مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 251 ـ 260
(251)
للدين ، عنصر داخل في بناء التشريع الإسلامي كما أنّ الثبات والدوام فيما فرض له ذلك ، أحد عناصر الدين ومن أجزاء ذاك البناء التشريعي السامي فتجريده من أي واحد من عنصريه يوجب انحلال المركب وفناء الدين ، وتأخره عن مسايرة المواكب الحضارية.
    قال سيدنا الاُستاذ ( رضوان اللّه عليه ) : هناك أحكام شرعية ثابتة لا يعرض عليها التغييروالاختلاف ، ولا يمكن أن تتأثر باختلاف البيئة والمحيط بشكل من الأشكال.
    وهناك لون آخر من المقررات الاجتماعية التي تجري باشراف من هيئة الولاية العامة ، تختلف باختلاف الظروف وتتأثر باختلاف البيئات والأزمنة.
    ولتوضيح الأمر نستعير شاهداً من الظواهر الاجتماعية التي نعيشها في حياتنا الخاصة.
    لنفترض أنّ مواطناً يرأس عائلة صغيرة ، ويدير اُمور العائلة الداخلية في حدود مقررات البلاد العامة. فيأمر بعض أفراد العائلة بالقيام بهذا الشأن من شؤون البيت ، ويأمر آخرين منهم بشأن آخر من شؤون العائلة ويحدد اختيارات كل واحد منهم في البيت في حدود مصلحة العائلة ويأمر بالانقطاع عن العمل يوماً أو يومين للاستجمام ويأمر بالاستمرار في العمل في حدود ما تقتضيه مصلحة العائلة ، وحسب ظروف البيت الخاصة ...
    وفي الوقت الذي يملك هذا الشخص كل هذه الصلاحيات الواسعة في الإدارة والسلطة لا يسمح له أن يخرج عن دائرة مقرّرات البلاد العامة في شأن من الشؤون أو يتجاوز حدود النظام العام بشكل من الأشكال.
    وممّا تقدم يتضح أنّ المقرارات المرعية في محيط هذه العائلة على نوعين :
    نوع يتسم بطابع الثبات والبقاء.
    ونوع يتعرض للاختلاف والتغيير حسب ما تقتضيه مصلحة البيت.
    والنسبة ذاتها قائمة بين الشريعة الإسلامية ، التي يطبعها طابع من الثبات


(252)
والبقاء ، والمقررات التي تختلف باختلاف الظروف والمصالح الاجتماعية والتي تدور في فلك الشريعة من غير أن تتجاوزها بحال من الأحوال (1).
    ودونك نماذج من هذا القسم ، أي من الأحكام المتطورة المتغيرة بتغيّر الزمان :
    1 ـ في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية : يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين ، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة ، وأمّا كيفية تلك الرعاية ، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية ، فتارة تقتضي المصلحة السلام والمهادنة والصلح مع العدو ، واُخرى تقتضي ضد ذلك.
    وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصة في هذا المجال ، باختلاف الظروف ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين ، كقوله سبحانه :
    ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء ـ 141 ).
    وقوله سبحانه : ( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ).
    ( إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتِلُوكُمْ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهِرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة 8 ـ 9 ).
    2 ـ العلاقات الدولية التجارية : فقد تقتضي المصلحة عقد اتفاقيات اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسسات صناعية ، مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له ، الفقيد المجدد ، السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانكلترا ، إذ كانت مجحفة بحقوق الاُمّة المسلمة الإيرانية لأنّها خوّلت لانكلترا حق احتكار التنباك الإيراني.
    1 ـ نظرية السياسة والحكم في الإسلام ص 37 ـ 39.

(253)
    3 ـ الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء ، قانون ثابت لا يتغير ، فالمقصد الأسنى لمشرع الإسلام ، إنّما هو صيانة سيادته عن خطر أعدائه وأضرارهم ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوّة ضاربة ضد الأعداء ، واعداد جيش عارم جرار تجاه الأعداء كما يقول سبحانه : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ) ( الأنفال ـ 60 ) فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة أمّا كيفية الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح ، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه ، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان ، تتغير بتغيره ، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت ، حتى مسألة لزوم التجنيد العمومي ، الذي أصبح من الاُمور الأصلية في غالب البلاد.
    وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب ، أو وضع كتاب خاص ، لأحكام السبق والرماية ، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ونقل أحاديث في ذلك الباب ، عن الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأئمّة الإسلام ، فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام ، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة ، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم الغرض منه ، تحصيل القوّة الكافية ، تّجاه العدو في تلكم العصور وأمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبق في العصر الحاضر ، فانّه تفرضها مقتضيات العصر نفسه (1).
    فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر ويصد كل مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب
    1 ـ قال المحقق في الشرائع ص 152 وفائدة السبق والرماية : بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة. وقال الشهيد الثاني في المسالك في شرح عبارة المحقق : لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد ، بل أمر به النبي في عدة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدد في الجهاد لأعداء اللّه تعالى ، الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما.
    فإذا كانت الغاية من تشريعهما الاستعداد للقتال والتدرب للجهاد ، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وغيره أخذاً بالملاك المتيقن.


(254)
إمكانيات الوقت.
    والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به ، لا يجب عليه التعرض إلى تفاصيل الاُمور وجزئياتها ، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والاُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة ، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظه من البقاء قليلاً جداً.
    4 ـ نشر العلم والثقافة ، واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية ، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدد بحد خاص ، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي ، واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الامكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.
    وبالجملة : فقد ألزم الإسلام ، رعاة المسلمين ، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الانسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أي لون من الاُمّية ، وأمّا نوع العلم وخصوصياته ، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.
    فرب ، علم لم يكن لازماً ، لعدم الحاجة إليه ، في العصور السابقة ، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الأوّل من العلوم اللازمة التي فيها صلاح المجتمع كالاقتصاد والسياسة.
    5 ـ حفظ النظام وتأمين السبل والطرق ، وتنظيم الاُمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد و ... من الضروريات ، فيتبع فيه وأمثاله مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع ، بل الذي يتوخّاه الإسلام هو الوصول إلى هذه الغايات ، وتحقيقها بالوسائل الممكنة ، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى امكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ، وكلّها في ضوء القوانين العامة.
    6 ـ قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه : ( وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ ) وقد فرّع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحة عقد البيع أو المعاملة فقالوا : يشترط في صحة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصح المعاملة ومن هنا حرّموا بيع ( الدم ) وشراءه.


(255)
    إلاّ أنّ تحريم بيع الدم أو شراءه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما افادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له فالحكم يدور مدار وجود الفائدة ( التي تخرج المعاملة عن أن تكون أكل المال بالباطل ) وعدم تحقق الفائدة ، فلو ترتبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شراءه فسوف يتبدل حكم الحرمة إلى الحلية ، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) .
    وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً ( عليها السَّلام ) سئل عن قول الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود » ؟ فقال ( عليها السَّلام ) : « إنّما قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ذلك والدين قلّ ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار » (1).
    وفي الختام نأتي بما أفاده الشيخ الرئيس ابن سينا في هذا المقام في الشفاء قال :
    ويجب أن يفوض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد فإنّ للأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط وأمّا ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج واعداد اهب الأسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو خليفة ولا تفرض فيها أحكام جزئية فإنّ في فرضها فساداً لأنّها تتغيّر مع تغيّر الأوقات وفرض الكليات فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل المشورة (2).
    وفي الختام نعطف نظر القارئ إلى نكتة ، وهي : أنّ عنوان « مقتضى الزمان » و« حتمية التاريخ » وغيرهما من العناوين صار رمزاً ، لكل من أراد أن يتحرّر من القيم الأخلاقية ، ويعيش متحلّلاً من كل قيد وحدّ ، خالعاً كل عذار ، والكثير من أفراد الانسان في العصر الحاضر ، حينما رأوا ، الاباحة الجنسية واختلاط الرجال والنساء ، واتخاذ الملاهي على أنواعها وشرب المسكر واللعب بالميسر واقتراف المعاصي واخذ الربا مما راج
    1 ـ نهج البلاغة الحكم رقم 16.
    2 ـ الشفاء قسم الالهيات ص 566.


(256)
في البيئات الغربية بلا استنكار وقد حرّمها الشرع ورفضتها قوانين الأخلاق الصحيحة ، والفطرة السليمة ، لم يجدوا مبرّراً لاقترافها والانصياع التام لشهواته الجامحة إلاّ بأن يتمسكوا باحدى هذه العناوين ، وليست الغاية من هذه القالة عنده ، إلاّ اقتراف السيئات والانغمار في الشهوات.
    كما أنّ هذه العناوين قد صارت ملجأ لكل من أراد هدم الثقافة الشرقية الأصيلة وتحويرها ، وسوق الشرق إلى الإنصياع لتوجيهات الغرب وتناسي كل ما كان له من كرامة قديمة وقطع صلته بها.
    ترى المنادين باستعمال الحروف اللاتينية بدل الحروف الشرقية الإسلامية يتمسكون باعذار ، ويستدلون باُمور منها : كون ذلك من مقتضيات الزمان ، ونتيجة يحتمها التاريخ ، غير أنّ الباحث الحر ، يرى للقديم كرامته الموروثة وللحديث نضارته الموجودة ، فيأخذ منها كل ما يليق بالأخذ ويصلح للاقتفاء فلا يعقد حلفاً مع كل قديم حتى الخرافات ولا يكب على كل حديث وإن أضر به وبكرامته وشرفه.
    فعلى كل من يريد أن يحافظ على كرامة الانسان وكيانه وقيمه الأخلاقية ، أن يتوخّى الأصلح من مقتضيات الزمان ويصلحه على ضوء العقل والفطرة ، لا أن يطبق عمله عليه ، فليس مقتضى العصر وحياً اُوحي إلى المجتمع ، مصوناً عن الخطأ أو نقياً عن الاشتباه.
    على أنّ هؤلاء المتشدّقين بأمثال هذه العبارات ، تقليداً للغرب والحضارة الغربية بلا تأمّل ولا روية ، قد عزب عنهم أنّ « هذه الحتمية » و « اقتفاء مقتضى الزمان » التي ينادون بها ، غير معترف بها عند أعيان القوم ، ومفكري المجتمعات ، بل أكابرهم فيها ، فكم نبّه علماء وحذر مفكرون من أبناء الغرب ، من عواقب السير على منهج هذه الحضارة ، واستخفّوا خطتها وتنبّأوا بانهيارها ونادوا بوجوب نقض اُسسها (1).
    1 ـ نذكر على سبيل المثال منهم ، العلامة « الكسيس كارل » فارجع إلى ما حرره في كتابه « الانسان ذلك المجهول ».

(257)
    ولأجل أن يقف القارئ الكريم على موقف الإسلام فيما يرجع إلى التطور الزمني نتوقف في المقام قليلاً ونقول :

الإسلام والتطوّر الزمني :
    لا نجد بين الشرائع السماوية شريعة قد تدخلت في جميع شؤون الناس كالإسلام ، حيث لم يكتف في مقرراته وتعاليمه على تعريف الناس بالأذكار والأوراد التي تربطهم بالخالق أو على ابداء النصائح الأخلاقية لهم فحسب ، بل أنّه بين كافة ما يهم المجتمع من حقوق ووظائف فردية واجتماعية ، ووضع الخطوط العريضة لكل قضايا الانسان في هذه الحياة ، وقد اعترف بهذه الحقيقة كثير من المفكرين والكتاب غير المسلمين الذين كتبوا عن الإسلام ووصفوا قوانين الإسلام بأنّها أرقى القوانين التي تعالج قضايا الانسان ، وذلك حيث أنّها تمتلك مادة حيويه ومرونة تخوّلها أن تعيش خالدة لكل الظروف.
    ومن ذلك ما قاله المفكر الانجليزي ( برناردشو ) : أنا أحترم دين محمد لأنّه دين حر ولأنّه الدين الوحيد الذي يقبل الانطباق مع الصور المختلفة في الحياة ، وأضاف يقول : وأنا أتنبّأ بأنّ دين الإسلام سوف تعتنقه اُوربا.
    وقال الدكتور شبلي شميل ، الكاتب المادي المعروف في مقال له تحت عنوان « القرآن والاعمار » نشره في الجزء الثاني من كتابه ( فلسفة النشوء والارتقاء ) الذي قرر فيه فرضية « دارون » مع شرح « بخنر » الالماني لها ، وردّ فيه على بعض الغربيين الذين زعموا أنّ الإسلام هو سبب تأخّر المسلمين قال : إنّ انحراف المسلمين عن تعاليم دينهم هو سبب انحطاطهم ، وأنّ الذين يزعمون بأنّ الإسلام هو المسؤول عن تأخر المسلمين وانحطاطهم أمّا جاهلون بحقيقة الإسلام ، أو أنّهم يريدون بهذا أن يمهّدوا الطريق لاستعمار الغرب للشرق الإسلامي.
    ولأجل ذلك نواجه اليوم كثيراً من الشباب يتساءل عن مدى انطباق قوانين


(258)
الإسلام على التطورات الزمنية المختلفة وقدرته على قيادة الانسانية إلى السعادة والرفاه؟

بين الجمود والجهل :
    القرآن الكريم يصف الانسان بأنّه ظلوم جهول ، وصدق اللّه العظيم ، فمن الناس من يريد التحرّر من قيود الانسانية ، والتجاوز عن كل الضوابط الأخلاقية بحجة رفض كل ما هو قديم وقبول كل ما هو جديد في حياة البشر ، ويعيش إباحياً لأنّ تطور الزمن يقضي بذلك ، فهذا هو الانسان الظلوم.
    ومنهم من يمشي على عكس الأوّل ، يحب كل ما هو قديم ويشجب كل ما هو جديد وينسب ذلك إلى الإسلام ، فيظن أنّ الإسلام جاء لابقاء القديم على قدمه ، دون أن يفرق في ذلك بين الوسائل والأهداف والقشور واللباب ، ولذلك فهو يتقيد بالكتابة بأقلام القصب أو الاستحمام في الخزائن ، أو الأكل باليد ، أو الاستفادة من المصابيح القديمة وما شاكل ذلك ، وهذا هو الانسان الجهول.
    فالظلوم لطغيانه يهدّم أساس الشريعة ويمحق تعاليمها ، والجهول يعرّض الدين بغير ما هو عليه من التطور والمرونة فينفر الناس عنه ، فهما بين افراط وتفريط.

النسخ غير المرونة :
    إنّ بعض الكتّاب الذين يتظاهرون بالإسلام يفسرون تطور الإسلام الزمني بما يؤدي إلى محق أحكام الإسلام والقضاء عليها فاُولئك يزعمون أنّ التعاليم الإسلامية تدخل تحت اُطر ثلاثة :
    اُولاها : اطار الاُصول العقائدية كالتوحيد والنبوّة والمعاد.
    ثانيها : اطار الأحكام العبادية كالصلاة والصوم وما شاكل.
    وثالثها : اطار القوانين التي ترتبط بشؤون الحياة.
    فيزعمون أنّ الثابت من تعاليم الدين ليس إلاّ ما يدخل تحت اطار الأوّل والثاني


(259)
فقط ، وأمّا ما يرتبط بالاطار الثالث من القوانين الاجتماعية فليست من صميم الدين وبالامكان تغييرها واحلال ما تقتضيه مقتضيات الزمان مكانها في هذه المجالات.
    أقول : إنّ القائل بهذه المقالة ممّن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ويريد حصر الإسلام في المسجد ، لتخلو الساحة الاجتماعية لغيره لكي يلعبوا ما يشاؤون ، ويستوردوا القوانين الاجتماعية من هنا وهناك ويملأوا بها الفراغ وتكون النتيجة أنّ مصائر المسلمين يتحكم فيها أعداؤهم ويضعون لهم خطوط المسيرة.
    إنّنا نرى القرآن الكريم يشبه المسلمين بالزرع الذي من خواصّه النمو والحياة يقول سبحانه : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْوَاناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذِلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّورَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ) ( الفتح ـ 29 ).
    فقوانين الإسلام بما هي مشتملة على المادة الحيوية وبما هي ذات مرونة تنطبق مع كل الظروف والحضارات الانسانية ولا تحتاج إلى تغييرها واقامة غيرها مكانها ولأجل هذه الخصيصة أصبح المسلمون بفضل الإسلام ذوى نمو وارتقاء في مجالات الحياة.


(260)
السؤال الخامس
ادعاء النقص في التشريع الإسلامي :
    « كلّما تكاملت نواحي الحضارة ، وتشابكت وتعددت ألوانها ، واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثاً جديدة ، وطرحت عليه مشاكل طارئة ، لا عهد للأزمنة السابقة بها ، إذ لم تتعرض تشريعاتها ، لأي هذه الأوضاع والأحداث والمشاكل بحكم من الأحكام إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة ، لا تزال تتزايد كل يوم ، تبعاً لذلك ».
     توضيح السؤال :
    لا يرتاب ذو مسكة في أنّه كلّما توسّع نطاق الحضارة وبلغ البشر من التمدن ما بلغ ، احتاج في تنظيم حياته إلى قوانين جديدة ، وتشريعات خاصة ، أزيد ممّا كان محتاجاً إليها في الظروف الغابرة ، وبما أنّ الحضارة الإنسانية ، مازالت تتوسّع وتتكامل ، ولا تقف عند حد ، فما زال الانسان تبعاً لذلك ، تتوسّع حاجته إلى قوانين وتشريعات جديدة ، متكاملة فكيف يمكن أن تعالج القوانين المحدودة الموضوعات الكثيرة ، غير المحدودة؟!. (1)
    1 ـ الفرق بين هذا السؤال وما سبق من السؤال الرابع واضح ، إذ الرابع يرجع إلى لزوم اختلاف القوانين والمقتضيات ، حسب اختلاف اشكال الحياة في الاجتماع ، وتبدلها من دون نظر إلى طروء حوادث لم يكن منها أثر في العهود السابقة ، وهذا الوجه يرجع إلى اثبات وجود النقص في ناحية التشريع الإسلامي ، وعدم إيفائه بالحوادث الجديدة والوقائع الطارئة التي يوجبها تكامل الحضارة وتشعّباتها وتعددها ، ولم يكن لها أثر في زمن الرسالة ودور نزول القرآن.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس