مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 231 ـ 240
(231)
    والمراد من قوله : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِين ) هو مشاهدتها يوم القيامة بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعِيمِ ) فالمراد بالرؤية الاُولى رؤيتها قبل يوم القيامة ، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة (1).
    6 ـ وقال سبحانه : ( وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَ آتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) ( محمد ـ 17 ) فلو أنّ الانسان جعل نفسه في مسير الهداية ، وطلبها من اللّه سبحانه زاده تعالى هدى وآتاه تقواه.
    7 ـ وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدنَاهُمْ هُدًى ) ( الكهف ـ 13 ) والآية تبيّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ، وتغرّبوا لحفظ إيمانهم ودينهم فزاد اللّه من هداه في حقهم وربط على قلوبهم كما يقول سبحانه :
    8 ـ ( وَ رَبَطْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَواتِ وَ الأرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ إِذاً شَطَطاً ) ( الكهف ـ 14 ).
    والقرآن يصرح بانفتاح باب الهجرة إلى اللّه ورسوله ، والهجرة كما تشمل الهجرة الظاهرية تشمل الهجرة المعنوية ، التي هي عبارة عن السير في مدارج الكمال والإنابة إليه سبحانه.
    9 ـ يقول سبحانه : ( وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ ) ( النساء ـ 100 ) ، وإلى الهجرة المعنوية ( هجرة النفوس عن السيئات إلى الطاعات ) يشير النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إذ يقول :
    « من كانت هجرته إلى اللّه ورسوله ، فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى مال يصيبه فهجرته إلى ما هاجر إليه » (2) فحمل الآية والرواية على خصوص الهجرة الظاهرية والخروج عن الأوطان والتغرّب لحفظ الإيمان هو أحد أبعاد الآية ، فهناك بعد آخر ، وهو حملها على مهاجرة النفوس من الظلمة إلى النور ، ومن الضلال إلى الهداية ،
    1 ـ الميزان ج20 ص 496 ـ 497.
    2 ـ صحيح البخاري ج1 كتاب الإيمان الباب 42 ص 16.


(232)
ويؤيده قوله سبحانه :
    10 ـ ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ اُوذُوا فِي سَبِيلي وَ قَاتَلُوا وَ قُتِلُوا لاَُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) ( آل عمران ـ 195 ). فالمراد من المهاجرة هو الهجرة المعنوية حتى تصح مقابلتها مع قوله سبحانه : ( واُخرجوا من ديارهم ) إلى غير ذلك من الآيات والروايات.
    نعم كثرت في القرون الأخيرة عناية طوائف من صوفية أهل السنّة بمسألة الإمامة والإمام ومنهم « النجانية » وقد كتب عنهم العقاد في كتابه « بين الكتب والناس » ومنهم « السنوسية » وقد أفاض فيهم القول البستاني في دائرة معارفه غير أنّ في بعض ما ذكروه خداعاً وضلالاً ، وللبحث عن ما يدّعونه من الكشف والعرفان مجال آخر لا يسعه المقام.
    انّ الناظر في نهج البلاغة يجد في كلام الإمام علي ( عليها السَّلام ) تصريحات وإشارات على فتح هذا الباب وعدم إيصاده فالإمام ( عليها السَّلام ) يقول :
    « قد أحيى عقله ، وأمات نفسه ، حتى دق جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع ، كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه ، في قرار الأمن والراحة » (1) ، ويقول :
    « هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين » (2).
    فهذه الكلمات العلوية تبيّن جلياً أنّ القلب يمكن أن يصبح محلاً للإشعاع الإلهي على مدار الزمان وفي زمن الخاتمية.
    وقد روى الفريقان عن الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال من أخلص للّه أربعين صباحاً ، فجّر اللّه ينابيع الحكمة من قلبه ، على لسانه (3).
    1 ـ نهج البلاغة الخطبة 215.
    2 ـ نهج البلاغة قصار الكلم الرقم 147.
    3 ـ سفينة البحار ، مادة « خلص » نقله عن عدة الداعي لابن فهد الحلي.


(233)
    وقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لولا تمريج في قلوبكم وتكثير في كلامكم ، لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع » (1).
    وقال الصادق ( عليها السَّلام ) : « ما أخلص عبد الإيمان باللّه أربعين يوماً ، إلاّ زهّده اللّه في الدنيا ، وبصره داءها ودواءها ، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه » (2).
    وهناك كلمة طيبة عن الإمام أمير المؤمنين ، تعرب عن رأي الإسلام في المقام ، قال ( عليها السَّلام ) :
    « إنّ اللّه تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح للّه ، عزت آلاؤه ، في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات (3) ، عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم » (4).
    فهو ( عليها السَّلام ) يصرح بأنّ الذاكرين من عباده قد بلغ بهم المقام إلى درجة يناجيهم اللّه في سرائر ضمائرهم ، ويكلمهم من طريق عقولهم ، فهل يوجد مقام أرفع من هذا ، أو درجة أشرف من تلك.
    وقريب من ذلك ما رواه الديلمي في إرشاده في خطابات له سبحانه لنبيّه في ليلة المعراج بلفظ « ياأحمد ! فمن عمل برضائي الزمه ثلاث خصال ، أعرفه : شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا اُخفي عليه خاصّة خلقي ، واُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، واُعرفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا اُخفي عليه شيئاً
    1 ـ حديث مشهور.
    2 ـ سفينة البحار ، مادة « ربع ».
    3 ـ التخصيص بعد التعميم فلا يضر بالمطلوب لو كان المراد منه الفترة بين المسيح وبعثة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    4 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 217.


(234)
من جنّة ولا نار ، واُعرّفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة. وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء ... ـ إلى أن قال : ـ يا أحمد! اجعل همّك هماً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً ، من غفل عنّي لا اُبالي بأي واد هلك » (1).
    وهذه الرواية توقفنا على أنّ المعرفة الحقيقية ، التي تحيى بها نفوسنا ، لا تستوفى بالسير الفكري ، ولا يقف السالك في سبيل الحق على هذه الاُمور ، إلاّ بتهذيب النفوس وتطهير القلوب والانقطاع إلى الربّ عن كل شيء ، حتى يرفع دونه كل حجاب مضروب ، وكل غشاء مسدول ، فيعرف ربّه وأسماءه ، وصفاته حق المعرفة ، ويشاهده بعين القلب ويسمع كلامه وكلام ملائكته ، ويرى عظمته وسرادقات كبريائه.
    فهذه الفتوحات الباطنية بمراتبها ، ميسّرة في وجه الاُمّة ، لم توصد قط.

الاسفار المعنوية الأربعة :
    ثم إنّ للسالك من العرفاء والأولياء أسفاراً ، وهي على ما اعتبرها أهل الشهود أربعة.
    أحدها : السفر من الخلق إلى الحق.
    ثانيها : السفر من الحق إلى الحق بالحق.
    ثالثها : السفر من الحق إلى الخلق بالحق.
    رابعها : السفر من الخلق إلى الخلق بالحق.
    فبعض هذه الأسفار وقطع منازلها وإن كان يختص بأنبيائه ورسله ، إلاّ أنّ السفر الأوّل والثاني ، لا يختصان بهم ، بل يتيسّران لكل سالك الهي ، لا يقصد إلاّ الاناخة في ساحة ربّه ، والنزول على طاعته ، بلا استثناء ، ودونك توضيح ذينك السفرين : ففي السفر الأوّل ، أعني السفر من الخلق إلى الحق ، ترفع الحجب المظلمة ، بين السالك وربّه ،
    1 ـ إرشاد القلوب للديلمي ص 329.

(235)
فيشاهد جمال الحق ويفني ذاته فيه ، ولأجل ذلك يسمى مقام الفناء. وعندما ينتهي السفر الأوّل يأخذ السالك في السفر الثاني ، وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق وإنّما يكون بالحق لأنّه صار ولياً ، وصار وجوده وجوداً حقّانياً ، فيأخذ السلوك من موقف الذات إلى الكمالات واحداً بعد واحد حتى يشاهد جميع كمالاته فيعلم جميع أسمائه كلّها إلاّ ما استأثر به عنده ، فتصير ولايته تامة ، ويفني ذاته وأفعاله وصفاته في ذات الحق وصفاته وأفعاله ، فبه يسمع ، وبه يبصر وبه يمشي وبه يبطش ، وحينئذ تتم دائرة الولاية.
    ولعمري لولا خوف الإطالة ، والخروج عمّا هو الهدف الأسمى للرسالة ، لشرحت للقارئ الكريم ، تلكم الاسفار والمواطن واحداً بعد واحد ، وكفانا ما حبرته يراعة العرفاء الشامخين في هذا الباب (1).
    وفي الاُمّة الإسلامية رجالاً مخلصون ، لا يدرك شأوهم ولا يشق غبارهم ، اُولئك أولياء اللّه في أرضه وخلفاؤه في خلقه ، تغبطهم النبوّة ، كما قال الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : إنّ للّه عباداً ليسوا بأنبياء ، تغبطهم النبوّة (2).
    هب أنّ النبوّة قد اُوصد بابها ، إلاّ أنّ باب الفيض المعنوي ، من جانب الإمام الحي ( عليها السَّلام ) بعد مفتوح لم يوصد (3).
    1 ـ راجع تعاليق الأسفار الأربعة ج 1 ص 13 ـ 18 للحكيم السبزواري.
    2 ـ حكاه صدر المتألّهين في مفاتيح الغيب ، وقال : هذا الحديث ممّا رواه المعتبرون من أهل الحديث ، من طريقة غيرنا ، نعم لم أقف عليه مسنداً حتى اُحقق حاله.
    3 ـ وقد دلّت البراهين الكلامية على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة ، وأنّه لا بد للناس في كل دورة وكورة من إمام معصوم يهدي إلى الرشد ـ وقد تفرّدت به الشيعة عن سائر فرق الإسلام.
    وقال أمير المؤمنين : اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة : أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته وكم ذا وأين اُولئك؟ اُولئك ـ واللّه ـ الأقلون عدداً والأعظمون عند اللّه قدراً ، يحفظ اللّه بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعونها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقه بالمحل الأعلى ، اُولئك خلفاء اللّه في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم ( نهج البلاغة باب الحكم رقم 147 ).


(236)
    وقد حقق في أبحاث الولاية الالهية أنّ وجه الأرض والمجتمع الانساني لا يخلو أبداً من انسان كامل ذي يقين ، مكشوف له عالم الملكوت ، وله ولاية على الناس في أعمالهم ، يهديهم إلى الحق ويوصلهم إلى المطلوب بأمر من اللّه سبحانه ، كما هو شأن الإمام في كل عصر ودور ، لقوله سبحانه : ( وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة ـ 24 ).
    فهذا الفيض الالهي والعرفان المعنوي ، لم يزل يجري علي المجتمع البشري بأمر منه سبحانه ، وينزل عليهم من طريق الإمام ، ليهديهم سبيل الحق ويرشدهم إلى مدارج الكمال ، حسب استعداداتهم وقابلياتهم.
    قال سيدنا الاُستاذ ـ قدّس سرّه ـ : إنّه سبحانه كلّما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية ، تعرض التفسير قال تعالى في قصة إبراهيم : ( وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاّ ً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ( الأنبياء ـ 72 ـ 73 ).
    وقال سبحانه : ( وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ( السجدة ـ 24 ).
    فوصفهم بالهداية وصف تعريف ، ثمّ قيد هذا الوصف بالأمر فبيّ ـ ن أنّ الإمامة ليست مطلق الهداية بل هي الهداية التي تقع بأمر اللّه ، فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتهم ، إيصالهم إلى الكمال بأمر اللّه دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى اللّه سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة (1).
    فهذا الباب من الفتوحات الغيبية والفيوض الالهية مفتوح ، في وجه الاُمّة لم يوصد أبداً.
    1 ـ الميزان ج1 ص 274 ـ 275.

(237)
مثل الفضيلة والأخلاق
    قد كان لأمير المؤمنين صفوة من الأصحاب يستدر بهم الغمام ، ويندر مثالهم في الدهر كزيد وصعصعة ابني صوحان واُويس القرني والأصبغ بن نباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وأشباههم ، وكان هؤلاء مثلاً للفضيلة وكرم الاخلاص وخزنة للعلم والاسرار ، منحهم أمير المؤمنين من سابغ علمه واستأمنهم على غامض أسراره ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم فجمعوا العلم ، سرّه وجهره ، والفضائل ، نفسية وخلقية ، ذاتية وكسبية ، والعبادة قولاً وعملاً وجارحة وجانحة ، فاكتسبوا من أمير المؤمنين جميع الفعال والخصال وأخذوا عنه أسرار العلم وعلم الأسرار ، حتى زكت بهم النفوس وكادوا أن يزاحموا الملائكة المقرّبين في صفوفهم ، وغبطهم الملأ الأعلى على ما اتصفوا به من كمال الذات والصفات ، فصاروا أهلاً ، لأن يأتمنهم الإمام على نفائس الأسرار وأسرار النفائس فكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولاتعرفهم.
    فهذا ميثم ، عظيم من حواري علي ، وولي من أوليائه وأحد خريجي مدرسته العالية ، الذين نهجوا في السير على هداه واتبعوه قائداً وقدوة في أمره ونهيه فصار مستودع أسراره وحقل علومه وخاصة حواريه.
    كان رسول اللّه يخلو بعلي يناجيه ، وكانت اُم سلمة زوج النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) تلك البرة الطاهرة ، تلتقط من المناجات درراً ثمينة ، فممّ ـ ا التقطته منها ، وصاياه لأبي الحسن ( عليها السَّلام ) في ميثم ، فدخل ميثم على اُمّ سلمة وهو يريد الحج ، فقالت له : طالما سمعت رسول اللّه يذكرك في جوف الليل ويوصي بك علياً.
    وكان ميثم يصحب الإمام أحياناً إلى الأماكن الخالية وعند خروجه في الليل إلى الصحراء ، فيستمع منه الأدعية والمناجاة ، وكثيراً ما يجلس إليه الإمام في السوق وأفواج الناس ذاهبة وآيبة ، ينظرون الإمام وهو في دكان « ميثم » يسامره ويحادثه ويلقي إليه


(238)
دروسه ويميره من العرفان الالهي ، فعلّمه علم المنايا والبلايا ، أي علم الآجال وعلم الحوادث والوقائع التي يبتلى بها الناس ، حتى أخبره أنّه سيصلب على باب عمرو بن حريث.
    لم يكن ميثم فريداً من بين أصحاب الإمام وحوارييه ، وإن كان أحد عظمائهم إذ أنّه قد أودع هذا العلم عند من كان يأتمنه عليه من أفذاذ أصحابه الآخرين ، نظراء رشيد الهجري واُويس القرني ، وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي وكميل بن زياد ومن يشابههم في الإيمان الشامخ.
    ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغاية ، لنقلنا كثير ممّا دار بينهم من المحادثات حول البلايا والمنايا.
    فهذا ميثم نفسه ، وقد قيد على خشبة الصلب يقول للناس رافعاً صوته ، أيها الناس من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب ( عليها السَّلام ) قبل أن اُقتل فواللّه لأخبرنّكم بعلم ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، وما يكون من الفتن (1).
    لم يكن علي ( عليها السَّلام ) نسيج وحده في تربية هؤلاء العظماء الذين صقلت نفوسهم وتجلّت لهم صور ما في الكون من الحقائق والموجودات ، بل سبقه سيد الرسل فأدّب أناساً ، نهجوا في السير على هداه ، واتبعوه في أمره ونهيه ، وساروا في الطريق الذي رسمه لهم ، فكانوا مثلاً أعلى للفضيلة وكرم الأخلاق وخزنة للعلم والأسرار ، فشاهدوا الخليقة وما فيها من حقائق غامضة ، ورأوا ملكوت السماوات والأرض ، وعاينوا الحقائق العلوية والعوالم الروحية ، من قبل أن يخرجوا من الدنيا.
    روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه ( عليها السَّلام ) أنّه قال : استقبل رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حارثة ابن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال : يا رسول اللّه مؤمن حقاً ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك؟ فقال :
    1 ـ راجع في ترجمة ميثم ، كتب الرجال ، ولا سيما « قاموس الرجال » ج9 ص 164 ـ 171 وما دبجته براعة الاُستاذ المغفور له الشيخ محمد حسين المظفر حول حياة ميثم.

(239)
يا رسول اللّه! عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري كأنّي أنظر إلى عرش ربّ ـ ي وقد وضع للحساب ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنيّ أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال له رسول اللّه : عبد نوّر اللّه قلبه ، أبصرت فاثبت ، فقال : يا رسول اللّه اُدع اللّه لي أن يرزقني الشهادة معك ، فقال : اللّهمّ أرزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلاّ أياماً حتى بعث رسول اللّه سرية فبعثه فيها فقاتل ، فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل (1).
    أخرج الكليني عن إسحاق بن عمار ، قال سمعت أبا عبد اللّه ( عليها السَّلام ) يقول : إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) صلّ ـ ى بالناس الصبح ، فنظر إلى شاب في المسجد فقال له رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كيف أصبحت يا فلان؟ قال : أصبحت يارسول اللّه موقناً ، فعجب رسول اللّه من قوله وقال : إنّ لكل يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك؟ فقال : إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّ ـ ي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنيّ أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، وعلى الأرائك متّكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار ، يدور في مسامعي فقال رسول اللّه لأصحابه : هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان (2).
    هذا هو الإيمان المحض والعبودية الخالصة بل أنّه لشأن لا يتوصل إليه بالحس والعلم.
    فكم في الاُمّة الإسلامية من ذوي الرتب العلوية ، رجال وأبدال شملتهم العناية الالهية ، فجردوا أنفسهم عن أبدانهم ، حينما أرادوا ، فعاينوا الحقائق واطلعوا على الأسرار.
    وقد تضافرت الأحاديث على أنّ في الاُمّة الإسلامية مثل الاُمم السابقة رجالاً مخلصين محدّثين ( بالفتح ) يطلعون على المغيبات باحدى الطرق التي ألمحت إليها
    1 ـ الكافي ج2 ص 54.
    2 ـ الكافي ج2 ص 53.


(240)
الروايات.
    والمحدث على ما تشرحه الأحاديث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.
    روى البخاري عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لقد كان في من كان قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء (1).
    روى شيخ الطائفة باسناده عن أبي عبد اللّه قال كان علي ( عليها السَّلام ) محدثاً وكان سلمان محدثاً ، قال : قلت فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه ملك فينكت في قلبه ومنّا من يخاطب (2).
    قال صدر المتألهين في الفاتحة الحادية عشرة :
    « اعلم أنّ الوحي إذا اُريد به تعليم اللّه عباده ، فهو لا ينقطع أبداً ، وإنّما انقطع الوحي الخاصّ بالرسول والنبي من نزول الملك على اُذنه وقلبه » (3).
    نعم ليس كل من رمى أصاب الغرض ، وليست الحقائق رمية للنبال ، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممّن خلص روحه وصفا قلبه ، كما كان كذلك في الاُمم السابقة أيضاً.
    1 ـ صحيح البخاري ج2 ص 149.
    2 ـ أمالي الطوسي ص 260.
    3 ـ مفاتيح الغيب ص 12.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس