مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 211 ـ 220
(211)
هو معدود في طائفة اليهود دون سائر الناس ، ويظن النصراني أنّ الدخول في النصرانية دخول في أهل الحق ، وكل من هو خارج عن هذه الدائرة يكون على الباطل ، وكذلك قد بدأ المسلمون يظنون أنّ من هو داخل في جماعتهم على اعتبار اسمه واسرته ومولده فهو مسلم وله الشرف والفضيلة على كل من ليس بداخل في جماعتهم بموجب تلك الاعتبارات.
    فتفنيداً لهذه الفكرة الخاطئة يقول سبحانه وتعالى إنّ الفرق الحقيقي بين الانسان والانسان ليس على حسب الطائفية الظاهرية ، بل الذي عليه المدار هو الإيمان والعمل الصالح ، وليس كل من تسمّى بأسماء المسلمين مع خلوّه من الإيمان وابتعاده عن العمل الصالح بالمؤمن في واقع الأمر ، ولن يكون في عاقبته مثل المؤمنين الحقيقيين ، وكذلك ليس كل من ينتسب إلى اليهودية والنصرانية أو الصابئة يهودياً أو نصرانياً أو صابئاً إذا كان متجرداً من هذه الصفات. فكما أنّ الاعتداد في جماعة المسلمين لا يغني عن الانسان شيئاً كذلك اعتباره من اليهود و النصارى والصابئيين لا يرجع عليه بالفائدة في الآخرة.
    ثمّ إنّه بعد ما ذكر بعض ما قدمنا من الآيات من مزاعم اليهود والنصارى من كون الجنّة مختصة بهم ، أو أنّ النار لا تمسّهم إلاّ أياماً معدودة ، أو أنّهم أبناء اللّه واحباؤه ، قال إنّ كل هذه الآيات إنّما تكشف عن حقيقة بعينها هي أنّ اللّه عزّ وجلّ ليست عليه دالّة لطائفة في الأرض ، ولا أنّ طائفة خاصة مستأثرة بالنجاة عنده ، فليس من حق أحد من الناس أن يعامل بصفة خاصة بناء على أنّه ولد في اُمّة معيّنة أو ينتمي إلى جماعة خاصة ، بل الجميع من حيث هم أفراد الجنس البشري ، لا فرق بينهم البتة في نظر اللّه ، لأنّ الاعتبار الحقيقي عند اللّه ما هو الانتسابات أو القوميات ، بل هو للمبادئ والحقائق فإن آمنتم بصدق قلوبكم وعملتم الصالحات نلتم جزاءً حسناً عند اللّه ، وإن بقيتم على غير شيء من الإيمان والعمل الصالح فلا شيء ينقذكم من العقاب والعذاب الأليم ، ولو إلى أي طائفة أو جنس كنتم تنتسبون ، واللّه تعالى قد صرّح بهذه الحقيقة في موضع آخر من كتابه حيث يقول ـ مخاطباً المسلمين ـ : ( لَيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلاَ أَمَانِّيِ أَهْلِ الكِتتَبِ


(212)
مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَر أَوْ اُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُولئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) ( النساء123 ـ 124 ) (1).
    وأنت إذا لاحظت ما ذكره المؤلّف وما قد حررناه من قبل تجد الجوابين متوافقي المضمون ، متشاكلي المعنى.
    وإذا وقفت على هدف الآية ومرماه فلندخل في صميم الإجابة الثانية حتى نثبت أنّها لا تمتّ بصلة إلى مدّعى القائل ، إذ الآية تسوقنا إلى أنّ الاعتبار في النجاة هي ( الحقائق والمسمّيات والمعاني ) دون الصور والأسماء والقشور.
    وأمّا ما هو حقيقة الإيمان باللّه وما هو شرطه ، وما المقصود في العمل الصالح وكيف يتقبل.
    فالآية ساكتة عن بيانها ومنصرفة عن توضيحها ، وإنّما تطلب هذه الشروط والقيود من سائر الآيات ولأجل ذلك يجب أن ينضم إلى الآية سائر ما ورد من الآيات الورادة في باب الإيمان باللّه والإتيان بالعمل الصالح حتى نقف على مرمى القرآن.
    فنقول : ليس معنى الإيمان باللّه أن يقر الانسان بوجود اللّه ، ويعترف بوحدانيته بل المراد هو التسليم للّه ، كما في قوله سبحانه :
    ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ) ( البقرة ـ 112 ).
    وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان باللّه لا ينفك عن الإيمان بأنبيائه ورسله حيث قال سبحانه :
    ( قُولُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا اُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا اُنزِلَ إلى إِبرهِيم وإِسْم ـ عِيلَ وَإِسْحَق وَيَعْقُوبَ
    1 ـ الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة طبعة دار القلم ص 190 ـ 196 وهو من أنفع كتب المؤلّف غير أنّه يعتمد في المسائل الفقهية على رأي كلّ صحابي أو تابعي ، وينقل آراء أصحاب المذاهب الأربعة ولا ينقل رأي واحد من أئمة أهل البيت غير الإمام علي بن أبي طالب ( عليها السَّلام ).

(213)
وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيَسى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون ) ( البقرة ـ 136 ).
    كما دلّت على أنّ الإيمان بأنبيائه ورسله لا تنفك عن الإيمان بنبّيه الخاتم حيث قال سبحانه : ( فَإِنْ آمَنْوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ في شِقَاق ) ( البقرة ـ 137 ).
    والقرآن يعترف بأنّ تكفير نبي واحد تكفير بجميع الأنبياء بل تكفير باللّه سبحانه كما قال تعالى : ( إِنَّ الذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَكْفُرُ بِبَعْض وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * اُولئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقّاً ) ( النساء : 150 ـ 151 ).
    كيف وقد عدّ الإيمان بنبيّه الخاتم من أركان الإيمان وقال :
    ( إِنَّما ال ـ مُؤْمِنَونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) ( النور ـ 62 ).
    وقال تعالى : ( إِنَّما ال ـ مُؤْمِنَونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأُمْوَالِهمْ وأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللّهِ اُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُون ) ( الحجرات ـ 15 ).
    وليس المراد من الإيمان بالرسول هو الاعتراف بعظمة الرسل وجلالة مكانتهم بل المراد هو الطاعة العملية حيث قال سبحانه :
    ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُول إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( النساء ـ 64 ).
    وقال سبحانه :
    ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنيِنَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) ( النساء ـ 115 ).
    وقال سبحانه :
    ( وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةْ مِن أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) ( الأحزاب ـ 36 ).


(214)
    إلى غير ذلك من الآيات الواردة في شأن الأنبياء وخصوص شأن الرسول الأكرم.
    وعلى ذلك فالإيمان باللّه الذي تعتبره الآية وسيلة للنجاة لا ينفك عن الإيمان برسله وكتبه ، وعن الإيمان برسوله الخاتم ، ولا ينفك الإيمان بهم وبه عن الإيمان بطاعته ، وامتثال أوامره والانزجار عن نواهيه ، ولا يتم ذلك إلاّ بالعمل بالقرآن وشريعته وأوامره وزواجره ، سننه وفرائضه وليس يراد من المسلم إلاّ ذاك ، ولا تخالف بين الآية وغيرها من الآيات في الهدف والمرمى.
    نعم كل من أراد أن يستخرج من الآية ما هو كفاية رسوخ اليهودي في يهوديته والنصراني في نصرانيته.. فقد غضّ بصره عن سائر الآيات شأن كل من يختار مذهباً أوّلاً ثمّ يرجع إلى القرآن حتى يجد له دليلاً ثانياً.
    إنّ اللّه يأمر نبيّه أن يعلن ويقول :
    ( وأَنّ هَذَا صِ ـ راطِي مُستَقِيما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاُكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ) ( الأنعام ـ 153 ).
    وعندئذ لا يمكن له أن يعترف بصحة الطرق المختلفة الاُخرى وأنّها أيضاً طرق مستقيمة.

خاتمة المطاف :
    بقيت هنا كلمة وهي أنّه ربّما يستدل (1) على الخاتمية بمثل قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) ( سبأ ـ 28 ).
    وقوله سبحانه : ( يا أَيهُّا النَّاسُ إِنيّ رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) ( الأعراف ـ 158 ) والاُولى الاستدلال بها على عالمية الرسالة الإسلامية لا خاتميتها.
    وما ربّما يقال : بأنّ الناس ربّما يطلق ويراد منه جماعة من الناس مثل قوله سبحانه
    1 ـ اللوامع الالهية ص 225.

(215)
    في قصة موسى وفرعون : ( وَقيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُجْتَمِعُون ) ( الشعراء ـ 39 ).
    وقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) ( الفتح ـ 20 ).
    والمقصود من الناس هم المشركون خاصة وعلى ذلك فليست هذه الآية ونظائرها دالة على سعة رسالته فضلاً عن خاتميتها.
    والجواب عن الشبهة واضح وذلك لأنّ استعمال كلمة ( الناس ) في الجماعة الخاصة في الآيات المتقدمة إنّما هو لوجود القرائن الحافة بالكلام ولولاها لما صح استعمال الكلمة التي وضعت للعموم في جماعة خاصة.
    هذه شبهات الخاتمية التي اختلقها القوم ولم تكن إلاّ شبهات سوفسطائية أو أشواكاً في طريق الحقيقة ، وبقيت شبهات ضئيلة اُخرى للقوم ، أرى التعرّض لها ضياعاً للوقت الثمين.
    أجل هناك أسئلة حول الخاتمية جديرة بالبحث والتحليل ، فلا بد من التعرض لها وما يمكن أن يجاب به حولها ، ولأجل ذلك عقدنا الف ـ صل التالي وهو من الفصول المفيدة جداً.


(216)

(217)
الفصل الرابع
أسئلة
حول الخاتمية
    أنّ من شيم العصر الإلحادي الحاضر ، كثرة السؤال والتشكيك في كل شيء ، خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد ، والمعارف الغيبية أي المسائل الراجعة إلى ما وراء الطبيعة ، ولم تسلم مسألة خاتمية الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من هذه التشكيكات ، فقد كثر السؤال وطال الحوار والنقاش حولها ، ونحن نذكر تلكم الأسئلة الدارجة في الأذهان والأفهام ونعترف بأنّ بعضها أو كثيراً منها جدير بالبحث والتمحيص أكثر ، مما بحثنا عنه.

السؤال الأول :
    وحاصله : هب أنّه ختمت النبوّة التشريعية ، فلماذا ختمت التبليغية منها؟
    توضيحه : أنّ النبي إذا بعث بشريعة جديدة وجاء بكتاب جديد ، فالنبوّة تشريعية وأمّا إذا بعث لغاية الدعوة والإرشاد إلى أحكام وقوانين سنّها اللّه سبحانه على لسان نبيه المتقدم ، فالنبوّة تبليغية.


(218)
    والقسم الأوّل من الرسل ، قد أنحصر في خمسة ، ذكرت أسماؤهم في القرآن والنصوص المأثورة ، أمّا الأكثرية منهم ، فكانوا من القسم الثاني وقد بعثوا لترويج الدين النازل على أحد هؤلاء فكانت نبوّتهم تبليغية (1).
    حينئذ فقد يسأل سائل ويقول : هب أنّ نبي الإسلام جاء بأكمل الشرائع وأتمها وأجمعها للصلاح وجاء بكل ما يحتاج إليه الإنسان ، في معاشه ومعاده ، إلى يوم القيامة ولم يبق لمصلح رأي ولمفكّر نظر ، في اُصول الإصلاح واُسسه ، لأنّ نبينا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد أتى بصحيح الرأي وأتقنه وأصلحه في كافة شؤون الحياة ومجالاتها ولأجل ذلك الإكتمال اُوصد باب النبوّة التشريعية.
    ولكن لماذا اُوصد باب النبوّة التبليغية التي منحها اللّه للاُمم السالفة فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام لا تستغني عمّن يقوم بنشرها وجلائها وتجديدها ، لكي لا تندرس ويتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأسلوب صحيح ، فلماذا أوصد اللّه هذا الباب بعد ما كان مفتوحاً في وجه الاُمم الماضية ، ولماذا منح اللّه سبحانه هذه النعمة على السالف من الاُمم وبعث فيهم أنبياء مبلغين ومنذرين وحرم الخلف الصالح من الاُمم منها؟.
     الجواب :
    أنّ انفتاح باب النبوّة التبليغية في وجه الاُمم السالفة وإيصاده بعد نبي الإسلام ليس معناه أنّ الاُمم السالفة استحقت هذ النعمة المعنوية ، لفضيلة تفردت بها ، دون الخلف الصالح من الاُمم ، أو أنّ الاُمّة الإسلامية حرّمت لكونّها أقل شأناً وأهون مكانة من الاُمم الخالية ـ كلا ـ بل الوجه أنّ الاُمم السالفة كانت محتاجة إليها دون الاُمّة الإسلامية ، فهي في غنى عن أي نبي مبلغ يروج شريعة نبي الإسلام.
    وذلك أنّ المجتمعات تتتفاوت إدراكاً ورشداً ، فربّ مجتمع يكون في تخلقه كالفرد
    1 ـ الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية هي كلمة « التبشير » ولكن كلمة « التبليغ » أولى وأليق بهذا المعنى ، فهي مقتبسة من القرآن ، ومدلولها اللغوي منطبق على المقصود كل الانطباق.

(219)
القاصر ، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه كالطفل الذي يمزق كتابه ودفتره غير شاعر بقيمته.
    وربّ مجتمع بلغ من القيم الفكريّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة ، شأواً بعيداً يحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره استثماراً جيداً فهو عند ذاك غني عن كل مروج يروج دينه ، أو مبلغ يذكر منسيه أو مرب يرشده إلى القيم الأخلاقية ، أو معلم يعلمه معالم دينه ويوضح له ما أشكل من كتابه ، إلى غير ذلك من الشؤون ، فأفراد الاُمّة السالفة كانوا كالقصر ، غير بالغين في العقلية الاجتماعية فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي بكتابه بتحريفهم له وتأويله بما يتوافق مع أهوائهم ومشاربهم ، ولذا كان يحل بالشريعة ، إندراس بعد مضي القرون والأجيال ويستولي عليها الصدأ بعد حقبة من الزمان.
    لهذا ولذلك كان على المولى سبحانه أن يبعث فيهم نبياً ، جيلاً بعد جيل ، ليذكرهم بدينهم الذي إرتضاه اللّه لهم ، ويجدد شريعة من قبله ويروج قوله وفعله ويزيل ما علق بها من شوائب بسبب أهواء الناس وتحريفاتهم. وأمّا المجتمع البشري بعد بعثة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولحوقه بالرفيق الأعلى ، فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتح العقلي والرشد الاجتماعي شأواً يتمكن معه من حفظ تراث نبيه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى تصنيف أنواع التآليف في أحكامه وتفسيره وبلاغته ومفرداته وإعرابه وقرائته فإزدهرت تحت راية القرآن ضروب من العلوم والفنون.
    فلأجل ذلك الرشد الفكري في المجتمع البشري ، جعلت وظيفة التبليغ والإنذار ، على كاهل نفس الاُمّة حتى تبوأت وظيفة الرسل من التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد على طول الزمان يبلغ رسالة من قبله.
    فإذا قدرت الاُمّة على حفظ ما ورثته عن نبيها ، ونشره بين الناس في الآفاق ، ومحو كل مطمع فيه وهدم كل خرافة تحدثها يد التحريف ، استغنت طبعاً عن قائم بهذا الأمر


(220)
سوى نفسها.
    لقد ظهرت طلائع هذا التفويض من أوّل سورة نزلت على النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حيث خاطبه اللّه سبحانه ، في اليوم الذي بعثه رسولاً إلى الناس وهادياً لهم بقوله : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسن من علق * اقرأ وربّك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسن ما لم يعلم ) ( العلق : 1 ـ 5 ).
    وهذا الخطاب يؤذن بأن دينه ، دين التلاوة والقرائة ، دين العلم والتعليم ، دين القلم والتحرير ، وأنّ هذا الدين سوف يربي اُمة مفكرة ، متحضرة ، عالمة بقيمة التراث الذي يصل إليها ، قادرة على حفظ هذا الدين في ضوء العلم والفكر ، مستعدة لنشر تعاليمه في أقطار العالم وأرجاء الدنيا ، بأساليب صحيحة.
    وقد بلغت عناية الإسلام بالقلم والكتابة ، إلى حد أن أقسم سبحانه : ( بالقلم وما يسطرون ) وأنزل سورة باسمه ، تمجيداً له وحثاً للاُمة على تقديره والعناية به ، ليكون رائداً للتقدم والحضارة والمعرفة ، ويصير أحسن ذريعة إلى حفظ التراث بلا حاجة إلى مبلغ سماوي.
    ثم أنّه سبحانه ، صرح بهذا التفويض أي تفويض أمر التبليغ إلى نفس الاُمّة في غير موضع من كتابه ، منها قوله سبحانه : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، لعلهم يحذرون ) ( التوبة ـ 122 ).
    ومنها قوله سبحانه : ( ولتكن منكم اُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ( آل عمران ـ 104 ).
    ومنها قوله سبحانه : ( كنتم خير اُمة اُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ) ( آل عمران ـ 110 ).
    وفي السنن والأحاديث تصاريح بذلك ، نكتفي بما يلي :
    قال الباقر ( عليها السَّلام ) : « أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، وفريضة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب وترد
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس