجزاء والشرائط والصور ، كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( واذكُرْ في الكتابِ إسماعيلَ إنّهُ كانَ صادِقَ الوعْدِ وكانَ رَسُولاً * وكانَ يأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاةِ والزكاةِ وكانَ عندَ ربِّهِ مرضيّاً ) ( مريم : 54 ـ 55 ).
    وقوله سبحانه حاكياً عن المسيح : ( وأوْصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دمتُ حيّاً ) ( مريم ـ 31 ).
    وعليه فالمراد أمّا خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة وألبسوا أجودها في حال


(174)
العبادة ، أو خذوا ما تسترون به عوراتكم حالها ، وعلى أي تقدير فهذا الحكم لا يختص بالاُمّة الإسلامية بل يعم الاُمم جمعاء.
    4 ـ ( يا بني آدمَ إِمّا يأتينَّكُمْ رسلٌ منكُم يقصَّونَ عليكُم آياتي فمنِ اتقى وأصلحَ فلا خوفٌ عليهِمْ ولا هُمْ يحزنونَ ) ( الأعراف ـ 35 ) ثم إنّه سبحانه في الآية السادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين توعّد من كذّب بآياته واستكبر عنها ومن افترى على اللّه كذباً ، وقال سبحانه : ( والذينَ كذَّبوا بِآياتِنا واستكبَرُوا عنها اُولئكَ أصحابُ النارِ هم فيها خالدونَ * فمنْ أظلمُ ممّن أفترى على اللّهِ كَذِباً أوْ كَذَّبَ بآياتهِ اُولئكَ ينالهُمْ نصيبُهُم منَ الكتابِ حتّى إذا جاءَتْهُمْ رسُلُنا يتوفَّوْنهُم قالُوا أينَ ما كنتُمْ تدعُونَ من دونِ اللّهِ قالوا ضلُّوا عنَّا وشهِدُوْا على أنفسِهِم أَنّهُمْ كانوا كافرينَ ).
    وبعد ذلك ختم القصة مع ما استنتج منها لابناء آدم من عظات وعبر.
    وأنت إذا احطت خبراً بهذه الآيات ، صدرها وذيلها وهدفها ومرماها ، لوقفت على أنّ الخطاب الأخير الحاكي عن بعث الرسل إلى بني آدم ليس انشاء خطاب في عهد الرسالة حتى ينافي صريح قوله الآخر : ( ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين ) بل هي حكاية لاحدى الخطابات التي ألقاها اللّه في بدء الخلقة ، عندما أخرج الشيطان أبانا من الجنة وأهبطه إلى الأرض ، وتعلقت مشيئته سبحانه بأن يستقر هو وأبناؤه في الأرض إلى حين ، فخاطب سبحانه أبناء آدم بلسان النصح وقال : ( يا بني آدم إمّا يأتينكم رسل منكم يقصّون عليكم آياتي ... ) فصدّق الخبر الخبر وجاءت الرسل تترى ، مبشّرين ومنذرين ، تالين على بني آدم آيات اللّه.
    وممّا يؤيد ما ذكرنا ( أنّ قوله سبحانه : ( يا بني آدم إمّا يأتينّكم رسل منكم ... ) حكاية للخطاب الذي ألقاه سبحانه في بدء الخلقة ، لا انشاء خطاب في عهد القرآن ) إنّ اللّه سبحانه حيث ما يذكر في موضع آخر من القرآن قصّة آدم على وجه التفصيل ، يذيّلها بمضمون هذه الآية وما بعدها من الآيتين (1) كما في سورتي البقرة وطه ، فإنّ
    1 ـ الآية السادسة والثلاثون والسابعة والثلاثون.

(175)
مضمونهما موجود في ذيل القصة ، وإنّما الاختلاف في اللفظ والعبارة ، دون اللب والمعنى.
    ودونك ما في سورة البقرة ، ترى أنّ اللّه سبحانه بعد ما ذكر قصة آدم ، وإنّ الشيطان أزلّهما ، يكرّر مضمون هذه الآية وما بعدهما من الآيتين حيث يقول : ( قُلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن تبعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهِمْ ولا همْ يحزنونَ ).
    ( والّذينَ كفروا وكذَّبوا بآياتِنا اُولئكَ أصحابُ النارِ همْ فيها خالدونَ ) ( البقرة : 38 ـ 39 ).
    فهاتان الآياتان في سورة البقرة ، يتحد مضمونهما مع مضمون ما ورد في سورة الأعراف غير أنّهما جاءتا في سورة الأعراف بلفظ « يا بني آدم » دون ما في سورة البقرة وهذا يؤيد أو يدل على أنّ الوارد في سورة الأعراف ليس إنشاء لخطاب في عهد الرسالة ، بل حكاية لخطاب سبق منه سبحانه في بدء الخلقة.
    ونظير ذلك ما ورد في سورة طه ، حيث يقول فيها سبحانه : ( وعصى آدمَ ربّهِ فغوى * ثمّ اجتباهُ ربُّهُ فتابَ عليْهِ وهدى ) ( طه : 121 ـ 122 ).
    ( قالَ اهبِطا منها جميعاً بعضكُم لبعض عدوٌّ فإمّا يأتينّكُم منّي هُدًى فمنِ اتبعَ هُدايَ فلا يضلُّ ولا يشْقَى ) ( طه ـ 123 ).
    ( وَمَنْ أعرضَ عَن ذكرِي فإنَّ لُه معيشةً ضنكاً ونحشُ ـ رُهُ يومَ القيامةِ أعمى ) ( طه ـ 124 ).
    فهاتان الآياتان تتحدان مع ما وردتا في سورة الأعراف معنى ومضموناً ، وإن اختلفتامعهما لفظاً وعبارة ، وبذلك يظهر صدق ما أوضحناه من كون الآيتين في سورة الأعراف قد وردتا حكاية عن خطاب الهي صدر منه بعد خروج آدم من الجنة ، لا خطاب ابتدائي صدر منه سبحانه إلى المسلمين.
    ومما يشهد على أنّها من الخطابات الواردة في بدء الخلقة ، أنّه سبحانه يؤاخذ


(176)
الخليقة كلها يوم القيامة بنفس هذا الخطاب ويقول : ( يا معشرَ الجنِّ والانسِ ألمْ يأتكُم رسلٌ منكٌم يقصُّونَ عليكُم آياتي وينذِرونكُم لقاءَ يومكم هذا قالُوا شهِدنا على أنفُسِنا وغرَّتْهُم الحياةُ الدنيا وشَهدُوا على أنفُسهِم أنّهُم كانوا كافرينَ ) ( الأنعام ـ 130 ).
    فإذا نظرت إلى مضمون الآية ، ترى أنّ مادة الإحتجاج فيها هو عين ما ورد في سورة الأعراف وهذا دليل على أنّ الخطاب في هذه السورة من الخطابات الواردة في بدء الخلقة واللّه تعالى حكاها في القرآن للنبي الأكرم واُمّته ، فلاحظ.

دحض الشبهة بوجه آخر :
    قد جمعنا وبعض البهائيين مجلس في سالف الأيام (1) في مدينة عبادان وسألني عن هذه الآية ودلالتها على مجيء الرسل بعد نبي الإسلام وأنّها تدل على أنّ باب النبوّة لم يوصد ، وكان في المجلس بعض الأعلام.
    فقلت : إنّ لفظة « إمّا » مركبة من « إن » و « ما » الزائدة ، وكأنّه سبحانه قال : إن يأتينّكم ... وهو فعل الشرط ، والجزاء قوله : فمن اتقى ، ولكنّها مجردان عن الدلالة على الزمان ( الحال والاستقبال ) ، لأنّ الآية سيقت لبيان أصل الملازمة بين الشرط والجزاء ، غير مقيّد بزمان دون زمان ، بمعنى أنّ سنّة اللّه جرت على انقاذ من أطاع رسله ، واتقى محارمه ، وأصلح حاله ، وانّ من كان حاله كذا ، فلا خوف عليه ولا حزن ، وهذه عادة اللّه في الاُمم السالفة والحاضرة والمستقبلة.
    وليس الخطاب مقيداً بزمان الحال حتى لا يعم الخطاب الاُمم السالفة ، ويختص بالاُمّة الحاضرة والتالية لها ويدل بالدلالة الالتزامية على مجيء الرسل في مستقبل الأيام بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، بل هو بيان لحكم قطعي جرت مشيئة اللّه عليه ، على وجه الاطلاق ، غير مقيّد بزمان.
    وإن شئت قلت : إنّ الهدف من الآية ليس الإخبار عن مجيء الرسل بعد رسول
    1 ـ عام 1379 هـ ق.

(177)
اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وإلاّ لكان اللازم أن يخرجها عن صورة الشرط ، ويلقيها على وجه الإخبار بل الهدف والذي سيق لأجله الكلام ، هو بيان الملازمة ، وأنّ السنّة جرت عليها في الأدوار كلّها ، من دون أن يكون بصدد الإخبار عن وقوع الشرط في زمان.
    وهذا كقول المعلم لتلاميذه : لا صلة ولا قرابة بيني وبين أحد منكم ، من جد في درسه واتقن كتابته وخرج عن عهدة التكاليف الواجبة عليه فهو الناجح ، يعني بذلك أنّ السنّة الجارية في المدرسة والكليات والجامعات هي هذه من غير فرق بين هذا الصف والصف الآخر ، وهذه المدرسة والمدرسة الاُخرى ، وهذا الزمان أو غيره من الأجيال السالفة والتالية.
    وأدل دليل على أنّ الآية ليست بصدد الإخبار عن مجيء رسل آخرين غير رسول اللّه هو استعمال كلمة « إن » الدالة على الشك والترديد في وقوع تاليها ، دون « إذا » الدالة على القطع واليقين ، فلو كان الهدف الإخبار عن مجيئهم لكان له الإخبار عن ذلك بكلمة تدلّ على القطع والجزم ، لأنّ الرسل ومجيئهم من مهمات الاُمور وعظائمها ، فلا يصح الإخبار عنه بهذه الجملة الدالة على الشك والترديد ، إلاّ إذا سيقت الآية لبيان الملازمة فقط ، لا الإخبار عن وقوع الشرط ولذلك ترى أنّه سبحانه يأتي في معرض الدلالة على الاُمور القطعية بعبارة مؤكدة كما في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِيَنا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِم الغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّة ) ( سبأ ـ 3 ).
    وقوله سبحانه : ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُود لاَ قِبَل لَهُم بِهَا ) ( النمل ـ 37 ).
    وحصيلة البحث أنَّ الآية بصدد بيان أنّ الفلاح والرشاد لمن يقتدي بهدى نبيّه ويقتفي أثره ولا يتخطى الخطوط التي يرسمها له رسوله في معاشه ومعاده سواء أكان الرسول رسول الإسلام أم غيره ، وليست ناظرة إلى بيان مجيء الرسل بعد عصر نزول الآية كما هو مرمى المستدل.
    ونظير المقام قوله : ( مَاكَانَ على النَّبِيِّ مِنْ حَرج فِيمَا َفَرَض اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ في الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً * الّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ


(178)
وُلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى ِباللّهِ حَسِيباً ) ( الأحزاب : 38 ـ 39 ).
    فإنّ قوله : ( الذين يبلّغون ) وإن كان بصيغة المضارع ، إلاّ أنّه مجرد عن الدلالة على الحال والاستقبال ، بدليل أنّه صفة لقوله سبحانه : ( الذين خلوا من قبل ) فلو كانت الدلالة على الزمان مقصودة لوجب أن يقال : الذين بلغوا رسالات اللّه ، تطبيقاً للوصف على الموصوف ، ولما كان المقصود قيام الرسل الذين خلوا من قبل بنفس أمر التبليغ من غير دلالة على زمان القيام واستمراره ، صح توصيفه بالمضارع.

نقل كلام عن العلمين :
    ثم إنّي وقفت بعد فترة من الزمان على سؤال وجّهه بعض الأجلّة (1) إلى العلمين الشيخ محمد جواد البلاغي (2) والسيد هبة الدين الشهرستاني (3) يسألهما عن تلك الشبهة الضئيلة ، وقد وافاه الجواب منهما ، وبعث السائل السؤال والجواب إلى مجلة العرفان (4) فنشرهما مدير المجلة على صفحاتها (5) فراقنا نقل الجوابين على وجه الاجمال ، لكون مضمونهما قريباً مما ذكرناه.
    قال العلاّمة البلاغي : لابد من بيان أمرين :
    الأوّل : إنّ تلك الطائفة لا يعرفون اللغة العربية وخواصها ، فإنّ الفعل المضارع غير مختص في المحاورات بالاستقبال ، بل يؤتى به منسلخاً عن خصوصيات الزمان للدلالة على الدوام والثبات كقولهم : زيد يكرم الضيف ، ويفك العاني ومن ذلك قول
    1 ـ العلامة الچرندابي المغفور له كان آية في التتبع ، وله أشواط بعيدة وخدمات ومواقف مشكورة.
    2 ـ كان علماً من أعلام الاُمّة وفطاحلها ، قد أفنى عمره في الذب عن حريم التوحيد والرسالة ، توفّي عام 1352.
    3 ـ نادرة الزمان ونابغة العراق ، توفّي في 25 من شهر شوال عام 1386.
    4 ـ مجلة علمية أدبية سياسية شيعية ، تصدر في مدينة صيدا ، من لبنان الجنوبي ، أسّسها الشيخ أحمد عارف الزين عام 1327 وهي لم تزل تصدر إلى الآن.
    5 ـ المجلد السادس والثلاثون ص 767 ـ 771.


(179)
اليشكري في المعلّقة :
يدهدون الرؤوس كما تدهدى مزاورة بأبطحها الكرينا
    وقوله أيضاً :
علينا البيض واليلب اليماني وأسباب يقمن وينحنينا
    وقوله سبحانه :
    ( لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ) ( سبأ ـ 3 ).
    الثاني : إنّ الجملة الشرطية كثيراً ما تجيء غير ناظرة إلى الزمان ، بل لمجرد ملازمة الجزاء للشرط وترتبه عليه في أي زمان وقع الشرط ، بمعنى أنّه لابد من وقوعه عند وقوع الشرط في أي زمان ، ومنه قول القائل :
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها والشر بالشر عند اللّه سيان
    ومن قوله سبحانه :
    ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَة خَيْ ـ راً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَة شَ ـ رّاً يَرَه ) ( الزلزلة 7 ـ 8 ).
    ومنه قول زهير في معلّقته :
ومن لم يصانع في اُمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
    ومثله قوله الآخر :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
    إذا تقرر هذا : فلا خفاء في أنّ حاصل الآية : أنّه مهما آتى بني آدم رسل ، يعني رسل حق ، يأتون بآيات اللّه ووحيه ويقصّونها في التبليغ ، فمن اتقى حسب ما جاء في الآيات ولم يعص اللّه بالمخالفة به وأصلح وجعل أعماله صالحة ، فلا خوف عليهم ولا يحزنون.


(180)
    فجيء بالشرط بصيغة المضارع ، للدلالة على ثبوت الاتيان بتكرره ، بحسب الحكمة ، وأنّ الجزاء لازم لهذا الشرط ، دون نظر إلى الزمان الخاص ، والواقعة الخاصة ، وليس نظره إلى خصوص الزمان الماضي ولا خصوص المستقبل. لكن القرآن الكريم بين أنّ هذا الشرط لا يقع في المستقبل وذلك بقوله سبحانه : ( ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين ) ، فكان هذا البيان من المحكمات التي هي اُم الكتاب.
    قال العلامة الشهرستاني : « إما » لفظة مركبة من « إن » الشرطية ، و « ما » الكافة عن العمل ، وعليه كفت المضارع عن الجزم ، وقرنته بنون التأكيد الثقيلة وجردته عن الدلالة على زمان خاص بالحال والاستقبال ، كما أنّ الصيغ التالية لها ( فمن اتقى وأصلح ) ، ( والذين كذّبوا ) تجردت أجمع عن الدلالة الخاصة بالماضي والمفهوم من المجموع قضية طبيعية عامة السير في الاُمم ، وهي توجه رسل الهداية إلى أقوام البشر لغاية الوعظ والانذار بآيات اللّه وبيّناته.
    وإن شئت قلت : انّ الغاية في الآية عبرة الانسان بتاريخ الانسان ، حتى يترك اغتراره بالحال الحاضر ، وهذا لا يكون إلاّ من درس تاريخ السلف ، ولا معنى للعبر بالمستقبل. نعم المعتبرون هم الجيل الحاضر والمستقبل ، ولكن المعتبر به حال السلف والحوادث النافعة ، وأمّا مادة الوعظ ، أي المعتبر به ، هي القصص الماضية ( دون سواها ) ورسلها ورسالاتها وعواقب أمرها ومعرفة مصير المتقين ومصير المكذّبين.
    فبأي لفظة من الآية يستدل هؤلاء على صحة الرسالة من بعد محمد المصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ! أبلفظ « يأتينّكم » وقد تبيّن أنّها تجردت عن اختصاصها بالحال والاستقبال ، كما تجردت لفظة أتقى وأصلح ، عن الاختصاص بالماضي.
    أم يستدلون بلف ـ ظة « الرسل » وقد تبيّن أنّهم وقصصهم وآياتهم ذكرت في الآية ، لغاية الموعظة والعبرة ، ومثله لابد وأن يكون من الجيل الماضي إذ لا معنى للعبرة من المستقبل.
    أم بلفظة « يا بني آدم » وانّه خطاب للجيل الحاضر أو المستقبل ، نعم انّ
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس