مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 201 ـ 210
(201)
    وينص أيضاً على أنّ المؤمنين باللّه واليوم الآخر من جميع أهل الشرائع سينالون ثواب اللّه ، وأنّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
    فماذا يعني ذلك؟
    هل ذلك اعتراف من الإسلام بشريعة تلك الشرائع ، والسماح لها بالاستمرار إلى جانبه أو لا؟
    إذا كان الإسلام آخر شريعة في مسلسل الشرائع السماوية ، وكانت رسالته خاتمة الرسالات ، وناسخة الأديان ، فلماذا يعتبر القرآن كل من يؤمن باللّه ، ويعمل صالحاً من أصحاب الديانات المسيحية أو اليهودية أو غيرهما مأجوراً عند اللّه ، وآمناً من عذابه؟!
    ألا يعني بهذا أنّ جميع الشرائع السماوية لا تزال تحتف ـ ظ بشرعيتها ، إلى جانب الإسلام ، وأنّ أتباعها ناجون شأنهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً ، وكأنّ شريعة جديدة لم تأت وكأنّ أمراً ما لم يقع؟ (1).
    قبل اعطاء الإجابة الصحيحة على هذا السؤال يتحتم علينا أوّلاً أن نستعرض سريعاً ما يذكر في هذا الشأن من الآيات وهي ثلاث :
    1 ـ ( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ) ( البقرة ـ 62 ).
    2 ـ ( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ والنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّه ِواليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ) ( المائدة ـ 69 ).
    3 ـ ( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا والذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنَّصَارَى والمَجُوسَ والذِينَ أَشْ ـ رَكُوا إنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ إنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَ ـ يْء شَهِيد ) ( الحج ـ 17 ).
    قد يقفز إلى الذهن في النظرة الاُولى أنّ القرآن يكرّس شرعية الشرائع المذكورة
    1 ـ قد شاع هذا النظر من جانب بعض المستشرقين.

(202)
ويعترف بحقها في أمان من عذاب اللّه ، وفي منجى من مؤاخذته ، بشرط أن يكونوا مؤمنين باللّه وباليوم الآخر ، وأن يقدموا على ربّهم بعمل صالح ويكون نتيجة ذلك أنّ فكرة نسخ الإسلام للشرائع ادعاء فارغ لا أساس له ولا واقع ما دام الإسلام يعتبر أنّ كل الطرق تؤدي إلى اللّه ، وانّه ليس من الضروري على أصحاب الشرائع الاُخرى أن يعتزلوا شرائعهم ، وينضمّوا إلى صفوف الإسلام والمسلمين.
    هذا هو ما نسمعه بين الحين والآخر من بعض الأفواه.
    غير أنّه يجب أن نعرف أوّلاً : أنّ الأساس السليم في تفسير آية ما ، ليس هو أن نتجاهل أخواتها من الآيات أوّلاً ، وملابسات النزول ثانياً ، ومقتضى السياق القرآني ثالثاً ، لأنّنا في هذه الحالة سنقع في تخبط عريض لا أوّل له ولا آخر.
    ثم إنّ علينا ـ قبل كل شيء ـ أن نلاحظ سيرة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مع أصحاب الشرائع هل كان يأمرهم بالاعتزال عن دياناتهم ، والانضمام إلى صفوف المسلمين أو لا؟ فإذا كان الجواب في المقام ايجابياً لكان ذلك الأمر قرينة على أنّ المقصود من الآيات المذكورة غير ما يتبادر منها في بدء الأمر.
    وبعبارة واضحة : إذا كان الإسلام يعترف بشرعية الشرائع وحقها في الاستمرار والبقاء حتى بعد ظهور الإسلام ، فإنّ معنى ذلك هو أنّ الإسلام ينسف بنفسه مقوّمات وجوده ويعطل من ناحية اُخرى كل الاُسس الوجيهة التي قامت عليها دعوة الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قادة العالم آنذاك إلى شريعته ضمن رسائله ومكاتيبه المشهورة ، ويفند بالتالي دعوى الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بأنّه ( آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ) وأنّ رسالته خاتمة الرسالات !!!
    إنّ الرسائل الهامة التي وجهها الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى قادة وملوك زمانه وأيضاً جهاده المرير وجهاد المسلمين ضد أهل الكتاب سواء في عهده أو بعد ذلك ، مضافاً إلى مجموع ما وصل إلينا من تصريحات قادة الإسلام لدليل صارخ على أنّ الإسلام أعلن بظهوره ( نهاية ) عهد الشرائع بأسرها و ( بداية ) عهد جديد لا شريعة له سوى ( الإسلام ) ولا نبي له سوى ( محمد ) ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).


(203)
الحديث يبيّن هدف الآية :
    إنّ مفاد الآيات المذكورة ليس ـ في الواقع ـ سوى تقرير لحقيقة ثابتة ، وهي التي تتجلى ـ بوضوح ـ من خلال الآيات السابقة لهذه الآية من سورة البقرة.
    فالآيات إنّما تتحدث عن مصير الماضين من اتباع الشرائع في عهود الأنبياء السابقين قبل ظهور الإسلام ممّن آمن منهم باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً.
    فالقرآن يخبرنا بأنّ هؤلاء ناجون بسبب إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح والتزامهم بتعاليم شرائعهم دون من حاد عن طر يق الإيمان ولم يأت بعمل صالح وانحرف عن جادة التوحيد الخالص ، وهم الفرقة التي عبدت العجل مرة (1) وبلغ بها الوقاحة أن طلبت من موسى أن يريها اللّه (2) ذلك الطلب الوقح الذي صار سبباً لأن يحل غضب اللّه على بني اسرائيل.
    لقد أراد اللّه هنا أن يزيل الغموض أو الاشتباه حول مصير الفريق المؤمن من أهل الكتاب حتى لا يختلط أمرهم بأمر ذلك الفريق الكافر المعاند فأخبر بأنّ من آمن من أهل الكتاب باللّه عن اخلاص ، وآمن باليوم الآخر عن صدق وعمل صالحاً ، فإنّه لا خوف عليهم يوم القيامة ولا حزن ولا عقاب ، بل جنّة وثواب ورضوان من اللّه.
    في هذه الصورة يمكن اعتبار الآية مرتبطة بذلك الفريق المؤمن من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون في العصور الماضية السابقة على الإسلام دون أن يكون لها أي ارتباط بعصر الرسالة الإسلامية وما بعده.
    ونأتي بشأن نزول هذه الآية ليلقي ضوء أكثر على هذا الموضوع ، ويؤيّده تأييداً كاملاً.
    فهذا هو الطبري ينقل عن السدّي قوله : نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان
    1 ـ راجع البقرة الآيات : 51 ، 54 ، 92 ، 93 ، والنساء : 153 ، والأعراف : 152.
    2 ـ راجع البقرة : 55.


(204)
الفارسي حيث ذكر أصحابه للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال له نبي اللّه : هم من أهل النار ، فأنزل اللّه هذه الآية : ( إنَّ الذِينَ آمَنْوُا والذِينَ هَادُوا ... ) (1).
    في هذه الصورة لا تجد أي ارتباط للآية بزعم اُولئك الذين يدعون أنّ هذه الآية لا تعني سوى ( الوفاق الإسلامي المسيحي اليهودي ) ويزعمون أنّ الإسلام يقرّر في هذه الآيات ( أمان ) المعتنقين لغير الإسلام من عذاب اللّه وعقابه.
    هذا مضافاً إلى أنّنا لا نرى أي علاقة بين الآية الثالثة ( وهي الآية 17 من سورة الحج ) وبين ما يزعم هؤلاء .. حيث أنّ مفاد هذه الآية لا يعني سوى الإخبار بأنّ اللّه هو الحاكم بين الطوائف المختلفة ، يوم القيامة فهو الذي ينتقم من طائفة وينتصر لطائفة اُخرى ، وليس يعني ذلك مطلقاً أنّ أصحاب الشرائع الاُخرى على حق ، وأنّهم ناجون يوم الحساب!

جواب آخر :
    ولنا ـ هنا ـ إجابة ثانية على السؤال المطروح ، ولكن قبل أن ندخل في صميم هذه الاجابة نرى من الضروري أن نشير إلى بعض هذه الاُمور :

فكرة الشعب المختار :
    التاريخ يحدثنا أنّ اليهود والنصارى كانوا كثيراً ما يستعلون على المسلمين بل العالم بادعاء فكرة ( الشعب المختار ) ، فكل واحدة من هاتين الطائفتين : اليهود والنصارى ، كانت تدّعي أنّها أرقى أنواع البشر !!
    وكانت اليهود خاصة أكثر تمسكاً بهذا الزعم ، حتى أنّهم كانوا يدّعون أنّهم ( شعب اللّه المختار ).
    1 ـ تفسير الطبري ج1 ص 256 ، والحديث طويل وقد أخذنا موضع الحاجة منه ، والظاهر أنّه منقول بالمعنى وفي بعض عباراته خلل.

(205)
    وقد ذكر القرآن في إحدى آياته هذا الزعم الباطل ، وذكر أنّ النصارى هم أيضاً يدّعون هذا الإدّعاء الفارغ عندما يقول :
    ( وَقَالَتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى نَحْنُ أَبْناؤُا اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُم بَشَ ـ رٌ ممَِّنْ خَلَقَ ) ( المائدة ـ 18 ).
    والقرآن جاء يفنّد هذا الزعم بكل قوّة عندما يقول : ( فَلِمَ يعذبكم بذنوبكم ) وقد بلغت أنانية اليهود ، واستعلائهم الزائف حداً بالغاً ، وكأنّهم قد أخذوا على اللّه عهداً بأن يستخلصهم ، ويختارهم حيث قالوا :
    ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيّامَاً مَعْدُودة ) ( البقرة ـ 80 ).
    ولكن القرآن نسف بقوة هذا الزعم حيث قال في شكل إستفهام انكاري :
    ( قُلْ أتَّخذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون ) ( البقرة ـ 80 ).
    هكذا نستكشف من خلال هذه المزاعم وردودها أنّ اليهود كانوا يعدّون أنفسهم صفوة البشرية ونخبة الشعوب وكانوا يحاولون بمثل هذه المزاعم فرض كيانهم على العالم كأرقى نوع بشري انتخبه اللّه على سائر البشر ، حتى كأنّهم أبناء اللّه المدلّلون.

2 ـ الأسماء لا تنقذ انساناً :
    إنّ اليهود والنصارى كما كانوا يحاولون الاستعلاء الباطل عن طريق بث ( فكرة الشعب المختار ) كانوا من ناحية ثانية يعتبرون الأسماء ، أو الانتساب إلى اليهودية والمسيحية سبباً آخر من أسباب التفوّق في الدنيا ، والنجاة في الآخرة والفوز بالثواب الجزيل.
    فقد كان في تصورهم أنّ الجنّة هي نصيب كل من ينتسب إلى بني اسرائيل أو يسمّى مسيحياً ليس إلاّ ، وكأنّه بإمكان الأسماء أو الانتساب أن تصبح يوماً ما سبيلاً إلى


(206)
الهداية ، أو مفاتيح للجنّة!!
    ولكن هذا الزعم ـ على رغم سخافته ـ اُمنية لهم كسائر أمانيهم كما يحدثنا القرآن :
    ( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارى ) ( البقرة ـ 111 ).
    غير أنّ القرآن كان بالمرصاد لهذه الدعاوي الباطلة أيضاً ، عندما ذكر بأنّ الوسيلة الوحيدة لامتلاك الجنّة العريضة هي : ( الإيمان الصادق ) و ( العمل الصالح ) وليست الأسماء ، أو مجرد الانتساب إلى عقيدة سماوية مهما كانت. فقال :
    ( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ) ( البقرة : 111 ـ 112 ).
    ولا شك أنّه واضح جداً أنّ جملة ( بلى من أسلم ) إنّما تعني الإيمان الخالص والتسليم الصادق للّه ، وجملة ( وهو محسن ) إنّما تعني العمل وفق ذلك الإيمان أي العمل بالشريعة التي يؤمن الشخص بها ، وكلتا الجملتين تدلاّن على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة إنّما هو : الإيمان والعمل ، وليس اسم اليهودي أو النصراني فليست المسألة مسألة أسماء وإنّما هي مسألة إيمان صادق ، وعمل صالح.

3 ـ ليست الهداية في اعتناق اليهودية والمسيحية :
    يشير القرآن ـ أيضاً ـ إلى دعوى اُخرى لهم باطلة كأخواتها ، فارغة كمثيلاتها وهي قولهم بأنّ الهدى الحقيقي إنّما هو في اعتناق اليهودية أو المسيحية !!
    ( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارى تَهْتَدُوا ) ( البقرة ـ 135 ).
    ولكنّ القرآن يرد ـ أيضاً ـ هذا الزعم الواهي بقوله :
    ( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبراهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِين ) ( البقرة ـ 135 ).
    فالهدى الحقيقي هو في الاقتداء بملّة إبراهيم واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة.


(207)
    وفي آيات اُخرى في القرآن نجد كيف أنّ اليهود والنصارى حاولوا اضفاء طابع اليهوديةوالمسيحية على إبراهيم ، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهم ويضفوا الشرعية على مسلكهم ، غير أنّ القرآن مضى يفنّد ـ بكل قاطعية وعنف ـ هذه الاكذوبة بقوله :
    ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِين ) ( آل عمران ـ 67 ).
    نستخلص من كل هذه الآيات كيف أنّ اليهود والمسيحيين والقدامى منهم خاصة كانوا يحاولون ـ بهذه الأفكار الواهية ـ التفوّق على البشر ، والتمرّد على تعاليم اللّه ، والتخلص بصورة خاصة من الإنضواء تحت لواء الإسلام ، مرة بافتعال اكذوبة ( الشعب المختار ) الذي لا ينبغي أن يخضع لأي تكليف ، ومرة اُخرى بافتعال خرافة ( الأسماء والانتساب ) وادعاء النجاة بسبب ذلك والحصول على مغفرة اللّه وجنّته وثوابه. ومرة ثالثة بتخصيص ( الهداية ) وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنّه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكل صراحة وتأكيد : أنّه لا فرق بين انسان وانسان إلاّ بتقوى اللّه فإنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم..
    وأمّا النجاة والجنّة فمن نصيب من يؤمن باللّه ، ويعمل بأوامره دونما نقصان لا غير ، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.
    بهذا البحث حول الآيات الثلاث ( المذكورة في مطلع البحث ) نكتشف بطلان الرأي القائل بأنّ الإسلام أقر ـ في هذه الآيات ـ مبدأ ( الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي ) تمهيداً لإنكار عالمية الرسالة الإسلامية ، بينما نجد أنّ غاية ما يتوخّاه القرآن ـ في هذه الآيات ـ إنّما هو فقط نسف وإبطال اليهود والنصارى وليعلن مكانه بأنّ النجاة إنّما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح.
    فلا استعلاء ، ولا تفوّق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً ، كما أنّ هذا التشبّث الفارغ بالأسماء والدعاوي ليس إلاّ من نتائج العناد والاستكبار عن الحق.


(208)
    فليست الأسماء ، ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر ، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وهذا الباب مفتوح على وجه كل انسان يهودياً كان أو نصرانياً مجوسياً أو غيرهم.
    ويوضح المراد من هذه الآية قوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَبِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا َعْنُهْم َسِيئاِتِهم َولاَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم ) ( المائدة ـ 65 ).
    فتصرّح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافة من غير فرق بين جماعة دون جماعة حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم.
    هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات ، وليس أي شيء آخر.
    إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاثة على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره.. وإنّما تدل على أنّ القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.
    يبقى أن تعرف أنّ هنا آيات اُخرى تؤيد بصراحة ما ذهبنا إليه من انحصار النجاة في الإيمان والعمل ، وذلك كسورة ( والعصر ) :
    ( وَالعَصْرِ * إنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خسُرْ * إِلاَّ الذِينَ آمَنَوا وَعَمِلُوا الصلحتِ وَتَواصَوْا بِالحقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِِ ) ( العصر : 1 ـ 3 ).
    كما أنّ تكرار كلمة ( الإيمان ) في الآيات الثلاث تأكيداً آخر لما قلناه حيث قال في مطلع الآيات : ( إنّ الذين آمنوا ) ثم قال : ( ... من آمن باللّه ) وهو يقصد بمن ( آمنوا ) الاُولى ، الذين اعتنقوا الإسلام في الظاهر ، دون أن يتسرب الإيمان إلى قلوبهم ، وينعكس على تصرفاتهم ، ويقصد ب ـ من ( آمن ) الثانية الإيمان الصادق المقرون بالعمل.
    وبعبارة اُخرى : انّ المراد من قوله : ( انّ الذين آمنوا ) هم المسلمون لوقوعه في مقابل اليهود والنصارى ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً


(209)
لِلذِينَ آمَنُوا اليَهُود ) ( المائدة : 82 ) فقد جعل لفظ « آمنوا » في مقابل اليهود.
    وحينئذ فالمراد من قوله : ( آمنوا ) في صدر الآية هو من أظهر الإيمان باللّه ورسالة رسوله محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كما أنّ المراد من قوله : ( من يؤمن ) هو الإيمان الحقيقي الراسخ في القلب.
    ونظيره قوله سبحانه : ( يا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ) ( النساء ـ 136 ).
    ثمّ إنّي بعد ما كتبت هذا وقفت على ما كتبه الكاتب الإسلامي أبو الأعلى المودودي حول الآية ، وكان متقارباً لما قلناه ، وحررناه ، ولأجل اتمام الفائدة نأتي بإجمال ما كتبه :
    والحقيقة انّ هذا التحريف قد اسدى إلى روح الضلالة خدمة كان قد عجز عن مثلها أكابر أئمّة الضلال والكفر على بعد نظرهم ، ومكرهم في التضليل ، إذ هو يزوّد ـ في جانب ـ غير المسلمين بدليل من القرآن نفسه على عدم احتياجهم إلى قبول الحق ، ويأخذ ـ في جانب آخر ـ بيد المنافقين والدخلاء على الجماعة الإسلامية من الذين يتلملمون دائماً للتنصل من قيود الإسلام وحدوده حتى ينالوا الرخصة بلسان القرآن نفسه في ازالة الحاجز القائم بين الكفر والإسلام ، ويزلزل ـ في الجانب الثالث ـ إيمان المؤمنين المتّبعين للقرآن والسنّة في داخل الجماعة الإسلامية حتى ليساورهم الشك بأنّ الانسان ما دام من الممكن له أن يستحق النجاة ولو بانكار القرآن والسنّة النبوية وبغير حاجة إلى الإيمان بكتاب ولا برسالة ، فمن العبث أن يتقيّد بحدود الإسلام إذ لا فرق ـ البتة ـ بين كونه مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً أو صابئياً أو هندوكياً أو غيره.
    ثم شرع الكاتب في تفسير جمل الآية وقال :
    إنّ المرادب ـ : ( الذين آمنوا ) هم طائفة أهل الإسلام وإنّ المراد من : ( من آمن باللّه واليوم الآخر ) اُولئك الذين هم متصفون في حقيقة الأمر بصفة الإيمان الصحيح الكامل.
    والمراد من : ( والذين هادوا والنصارى ... ) اُولئك الذين يعدون من طوائف


(210)
اليهود والنصارى ، وليس المراد بهم ، اُولئك الذين اختاروا عقيدة اليهود ، وانتهجوا نهجهم في حقيقة الأمر ، أو الذين يعتقدون النصرانية في واقع الأمر حسب ما ذكر في جملة : ( انّ الذين آمنوا ) .
    ثمّ أفاد في رفع الستار عن هدف الآية ، وقال :
    إنّ التصورات الطائفية التي كانت شائعة في عهد نزول القرآن هي بعينها شائعة في العصر الحاضر أيضاً.
    فلهذا لا يصعب علينا أن ندرك أنّ القرآن إنّما يفرّق في هذه الآية بين الذين هم مؤمنون لمجرد انتسابهم إلى طائفة أهل الإيمان وبين الذين هم مؤمنون واقعيون متصفون بصفة الإيمان ، ومتمثّلون لحقيقته في الواقع.
    فكما أنّنا نشاهد في هذا الزمان أنّ الدنيا تميّز بين الأفراد من وجهة الطائفية فيقال لرجل : مؤمن ، أو مسلم ، لمجرد أنّه من جماعة المسلمين على حسب انقسام أفراد البشرية بين مختلف الجماعات بصرف النظر عمّا إذا كان هو مسلماً في واقع الأمر أم لا ، ويقال لفرد من اليهود والنصارى والبوذيين : يهودي أو نصراني أو بوذي ، باعتبار انتسابه إلى ديانة من تلك الديانات و بصرف النظر عمّا إذا كان مؤمناً بمبادئ طائفته في واقع الأمر أم لا ، كذلك كان النوع البشري في عهد نزول القرآن موزّعاً بين عدد من الطوائف على حسب الظواهر بدون اعتبار الواقع ، فكان يميّز بين مختلف الأشخاص والجماعات باعتبار أنّ فلاناً من جماعة محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وفلاناً من طائفة اليهود ، وفلان من طائفة النصارى وهلمّ جرا.
    ومن هنا كان المنافقون يعدّون من جماعة المسلمين ـ الذين آمنوا ـ مع أنّهم لم يكونوا مسلمين في حقيقة الأمر.
    والحقيقة انّ اللّه سبحانه وتعالى يريد بهذا الجزء من الآية أن يفنّد الفكرة السائدة عند الناس عامة وهي أنّ الناس سيحشرون في الآخرة بموجب التصنيف الطائفي ، وباعتبار أنسابهم وأسمائهم الصورية في الدنيا ، فيعتقد اليهودي أنّ النجاة خالصة لمن
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس