مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 241 ـ 250
(241)
السؤال الثالث
    « لا تجد في الكون المادي أمراً خالداً باقياً عبر الأجيال ، والدهور ، أوليس التحول ناموساً عاماً في الفلسفة؟ وهل في العالم المادي أصل ثابت وموجود خالد ، فكيف يكون الإسلام أمراً ثابتاً » ؟
     توضيحه :
    أنّ الإسلام قد أعلن بصوت عال أنّه دين اللّه الخالد إلى يوم القيامة ، وأنّه لا شريعة ولا دين ولا كتاب سماوي بعده ، وأنّ قوانينه وتشريعاته غير متغيّرة عبر الأجيال والقرون ، وأنّ حلال محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
    وعند ذلك يعترض السائل ويقول : إنّ الكون بعامة أجزائه ، بسمائه وأرضه ، وما تحتويانه ، متغيّر متبدّل ليس له أيّ إستقرار وأنّ الحركة والتبدل والتغيّر في الكون ناموس عام في الفلسفة الالهية والمادية ، وليس لنا في عالم المادة أصل ثابت أبداً ، سوى قولنا : « ليس لنا أصل ثابت » ، ومع هذا الأصل الفلسفي ، كيف يدعي الإسلام بقاءه وثباته ودوامه وصونه عن طوارق التغير والتبدل؟
     الجواب :
    قد خلط السائل بين الموجودات المادية والنواميس الحاكمة عليها فانّ المتغير إنّما هو الأوّل ، دون الثاني ، فإنّ السماء وما فيها من الشموس والأقمار والنجوم متغيّرات والأرض سهلها وجبلها والبحر وما تنطوي عليه من عظائم الموجودات لا تستقر على


(242)
حالة واحدة ، بل تتقلب من صورة إلى اُخرى ومن حالة إلى ثانية ، والمادة الخارجية غير منفكة عن الفعل والإنفعال في الأحوال كلّها.
    هذه هي المادة ، وأمّا النواميس السائدة عليها في نفس الأمر فهي ثابتة أبديةولا تتغيّر ولا يصيبها التبدّل ولا تقع في مجالات الحركة والتحوّل ، مثلاً المعادلات الرياضية وقانون الجاذبية والثقل النوعي في الموجودات وإنكسار الضوء وأحكام العدسيات وسرعة النور وغيرها من القوانين الفيزياوية ، ثابتة غير متغيرة سائدة في كل الظروف والأزمنة.
    على أنّ الإسلام السائد على المجتمع البشري طوال القرون والأجيال ، والباقي إلى مدى الدهور والزمان ، إنّما هو قوانين سماوية ونواميس إلهية شرّعت لإصلاح المجتمع وإسعاده وليس أمراً مادياً أو ظاهرة من ظواهره حتى يعمّه حكم المادة من الحركة والتحوّل والتبدّل ، بل قوانين سماوية سنّها اللّه سبحانه لعباده ، ليبلغهم إلى مدارج الكمال ومعارج العز ...
    ثم إنّه ماذا يريد القائل من قوله : « ليس لنا أصل ثابت » فهل هي نظرية ثابتة ، وفكرة باقية مدى الدهور والأيام وأمر غير متغيّر ، أولا ؟ فلو قال بالأوّل ، فقد جاء بأصل ثابت ، وأمر غير متغيّر ، وبالنتيجة يكون قد نقض قاعدته ، وأصله الذي ركن إليه.
    وإن قال بالثاني صار الإشكال أعظم إذ يلزم من عدم ثباته ثبات سائر الاُصول ودوامها ، إذ المفروض أنّ قوله : « ليس لنا علم ثابت » ليس حكماً ثابتاً فليزم من عدم صدقه ، صدق نقيضه ، كما هو شأن المتناقضين.
    وبذلك يؤاخذ كل من نفى العلم الصحيح المطلق الصادق في جميع الأدوار والشرائط ، لأنّ قولهم هذا ( ليس عندنا علم صحيح مطلقاً ) قد اُلقي بصورة أنّه صحيح مطلق وأنّه صادق على وجه الاطلاق ، ولو قال بأنّه قد اُلقي على الوجه الصحيح النسبي يصير الفساد أكثر لأنّه يستلزم أن يكون غير هذا القول صحيحاً مطلقاً إذ المفروض أنّ سلب الإطلاق عن غيره إنّما هو بالسلب النسبي لا السلب المطلق ولازم


(243)
ذلك اتصاف سائر الاُصول بالصحة الاطلاقية (1).
    وربّما يستدل على لزوم تطور المجتمع بـ « حتمية التاريخ » ويقال : حتمية التاريخ لها دور كبير في الفلسفة المادية و قد اعتمد عليها فطاحل الماديين وغيرهم وفرعوا عليها فروعاً واستنتجوا منهامسائل كثيرة ، وملخّص ما يريدون من هذا الأصل :
    انّ ما يحدث في تاريخ الاُمم من صعود وتدهور ، ومن صلح وسلام ، وحرب وكفاح ، واختراع ، واكتشاف ، وظهور انقلابات وثورات ، وتقدم في الانتاج والاقتصاد.
    وعلى الجملة ما شاهده تاريخ الاُمم ، أم ما نشاهده في الحضارة العصرية من حوادث وطوارئ وتطور في ألوان الحياة وأشكالها كلّها ، رهين عوامل في نفس المجتمع توجب وجودها ضرورة اجتماعية ، ولا يمكن التحرز عنها أبداً ، ويساق المجتمع إليها عنفاً وجبراً بلا إرادة واختيار.
    وهذه العوامل الخلافة ، لألوان الحياة وأشكالها وحوادثها وطوارئها ، لا تدوم على حالة واحدة ، بل تتبدل ويخلفها غيرها ، وهكذا ...
    فإذا كان العيش الاجتماعي متطوراً ، كسائر الظواهر الطبيعية ، تطوراً ضرورياً حتمياً ، خارجاً عن إرادة المجتمع واختياره ، فكيف يخضع المجتمع المتحول المتطور ، لتشريع لا يتحول ولا يتبدل؟
     الجواب :
    وزان حتمية التاريخ عند الماديين ، وزان القضاءوالقدر عند الجبرية ، فكما أنّ هؤلاء يلقون كل حادث وطارىء وكل خير وشر يقع في المجتمع ، على عاتق القضاء والقدر ، ويريحون أنفسهم عن أية مسؤولية ، كذلك يفعل الماديون ، إذ يلقون كل حادث وطارىء وكل خير وشر في المجتمع ، على عاتق الحتمية التاريخية ، ويريحون أنفسهم عن أية مسؤولية.
    1 ـ لاحظ اُصول الفلسفة ج1 ص 212 ـ تعريب المؤلّف.

(244)
    لكن هذا الأصل إنّما يصح في بعض الموارد وليس أصلاً كلياً ، صادقاً في عامة نواحي الحياة ، حتى يعود المجتمع البشري آلة صماء مسلوب الإرادة والاختيار ولا عمل له إلاّ تحقيق ما تفرضه تلكم العوامل.
    ونلاحظ ثانياً أنّ حتمية التاريخ لا صلة لها بتطور الاجتماع ، وأنّ استنتاج الأمر الثاني من الأمر الأوّل غير صحيح جداً ، بل تطوره وثباته تابع لتطور عامل الاجتماع وثباته ، فإن كان العامل المحرك للحياة الاجتماعية ثابتاً كان هو ثابتاً ، وإن كان ذلك العامل متطوراً ، كان متطوراً.
    توضيحه : أنّ العامل المحرك للحياة ، قد يكون عاملاً فطرياً فيكون ثابتاً وباقياً وحاكماً ، ما دام الانسان موجوداً أو أفراده باقية متسلسلة ، وعندئذ فمقتضى هذا العامل وأثره يبقى في المجتمع ثابتاً لا يتغير ، ولا مجال فيه لتحوّل ولا تغير.
    مثلاً ، الميل الجنسي أمر فطري في الانسان ، له أثر حتمي ودور عظيم في العيش الاجتماعي ومقتضاه في المجتمع هو الزواج ، وبما أنّه عامل فطري في الإنسان ، فلأثره الخلود في المجتمع البشري.
    ودونك مثالاً آخر :
    التدين والتوجه إلى ما وراء الطبيعة ، أمر فطري في الناس ، وطالما تجمعت الأسباب القاهرة من عنف الجبابرة ، وفتك الطغاة على أنّ تصرّف بني الانسان عن التدين فما استطاعت انتزاعه ، فالحياة الدينية التي هي جزء من الحياة الاجتماعية موجودة دائماً ، لأنّ لها عاملاً فطرياً لا يزول.
    ونحن نعترف بأنّ للعوامل الداخلية التي تستمد من طبيعة المجتمع ، تأثيراً حتمياً في تاريخ الحياة الاجتماعية للانسان لا يختلف ، وهي أثر محتوم لها ، غير أنّ جعل حتمية التاريخ مساوية لتطوّر المجتمع وتحوّله في كل زمان غير صحيح أبداً. بل هناك مسألتان :
    1 ـ تطور الاجتماع وتبدله في كل زمان.


(245)
    2 ـ حتمية التاريخ.
    وليست الاُولى من نتائج الثانية ، ومن ثمراتها ، بل الاُولى تابعة في الثبات والتحول لعاملها وعلّتها ، فإن كان عامل الحياة فطرياً ثابتاً ، فأثره حتمي ثابت في العيش الاجتماعي ، وإن كان العامل المحرّك ، أمراً متغيراً طارئاً غير فطري فأثره المحتوم في المجتمع يتغير ويتطور تبعاً لتغيره وتطوره.
    مثلاً : استخدام الطبيعة والاستفادة منها في سبيل الحياة ، أمر فطري للبشر لكن التوصل إلى المقصود والاستفادة منه بأدوات خاصة ، كالسهم والنصل والبعير ، ليس أمراً فطرياً ، بل هي تتطور وتتطور معه صور الاجتماع وأوضاعه.
    فالانسان الذي كان يركب الدواب في قطع المسافات وتأمين المواصلات أخذ في هذا القرن ، يقطع المسافات ويؤمن مواصلاته بالسيارة والطائرة.
    اذن فالقول بتبدل الأشكال والأوضاع الاجتماعية ، استناداً إلى حتمية التاريخ باطل جداً ، وإنّما التبدل وعدمه متوقف على العامل المؤثّر فيه ، فإن كان العامل ثابتاً يثبّت الوضع الاجتماعي المستند إليه ، وإن كان متبدّلاً يتبدل (1).
    1 ـ عن مقال للعلامة الشريف الشهيد مرتضى المطهري.

(246)
السؤال الرابع
    لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات باختلاف ألوان الحياة :
    إنّ التطور الاجتماعي يستلزم تطوراً في قوانين الاجتماع ، والقانون الموضوع في ظرف خاصّ ، ربّما يكون مضراً أو غير مفيد أصلاً في ظرف آخر ، ومقتضيات الزمان ( القوانين ) تختلف باختلاف المجتمعات وألوان الحياة ، فما صح الأمس لا يصح اليوم ، وما يصح اليوم ، لا يصح غداً.
     توضيحه :
    أنّ الهدف من تشريع القوانين والأنظمة الخارجية ، في المجتمع البشري ليس إلاّ تأمين الحياة الاجتماعية له ، وصونها عن التصادم والجدال وحفظها عن الهلاك والبوار.
    فالنظام التشريعي ليس أمراً مطلوباً بالذات ، بل هو ذريعة لتأمين الحياة وحفظها عن التحطم.
    وعلى هذا ، قد يعترض بأنّ الحياة الاجتماعية ، لو استمرت على وتيرة واحدة لساغ لأي قانون تشريعي كان سائداً في الأزمنة الغابرة ، أن يسود في جميع الظروف والأجواء ، وأمّا إذا لم تكن على وتيرة واحدة بل كانت الحياة في المجتمع الانساني منذ لجأ الانسان إلى الحضارة والعيش الاجتماعي ، متحوّلة ومتغيّرة ، فكيف يصح لقانون موضوع في ظرف أن يطبق في ظرف مباين له.
    مثلاً : إذا تأمّل في الدور الذي كانت وسائل النقل فيه منحصرة في الجمال وغيرها


(247)
من المواشي ، وكانت الثروات الطبيعية فيه لا تكاد تستغل باستثناء شيء قليل فيها ، وكانت أدوات الحروب الطاحنة فيه ، لا تتجاوز السيف والسهم ، فلا يرتاب في أنّ الحياة الاجتماعية في ذلك الدور ، لا تلتقي مع الدور الذي بلغت فيه حضارة الانسان حدّاً ، سخّر معه الأرض والفضاء ووضع أرض القمر تحت قدميه ، واستخدم الكهرباء والبخار ، وأخذ يقطع المسافات البعيدة بالسيارة والطائرة والصاروخ ، ويواجه العدو في جبهات الحرب بالقنابل الذريّة والهيدروجينية ، إلى غير ذلك من الآلات القاتلة ، فكيف يمكن لقانون واحد ، وضع لتأمين الحياة في مجتمع خاص ، أن يسود في الدورين؟ وهل القوانين الاجتماعية إلاّ « رد فعل » للأوضاع الاجتماعية المتطورة ، إذ كلّما تغيرت الأوضاع الاجتماعية وتطورت ، فلابد وأن يتبعها « رد فعل » في التغير والتبدل.
     الجواب :
    انّ للانسان مع قطع النظر عمّا يحيط به من شروط العيش المختلفة ، روحيات وغرائز خاصة تلازمه ، ولا تنفك عنه ، إذ هي في الحقيقة مشخّصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات وتلازم وجوده في كل عصر ولا تنفك عنه بمرور الزمان.
    فهاتيك الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة ، لا تستغني عن قانون ينظم اتجاهاتها ، وتشريع ينظمها ، وحكم يصونها عن الافراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته وصالحاً لتعديلها ومقتضياً لصلاحها ومقاوماً لفسادها ، لزم خلوده بخلودها ، وثبوته بثبوتها.
    والسائل قد قصّر النظر على ما يحيط به من شروط العيش المختلفة المتبدّلة وذهل عن أنّ للانسان خلقاً وروحيات وغرائز ، قد فطر عليها ، لاتنفك عنه ما دام انساناً ، وكل واحد منها يقتضي حكماً يناسبه ولايباينه ، بل يلائمه ، ويدوم بدوامه ويثبت بثبوته عبر الأجيال والقرون.
    ودونك نماذج من هذه الاُمور ليتبين لك بأنّ التطور لا يعم جميع نواحي الحياة ، وأنّ الثابت منها يقتضي حكماً ثابتاً لا متطوراً :


(248)
    1 ـ إنّ الانسان بما هو موجود اجتماعي ، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية ، وهذان الأمران من اُسس حياة الانسان ، لا تفتأ تقوم عليهما في جملة ما تقوم عليه منذ بدء حياته.
    وعلى هذا ، فإذا كان التشريع الموضوع لتنظيم المجتمع مبنياً على العدالة ، حافظاً لحقوق أفراده ، خالياً عن الظلم والجور والاعتساف ، وبعبارة اُخرى موضوعاً على ملاكات واقعية ، ضامناً لمصلحة الاجتماع وصائناً له عن الفساد والانهيار ، لزم بقاؤه ودوامه ، ما دام مرتكزاً على العدل والانصاف.
    2 ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة ، التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما ، ولأجل ذلك ، اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر ، اختلافاً يقتضيه طبع كل منها ، فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما ، ظل ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المقتضى ثبات محموله ، حسب الاصطلاح المنطقي.
    3 ـ الروابط العائلية ، كرابطة الولد بالوالدين ، والأخ بأخيه ، هي روابط طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، والوحدة النسبية بينهم ، فالأحكام المتفرقة المنسقة ، لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ، ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.
    4 ـ التشريع الإسلامي حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال ، ومما لاشك فيه ، أنّ الخمر والميسر والاباحة الجنسية .. ضربة قاضية على الأخلاق ، وقد عالج الإسلام تلك الناحية من حياة الإنسان بتحريمها ، وإجراء الحدود على مقترفيها ، فالأحكام المتعلقة بها ، من الأحكام الثابتة مدى الدهور والأجيال ، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان ، فالخمر يزيل العقل والميسر ينبت العداوة في المجتمع والاباحية الجنسية تفسد النسل والحرث دائماً ما دامت السماوات والأرض ، فتتبعها أحكامها في الثبات والدوام.
    هذا وأمثاله من الموضوعات الثابتة في حياة الانسان الاجتماعي قد حددها


(249)
ونظمها الإسلام بقوانين ثابتة تطابق فطرته وتكفل للمجتمع تنسيق الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أحسن نسق وحفظ حقوق الأفراد وتنظيم الروابط العائلية.
    وحصيلة البحث : أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها لا يوجب أن يتغير النظام السائد على غرار الفطرة ، ولا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية ، من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغير لون الحياة في وسائل الركوب ، ومعدات التكتيك الحربي و ... مثلاً ، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ حرمة الظلم ووجوب العدل ولزوم أداء الأمانات ودفع الغرامات والوفاء بالعهود والإيمانو ...
    فإذا كان التشريع على غرار الفطرة الانسانية ، وكان النظام السائد حافظاً لحقوق المجتمع وموضوعاً على ملاكات في نفس الأمر ، تلازم الموضوع في جميع الأجيال ، فذلك التشريع والنظام يحتل مكان التشريع الدائم.

المقررات المتطوّرة في الإسلام :
    إنّ للانسان مع هذه الصفات والمشخّصات الذاتية ، ظروف عيش اُخرى زمانية ومكانية ، لا تزال تتغير ، ويتغير معها وضع الانسان ، من حال إلى حال ، فمثل هذه الظروف الطارئة تتغير أحكامها بتغيرها.
    وفي الفقه الإسلامي ، يطلق على الأحكام المتعلقة بهذه الظروف عنوان « المقررات » كما يطلق على الأحكام المتعلقة بالظروف الثابتة ، عنوان « القوانين ».
    وهذه المقررات ليست بمعزل عن القوانين الكلية الإسلامية ، ولا تكون اعتباطاً وفوضى بل تجري في ضوء القوانين الكلية الثابتة ، بحيث لا تناقضها ولا تعطّلها ، وإن شئت قلت : إنّ هنا أحكاماً وخطوطاً عريضة تمثل القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي وهي مصونة عن التحوّل والتبدل ، مهما اختلفت الأوضاع وتباينت الملابسات.
    وهناك أحكام متفرّعة على تلكم الخطوط ، مستخرجة منها ، بإمعان ودراية


(250)
خاصة ، يستنبطها الباحث الإسلامي باستفراغ وسعة على ضوء هذه الخطوط العريضة ، بشرط أن لا يصادمها ، وهذا القسم من الأحكام يتجدد بتجدد العهود وتباين الظروف وتعدد الملابسات واختلاف الشرائط.
    فمن قواعد الدين الإسلامي ما هو خالد وثابت وهو ما يمس الفطرة الإنسانية وله صلة بالكون والطبيعة ، وما هو متغير ومتبدل ، وهو الذي لا يمس واقع العلاقات الاجتماعية والشؤون البشرية ، ولا يتجاوز حدود الظواهر الاجتماعية وقد منحه هذا التطور ، أسباب الخلود والبقاء والمسايرة مع عامة الحضارات ، بشرط أن لا يصطدم التحوّل على أي أساس مع اُسسه ولا يتجاوز حداً من حدوده.
    فالحكم الكلي الذي يعالج القضايا البشرية على غرار الفطرة ، وصعيدها الكوني ، ثابت وخالد في كل العصور والأزمنة ، وإن تطورت الأوضاع الاجتماعية والسياسية واختلفت حاجات الناس فإنّ الأنظمة الإسلامية والدساتير الشرعية ، تساير الفطرة الإنسانية الثابتة ، وتوالي الطبيعة الكونية ، ولا تتخلف عنهما قدر شعرة فإذا كان التشريع معبّراً عن الكون الثابت ، ومبتنياً عليه ، فيخلد بخلوده ويدوم بدوامه.
    أجل أنّ تقلّب الأحوال وتحوّل الأوضاع الاجتماعية يتطلب تحوّلاً في السنن والأنظمة ، وتبدّلاً في الأحكام والقوانين ، غير أنّه لا يتطلب تحولاً فيما يمس واقع الانسانية السائدة في جميع الأحوال ومختلف الأوضاع ، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين الكونية التي أصبحت تدبّر الكون باُصوله الثابتة فلا تتغير النسب الرياضية ولا النتائج الهندسية وإن تطورت الأوضاع وتبدلت الحضارات.
    وإنّما المتغير هو المظاهر والقشور ، والشكل التطبيقي لهاتيك الأحكام في مختلف الأوضاع وتطور الاجتماع ، والمتأثّر بالأوضاع هو القسم الثاني لا الأوّل ، ولا ضير فيه فإنّ الدين الإسلامي إنّما يستعرض القضايا التي تمس واقع البشرية ، والمسائل التي لها صلة بالكون والطبيعة ويترك التطبيق بعد لنفس المكلف حسب ظروفه وأحواله.
    وبذلك تقف على أنّ التطور والتحوّل ، فيما كتب له التغير والتبدل جزء جوهري
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس