مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 221 ـ 230
(221)
المظالم ، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر » (1).
    ولعل في قوله ( عليها السَّلام ) : « سبيل الأنبياء » إشارة إلى أنّ هذا الأمر موكول إلى الاُمّة بعد انقطاع الوحي وإيصاد باب النبوّة.
    وقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إذا ظهرت البدع ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (2).
    ثمّ أنّ هناك جواباً آخر ، ربّما يكون ملائماً لاُصول الشيعة الإمامية في مسئلة الإمامة والخلافة ولأجل إيقاف القارئ الكريم عليه نأتي به إجمالاً ولا يعلم إلاّ بالوقوف على معنى الإمامة لدى الشيعة ودور أهل البيت في إكمال الدين.

دور أهل البيت في إكمال الدين وختم الرسالة :
    أنّ للشيعة الإمامية نظراً خاصاً في كيفية استغناء الاُمّة الإسلامية عن ضرورة استمرارية النبوّة وتواصلها بعد لحوق النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالرفيق الأعلى ، وعمدة ذلك هو ثبوت نظرية الإمامة التي تتبناها الشيعة الإمامية في باب الولاية الإلهية والخلافة بعد رسول اللّه.
    فالإمامة عندهم عبارة عن الولاية الإلهية العامة على الخلق فيما يختص بشؤونهم الدينية والدنيوية وهي مستمرة بعد قبض النبي الأعظم ، لم يوصد بابها بل أنّه مفتوح إلى أن يشاء اللّه إيصاده ، وإنّما الذي ختم بالنبي الأعظم هو باب النبوّة التي هي تحمل النبأ عن اللّه سبحانه ، وباب الرسالة التي هي تنفيذ ما تحمله النبي عن اللّه سبحانه بين الاُمة (3).
    هذه الولاية الالهية غير النبوّة والرسالة وإن كانت تجامعهما تارة وتفارقهما اُخرى
    1 ـ وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأوّل الحديث 6.
    2 ـ وسائل الشيعة كتاب الأمر بالمعروف الباب الأربعون الحديث 1.
    3 ـ سيوافيك توضيح الفرق بين النبوّة والرسالة في الجزء الرابع من كتابنا هذا.


(222)
فقد تمثلت المناصب الثلاثة في شخص إبراهيم.
    إذ كان ( عليها السَّلام ) يمثل منصب الإمامة ، كما كان يمثل منصبي النبوّة والرسالة ولقد حباه اللّه سبحانه منصب الإمامة ، بعد ما منحت له النبوّة وأرسله رسولاً ويدل على ذلك قوله سبحانه : ( أني جاعلك للناس إماماً ) ( البقرة ـ 124 ) (1).
    والأئمّة الاثنا عشر لدى الإمامية يمثلون منصب الإمامة ، من دون أن يكونوا أنبياء أو رسلاً ، فهم أئمّة الدين ، وأولياء اللّه بين الاُمّة ، ولهم رئاسة إلهية عامة ، دينية ودنيوية على وجه يوجب على الاُمّة الانقياد لهم وهم حجج اللّه على عباده يهتدى بهم إليه سبحانه ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة للّه على عباده (2).
    والباعث على انفتاح باب الولاية الإلهية في وجه الاُمّة ، بعد ختم النبوّة والرسالة وإيصاد بابها بالتحاق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى اُمور نشير إلى واحد منها (3).
    لا يختلف اثنان من المسلمين بانقطاع وحي السماء عن وجه الأرض بموت النبي وقبضه كما لا يختلفان في أنّ النبي قام بمهمة التشريع والتبليغ وتثقيف الاُمّة الإسلامية بالثقافة الدينية وبث العقيدة الدينية فيهم وحفظ الشريعة عن شبهات المنكرين وإرجاف المرجفين بأحسن الوجوه وأكملها وقال سبحانه : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت علكيم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ( المائدة ـ 3 ) غير أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يراعي في نشر الأحكام حاجة الناس ومقتضيات الظروف فكانت هناك اُمور مستجدة
    1 ـ روى ثقة الإسلام الكليني عن جابر عن أبي جعفر الباقر ( عليها السَّلام ) قال سمعته يقول : أن اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، واتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، واتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً ، فلما جمع له هذه الأشياء وقبض قال له يا إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً فمن عظمها في عين إبراهيم قال يا ربّ ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( الكافي باب طبقات الأنبياء والرسل ج1 ص 175 ).
    2 ـ هكذا وصف الإمام باقر العلوم ، راجع الكافي باب « إنّ الأرض لا تخلو من حجة » ج 1 ص 178.
    3 ـ قد أوضحنا تلك الاُمور في الجزء الثاني من هذه الموسوعة فلاحظ بحث : صيغة الحكومة الإسلامية بعد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).


(223)
ومسائل مستحدثة ، لم تكن معهودة في زمن الرسول ولم يأت بها نص في الكتاب الكريم وسنّته الثابتة ، ولم يتسن للنبي الإشادة بها أمّا لتأخر ظروفها أو لعدم تهيأ النفوس لها أو لغير ذلك من العلل.
    وقد ظهرت بوادر هذا الأمر عندما اتسع نطاق الإسلام وضرب بجرانه خارج الجزيرة العربية وطفق المسلمون يخوضون في غمار معارك طاحنة وحروب دامية ، يفتحون البلاد ويخالطون الاُمم ففوجئوا بمسائل مستجدة لم يعرفوا لها حلاً في الكتاب الكريم ولا في سنّة نبيهم مع أنّ اللّه سبحانه كان قد أخبر في كتابه عن اكمال الدين واتمام النعمة وبناء على هذا فإننا نستكشف أنّ النبي إيفاء لغرض التشريع استودع معارفه عند من يقوم مقامه ويكون له من الصلاحيات ما تخوله للقيام بمثل هذا الأمر الخطير.
    وإلى ذلك يشير باقر العلوم بقوله مخاطباً لهشام بن عبد الملك بن مروان : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللّه على نبيه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) والأرض لا تخلو ممّن يكمل هذه الاُمور التي يقصر غيرنا عنها (1).
    ثمّ أنّ الكتاب الكريم الذي هو أحد الثقلين فيه محكم ومتشابه وعامّ وخاصّ ومطلق ومقيد ومنسوخ وناسخ ، يجب على الاُمّة عرفانها ، إذ الجهل بها يوجد اتجاهات مذهبية متضاربة. غير أنّ تفسير المتشابه من دون الاستناد إلى ركن وثيق يورث اختلافاً عنيفاً بين المسلمين ، وتفسير المعضل وتفصيل المجمل وتشخيص المنسوخ عن ناسخه يحتاج إلى احاطة كاملة بمفاهيم الكتاب وتشريعاته جليلها ودقيقها وهو ليس إلاّ النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ومن يتلو تلوه.
    فلأجل رفع هذه المحاذير يجب عليه سبحانه حفاظاً على وحدة الاُمّة وصيانتها عن الشرود في متاهات الضلال أن يشفع كتابه بميزان آخر ، وهاد يدعم أمره ، ومعلم يوضح لهم أسراره ، ليرجع إليه المسلمون حتى يكتمل به غرض التشريع ويرتفع
    1 ـ بحار الأنوار ج 46 ص 307.

(224)
التضارب والخلاف في الشؤون الدينية.
    وإلى ذلك يشير قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : أني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل بيتي وأنهمالن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض (1) ، وقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : أني أوشك أن اُدعى فاُجيب وأني تارك فيكن الثقلين كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما (2).
    وهذا هو الإمام الصادق ( عليها السَّلام ) يعرف الإمام ومكانته العظيمة بقوله : أنّ الأرض لا تخلو وفيها إمام ، كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم (3).
    وأبلغ تعبير عن حقيقة الإمامة عند الشيعة ما روي عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في حديث طويل وفيها : أنّ الإمامة منزلة الأنبياء وأرث الأوصياء أنّ الإمامة خلافة اللّه وخلافة الرسول ، الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، أنّ الإمامة أساس الإسلام النامي وفرعه السامي.
    الإمام يحل حلال اللّه ويحرم حرام اللّه ، ويقيم حدود اللّه ويذب عن دين اللّه ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة (4).
    1 ـ أخرجه الحاكم في مستدركه ج3 ص 148 ، وقال هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
    2 ـ مسند أحمد ج3 ص 17و26 وللحديث صور كثيرة كلها تنص على وجوب التمسك بأهل بيته وعترته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة ، وقد صدع بها رسول اللّه في مواقف له شتى : يوم غدير خم ، يوم عرفة في حجة الوداع ، بعد انصرافه من الطائف ، على منبره في المدينة ، وفي حجرته في اُخريات أيامه.
    وقد أنهى إسناده العلاّمة الجليل ، السيد مير حامد حسين في بعض أجزاء كتابه الكبير « العبقات » وطبع في ستة أجزاء بإيران وفاح أريجه بين لابتي العالم وقد اغرق نزعاً في التحقيق ، ولم يبق في القوس منزعاً ، وقد أغنانا كتابه عن الافاضة والبحث.
    3 ـ الكافي ج1 ص 178.
    4 ـ الكافي ج1 ص 200.


(225)
    وبذلك تعرف وجه غنى الاُمّة الإسلامية بعد النبي عن أي نبي مروّج وأية نبوّة تبليغية ، ويتضح أنّ الإسلام في تخطيطه المبدئي ، قد فرض أنّه ( بعد إنتهاء وظيفة النبي الأعظم وقطعه أشواطاً بعيدة في الجهات المختلفة المتقدمة ) يتكفّل القيادة المعصومة من بعده من يقوم مقامه بنصه سبحانه وتعيينه ، وله من الشرائط ما للنبي سوى ما يختص به على ما تبيّن في محله حتى تنتهي هذه العملية إلى مراحلها النهائية المفروضة.
    ولا يضير الإسلام في شيء أن تكون الاُمّة قد انحرفت عن الخط المفروض لها من قبل اللّه سبحانه ، وتجاوزت عن كل الضمانات التي وضعها لتنفيذ مخطّطه الالهي.
    وفي الختام نقول : إنّ التاريخ ليشهد بأنّه ما من إمام من أئمّة الشيعة الاثنى عشرية إلاّ وقد قام بأعباء مهمة الإمامة خير قيام ، وأنّ حياة كلّ منهم كانت مشحونة بالعمل المتواصل في سبيل إيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الاُمّة ولقد عانوا في ذلك من المشاق ولاقوا من الأهوال ما لاقاه النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) .
    فعند ذاك استغنت الاُمّة الإنسانية بشكل عام والمسلمون بشكل خاص ، بتعاليمهم الدائرة حول نطاق رسالة جدهم السماوية ، عن استمرارية كلتا النبوّتين ، وبصورة خاصة التبليغية منها.


(226)
السؤال الثاني
    « لماذا حرم الخلف من الاُمم ، من المكاشفة الغيبية ، والاتصال بالملأ الأعلى ، واستطلاع ما هنالك من معارف وحقائق » ؟
    يقول السائل : إنّ النبوّة منصب معنوي ورقي روحي ، تقدر معه النفس على الاتصال بالملأ الأعلى ، والاطلاع على ما هنالك من معارف عقلية ، والتحدث مع الوحي الالهي ، إلى غير ذلك من الفيوضات المعنوية ، ولكن هذا الباب قد اُوصد بعد إكمال الشريعة الإسلامية وختم النبوّة.
    هب أنّ الشريعة الإسلامية ، هي أكمل الشرائع ، وأنّ الخلف من الاُمم قادر على حفظ تراثه الديني ، ولأجل ذلك اُوصد باب النبوّة التشريعية والتبليغية ولكن لماذا انقطعت الفتوحات الباطنية والمحادثة مع ملائكته سبحانه ، أو القاء الحقائق في روع الانسان ، إلى غير ذلك من الفيوضات السماوية ، فهذه الاُمور كلّها من لوازم النبوّة ، فلا يعقل انفتاحها مع إيصاد بابها ...
    ثم إنّه لماذا كان باب هذا الفيض مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، وحرم منها الخلف الصالح بعد النبي؟ هل كانت الاُمم السالفة اُولى وأجدر بهذه النعمة؟ وهل الاُمّة المتأخرة عنهم أقل جدارة بها واستحقاقاً لها ؟!


(227)
الجواب :
    ليس الإطلاع على ما احتجب عن عامة الناس من الحقائق ، من لوازم النبوّة ، حتى ينسد بابه بانسداد بابها ، ولا الخلف محروم من الفيض الذي كان مفتوحاً في وجه الاُمم السالفة ، فإنّ الولاية الالهية التي تلازم تلكم الفتوحات الباطنية ، ليست من خصائص النبوّة وتوابعها ، حتى تنقطع بانقطاعها ، بل هي كرامة إلهية يرزقها سبحانه ، المخلصين من عباده ، المتحلّين بفضائل الأخلاق المتطهرين عن درك الشرك ولوث المعاصي ، إلى غير ذلك من صفات كريمة.
    والنبوّة باب خاص من الولاية تستتبع تحمل الوحي التشريعي أو التبليغي فيوصد بابه بإيصاد بابها ، وأمّا سائر الفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والايحاءات الملكوتية ، فلم يوصد بابها قط.
    وللتوضيح نحن نتساءل : ماذا أراد السائل من إيصاد باب الاتصال ، بختم باب النبوّة؟
    فإن أراد الاتصال باللّه ومعرفة أسمائه وصفاته والوقوف على ما هنالك من معارف عن طريق البرهنة والاستدلال والتدبر في آياته الآفاقية ، فهذا الطريق مفتوح إلى يوم القيامة في وجه من أراد الإطلاع على حقائق الكون ودقائقه ، وما وراء الحس من عوالم ودقائق.
    وقد قال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْء شَهِيد ... ) ( فصلت ـ 53 ) (1).
    1 ـ نعم ربّما تفسر الآية بوجه آخر تسقط معه دلالتها على ما نرتئيه وهو أنّ المراد ما يسّر اللّه عزّ وجلّ لرسوله والمسلمين من بعده في آفاق الدنيا وارجاء العالم من الفتوح التي لم يتيسّر أمثالها لأحد من الجبابرة والأكاسرة ، وتغلب قليلهم على كثير من أعدائهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، ونشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة وبسط دولته في أقاصيها. فهذه الاُمور الخارقة للعادة يقوى معها اليقين ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أنّ دين الإسلام هو الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلاّ مكابر ... راجع الكشاف ج 3 ص 75 وما حققناه حول الآية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ص 173.

(228)
    وقال سبحانه : ( وَ فِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاتُبْصِرُونَ ) ( الذاريات : 20 ـ 21 ).
    ولو أراد معرفة ربّه وأسمائه وصفاته ، وعظمته وكبريائه ، وما هناك من مقامات ودرجات ، بلا توسيط برهان ، أو تسبيب دليل ، بل مشاهدة بعين قلبه وبصر روحه ، وبعبارة أوجز : شهود الحقائق العلوية ، وانكشاف ما وراء الحس والطبيعة ، من العوالم الروحية ، والمشاعر الإلهية ، ومعرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره والاتصال بجنوده وملائكته واستماع كلامهم و وحيهم وصوتهم إلى غير ذلك من الاُمور ، فهذا مقام خطير ، يحصل للعرفاء الشامخين المخلصين من عباده ، المطهرين من اللوث والدنس ، المتحررين عن قيود الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات اللّه ، الحاكمين بالكتاب ، العاملين بسننه وسنن نبيّه حسب اخلاصهم وعرفانهم ، حسب استعدادهم وقابليتهم ، حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل عجائب الحقائق الغيبية ، ومشاهدة جلال اللّه وجماله وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات ، وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات.
    ثمّ إنّ لأهل السلوك والعرفان كلاماً في المقام ، لا يخلو عن فائدة ، وخلاصته :
    أنّ اليقين الحقيقي النوراني المنزّه عن ظلمات الأوهام والشكوك ، لا يحصل من مجرد أعمال الفكر والاستدلال ، بل يتوقف حصوله على الرياضة والمجاهدة وصقل النفس وتصفيتها عن كدورات ذمائم الأخلاق ، وإزالة الصدأ عنها ، ليحصل لها التجرد التام ، والسر أنّ النفس بمنزلة المرآة تنعكس على صفحتها الصور المتعلّقة بالموجودات الخارجية ، ولا ريب في أنّ انعكاس الصور من ذواتها على المرآة ، يتوقف على تمامية شكلها وصفاء جوهرها ، وحصول ما يتمكن انعكاسه عليها وإرتفاع الحائل بينهما ، والظفر بالجهة التي فيها الصور المطلوبة ، كذلك يجب في انعكاس حقائق الأشياء من العقل على النفس ، تحقق اُمور :
    1 ـ عدم نقصان جوهرها ، بأن لا تكون كنفس الصبي التي لا تتجلىّ لها


(229)
المعلومات ، لنقصانها.
    2 ـ صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة ، وخبائث المعاصي ، وهو بمنزلة الصيقل عن الخبث والصدأ.
    3 ـ توجّهها التام وانصراف فكرها إلى المطلوب ، بأن لا يكون غارقاً في الاُمور الدنيوية ، وهو بمنزلة المحاذاة.
    4 ـ تخليتها عن التعصب والتقليد ، وهو بمنزلة إرتفاع الحجب.
    5 ـ التوصل إلى المطلوب بتأليف مقدمات ، مناسبة للوصول إليه على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة ، وهو بمنزلة العثور على الجهة التي فيها الصورة.
    ولولا هذه الأسباب المانعة للنفوس عن افاضة الحقائق اليقينية إليها ، لكانت عالمة بجميع الأشياء المرتسمة في العوالم الروحانية.
    إذ كل نفس لكونها أمراً ربّانياً وجوهراً ملكوتياً بحسب الفطرة ، صالحة لمعرفة الحقائق ، فحرمان النفس عن معرفة حقائق الموجودات إنّما هو لأحد الموانع.
    وقد أشار سيد الرسل إلى أنّ كدورات المعاصي وصدأها مانعة عن ذلك بقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض.
    فلو ارتفعت عن النفس ، حجب السيئات والتعصب ، وحاذت شطر الحق الأوّل لتجلّت لها صورة عالم الملك والشهادة بأسرها ، إذ هو متناه يمكن لها الإحاطة به ، وصورة عالمي الملكوت و الجبروت ، بقدر ما يتمكّن منه ، بحسب مرتبته (1).
    فالعارف الشامخ في عالم المعرفة ، إذا اتصف بما ذكرناه : « صار سمع اللّه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاه أجابه ، وإن سأله أعطاه » (2).
    1 ـ جامع السعادات ج1 ص 125 ـ 126 ولاحظ مقدمة ابن خلدون.
    2 ـ وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ـ الباب 17 الحديث 6.


(230)
    فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والمشاهدات الروحية والالقاءات في الروع ، غير مسدودة بنص الكتاب العزيز :
    1 ـ قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً ) ( الأنفال ـ 29 ) أي يجعل في قولبكم نوراً تفرّقون به بين الحق والباطل وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، لا بالبرهنة والاستدلال ، بل بالشهود والمكاشفة.
    2 ـ وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَل لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيم ) ( الحديد ـ 28 ).
    إنّ صاحب الكشّاف ومن لفّ لفّه وإن فسره بقوله : « ويجعل لكم يوم القيامة نوراً تمشون به » إلاّ أنّ الظاهر خلافه ، وأنّ المراد النور الذي يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته ، في معاشه ومعاده ، في دينه ودنياه ، وهذا النور الذي يحيط به ويضيء قلبه ، نتيجة إيمانه وتقاه ويوضّحه قوله سبحانه : ( أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) ( الأنعام ـ 122 ).
    3 ـ وقال سبحانه : ( وَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ( العنكبوت ـ 69 ).
    4 ـ وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم ) ( البقرة ـ 282 ).
    فإنّ عطف الجملة الثانية على الاُولى يحكي عن صلة بين التقي وتعليمه سبحانه.
    5 ـ وقال سبحانه : ( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيم ) ( التكاثر : 5 ـ 6 ).
    فإنّ الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة ، رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرهيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام ـ 75 ).
    وهذه الرؤية القلبية غير محققة قبل يوم القيامة لمن الهاه التكاثر بل ممتنعة في حقه لامتناع اليقين عليهم.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس