مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 261 ـ 270
(261)
    ويلاحظ بأنّ الإسلام ، هو الذي يواجه وحده ، بهذا الاشكال من بين سائر الشرائع ، إذ ليس الإسلام عبارة عن تعاليم منحصرة في عدة أحكام عبادية وأخلاقية تؤدّى بصورة فردية ، بين الانسان وربّه ، أو بينه وبين نفسه ، دون أن يتدخل في تحديد المناهج الاجتماعية والعلاقات الانسانية والمدنية ، وليس منحصراً في هذه المقررات البسيطة ، حتى لا يكون وافياً في جميع الأزمنة ، بالغاية التي يهدف إليها وإنّما هو نظام تشريعي كامل ، قد تدخل في شؤون المجتمع كافة ، فهو ذو قوانين مدنية وقضائية وسياسية واجتماعية وعسكرية وعائلية ، كفيلة باغناء البشرية ، عن كل تشريع سوى تشريعه ، وعن كل اصلاح غير اصلاحه ، فهذه القوانين المحدودة كيف تغني المجتمع البشري عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول؟
    وفي هذه النقطة ، تفترق المسيحية عن الإسلام ، إذ هي لا تتجاوز في تشريعها نطاق الأخلاق الفردية والتعبّد للّه ، بصلاة وصوم ، في وقت معين ، أمّا مناهج الحياة الاجتماعية وتنظيمها وتنسيق معاملاتها ، ذلك ما يقرّه المجتمع نفسه ، ويوفوّضه إلى السلطات الحاكمة.
    ولكن الإسلام يتعرض لكل شأن من شؤون الحياة ، ويقنّن ويشرّع لكل أمر من اُمور المجتمع ، المدنية والمعاشية ، بالاضافة إلى تشريعاته وقوانيه الأخلاقية ، والعبادية الفردية ، ويسد باب التشريع في ذلك على غيره ، فالسلطة التشريعية بيده وحده ، وعلى المجتمع أن يختار السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فقط ، ضمن ما يشرعه الإسلام.
    وملخص السؤال ، انّ المجتمع الإنساني ، يواجه أوضاعاً وأحداثاً جديدة تطرح عليه مشاكل لاعهد للأزمنة السابقة بها ، فلا نجد في التشريع الإسلامي لهذه الأوضاع والأحداث حكماً من الأحكام ، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كل يوم تبعاً لذلك ، وبما أنّ نصوص الشريعة من الكتاب والسنّة محدودة ، وحوداث المجتمع غير محدودة ، فكيف يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية؟


(262)
الجواب :
    انّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الانسانية ، واستغناءه عن كل تشريع سواه ، يتوقف على وجود أمرين فيه :
    الأوّل : أن يكون التشريع ذا مادة حيوية خلاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الاُمّة والاخصائيون منهم على استنباط كل حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كل عصر من الأعصار.
    الثاني : أن ينظر إلى الكون والاجتماع بسعة وانطلاق ، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال ، وتساير الحضارات الانسانية المتعاقبة.
    وقد أحرز التشريع الإسلامي كلا الأمرين :
    أمّا الأمر الأوّل ، فقد أحرزه بتنفيذ اُمور :

الأوّل : الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة :
    انّ من سمات التشريع الإسلامي التي بها يمتاز عن سائر التشريعات ، ادخال العقل في دائرة التشريع ، والاعتراف بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها ، فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصاف المصادر الاُخر للتشريع وأنّه يكشف عن الحكم الشرعي ويبيّن وجهة ن ـ ظر الشارع في مورده ، وأنّ من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه ، فالملازمة بين العقل والشرع حتمية.
    ولا يهمنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد هل هو نفس الحكم الشرعي ومن صميم التشريع الإسلامي أو أنّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجية ادراكاته.
    وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتل محلاًّ خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كل ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة ، فعند ذاك اعتمد


(263)
عليه في تبليغ الأحكام إلى الناس كما اعتمد على القرآن والسنّة.
    وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً ، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الانسانية ، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.
    هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كل ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة ، فإنّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.
    نعم ليس معنى الاعتراف بحجية العقل ، أنّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتى يتاح له ( بما اُوتي من امكانات ووسائل محدودة ) أن يتسرّع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.
    بل فسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحف ـ ظه عن الزلل ، وسوف نشير إلى هذه الشرائط والضمانات ، وستوافيك نماذج من الأحكام العقلية في هذا البحث.
    فالقارئ الكريم إذا لاحظ كتاب اللّه العزيز وسنّة نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وعترته ( عليهم السَّلام ) يرى فيهما الحث البالغ الأكيد على التدبّر والتفكّر والتعقّل لما يعسر على الانسان الاحاطة والاحصاء ولنكتف بذكر بعض ما اثر في المقام.
    قال الإمام الطاهر موسى بن جعفر ( عليها السَّلام ) لتلميذه هشام :
    إنّ اللّه تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال : ( ... فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُولِئِكَ الذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَ اُولئِكَ هُمْ اُولُوا الأَلْبَابِ ) ( الزمر 17 ـ 18 ).
    يا هشام : إنّ اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلافِ الليْلِ


(264)
وَالنَّهَارِ وَ الفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابّة وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحَابِ الممُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ لآيَات لِقَوم يَعْقِلُونَ ) ( البقرة ـ 164 ).
    يا هشام : ثم وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال : ( وَ مَا الحَياةُ الدُّنْيَا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ للدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ للذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام ـ 32 ).
    يا هشام : إنّ العقل مع العلم فقال : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ العَالِمُون ) ( العنكبوت ـ 43 ).
    ثم ذم الذين لا يعقلون فقال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كَانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة ـ 170 ).
    يا هشام ثم ذكر اُولي الألباب بأحسن الذكر وحلالهم بأحسن الحلية فقال : ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاّ اُولُوا الأَلباب ) ( البقرة ـ 269 ).
    يا هشام : إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه : ( انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) يعني : عقل.
    وقال ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمانَ الحِكْمَة ) ( لقمان ـ 12 ) قال : الفهم والعقل.
    يا هشام : ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن اللّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
    يا هشام : إنّ للّه على الناس حجّتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول (1).
    وقال الصادق : حجة اللّه على العباد ، النبي ، والحجة في مابين العباد وبين اللّه ، العقل.
    1 ـ الكافي ج1 ص 13 ـ 16 ولم ننقله بطوله وإنّما اقتبسنا مقتطفات منه.

(265)
    هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن أعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالاقيسة والاستحسانات.
    نعم لا يخلص الحكم العقلي من الزلل والخطأ إلاّ بعد ملاحظة اُمور :
    1 ـ قصور الفكر الانساني وعجزه عن الاحاطة بمسائل الكون والنفس والاجتماع وضعف المدارك الحسية التي تربط الانسان بالواقع الاجتماعي والنفسي والكون الذي يعيشه.
    2 ـ تأثّر الفكر الانساني بالجانب الانفعالي والحيواني من النفس كالغرائز النفسية والدوافع الحيوانية المستقرة في النفس التي لا تتخلّص منها النفس والفكر إلاّ بعد جهد شاق.
    3 ـ انطباع الفكر بالرواسب اللاشعورية والأعراف والتقاليد التي يرثها الانسان من البيئة الاجتماعية والتي تنتقل في المجتمع مع الأجيال من دون أن تفقد تأثيرها الخاص واطارها الاجتماعي الذي يسبغ عليها جانباً قدسياً في المجتمع.
    وقد حاول الإسلام أن يحقق الضمانات الكافية التي تعصم الفكر من هذه الوجوه الثلاثة في مجال الحكم والتشريع.
    كما حاول الإسلام من جانب أن يفسح المجال للعقل في الحكم ليحفظ الدستور ويصلح للحكم والتطبيق في البيئات والظروف المختلفة.
    ومن جانب آخر حاول الإسلام أن يحفظ العقل ممّا يمكن أن يحفظ به إلى المستويات الحيوانية واللاشعورية أو ممّا تقصر عنه امكاناته العلمية (1).
    1 ـ لاحظ المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي ص 107 ـ 108.

(266)
    قال العلاّمة الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني : إنّ القضايا المشهورة على أقسام :
    منها ما فيه مصلحة عامة : كالعدل حسن ، والجور قبيح ، وعبّر عنها بالتأديبات الصلاحية.
    منها : ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة كالحكم بقبح كشف العورة لانبعاثه عن الحياء وهو خلق فاضل.
    منها : ما ينبعث عن رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك واستلزام الحسن والقبح عقلاً للحكم الشرعي بالمعنى المتقدم في ما كان منشأه المصالح العمومية واضح لأنّ الشارع يرعى المصالح العمومية وكذا ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة لأنّ المفروض أنّها ملكات فاضلة ، والمفروض انبعاث الحكم بالحسن والقبح عنها وأمّا ما ينبعث عن انفعالات طبيعية من رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك فلا موجب لاشتراك الشارع مع العقلاء.
    ولذا ترى الشارع ربّما يحكم لحكمة ومصلحة خاصة بما لا يلائم الرقة البشرية كالحكم بجلد الزاني والزانية غير ذات البعل مع كمال التراضي (1).
    وللشيخ الرئيس في اشارته كلام يوقفنا على أقسام الادراكات العقلية فراجع الاشارات وشرحها للحكيم الطوسي (2).
    فإذا توفرت في الحكم العقلي هذه الشرائط وكان حكمه منبعثاً عن الجانب العقلي المحض ، غير متأثر عن الجوانب اللاشعورية ، والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ، وتجنب عن الأساليب الممنوعة وحكم من صميم التدبّر والتفكّر بحكم بات ، يصير حجة بين اللّه وعبده ، وحينئد يجب السير والسلوك على مقتضى حكمه وتنفيذ ما يقضي به تأسيساً أو تحديداً لاطلاق حكم شرعي أو تخصيصاً لعمومه ويصير عند ذاك أحد
    1 ـ نهاية الدراية ج2 ص 130.
    2 ـ الاشارات ج1 ص 220 ط طهران.


(267)
الأدلة التي يستنبط منها ، الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط ، ويعد قريناً للكتاب والسنّة ، والاجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.
    والباحث النابه ، يجد الملازمة بين العقل والشرع ، أحد القواعد المسلمة عند المحققين ، من علماء الإسلام ، الذين يعتنى بقولهم ، فقد صرحوا بأنّ كل ما حكم به العقل ، حكم به الشرع ، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل.
    إنّ للعقل دوراً كبيراً في استنباط كثير من الأحكام التي يصلح للعقل القضاء فيها ويقدر على ادراك ملاك الحكم ومناطه نظير الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، ووجوب الشيء وحرمة ضده أو عدمهما ، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه وصحة العبادة والمعاملة وفسادهما ، واجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية والأحكام المتفرعة على تنجيز العلم الاجمالي وما يستقل به العقل عند اليأس عن الأدلّة السمعية فيحكم بالبراءة أو الاشتغال أو التخيير ، حسب ما اقتضاه المقام. بل له دور واسع في باب المعاملات وغيرها.
    فهذه الملازمات وغيرها ، من الأحكام العقلية ، مصادر لاستنباط كثير من الأحكام واستكشاف ما هو المرضي لدى الشارع ، يستريح إليه الفقيه في تأسيس الحكم الشرعي أو تحديده ، وفي تشخيص الوظيفة العملية عند اليأس عن العثور على الأدلّة السمعية وبذلك يسد الفراغ المتوهم في التشريع الإسلامي.
    كل ذلك يرشدنا إلى أنّ التشريع الإسلامي ، يتبنى الواقع ولا يحيد عن متطلبات الحياة ، وأنّه ليس لتعاليمه طابع الرمز والتعبد السماوي وأنّ للإسلام علاقة واقعية بالعقل ، لا تجد مثلها في الشرائع الاُخرى ، بل لا يسوغ لغيره أن يدخل العقل في مصادر تشريعه ، ويعده أحد الأدلّة.

الثاني : إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد :
    إنّ الأحكام الشرعية عند العدلية من المسلمين ، الذين يمثلون الطبقة العليا


(268)
منهم ، تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها ، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه ، وقد تحقق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى وهذا الأصل ، وإن خالف فيه بعض الاُمّة ، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب اللّه وسنّة نبيه ونصوص خلفائه ( عليهم السَّلام ) ترى أنّه سبحانه يعلّل حرمة الخمر والميسر بقوله :
    ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَ البَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَ المَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلوةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ( المائدة ـ 91 ).
    ويستدل على وجوب الصلاة بقوله سبحانه : ( وَ أَقِمِ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ ) ( العنكبوت ـ 45 ) إلى غير ذلك من الفرائض والمناهي التي صرح أو اُشير إلى ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.
    وقد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليها السَّلام ) : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يحرّم إلاّ ما فيه الضرر والتلف والفساد » (1).
    وقال ( عليها السَّلام ) في الدم : « إنّه يسيء الخلق ويورث القسوة للقلب ، وقلة الرأفة والرحمة ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده » (2).
    وهذا باقر الاُمّة وإمامها يقول : « إنّ مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروته ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا » (3).
    وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين (4).
    فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع ، فالغاية المتوخّاة من تشريعها ، إنّما هو الوصول إليها ، أو التحرّز عنها ، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على
    1 ـ مستدرك الوسائل ج3 ص 71.
    2 ـ بحار الأنوار ج62 : ص165 ، الحديث3.
    3 ـ المصدر نفسه ص 164 ، الحديث2.
    4 ـ راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والأئمة ( عليهم السَّلام ) في بيان علل التشريع وفلسفته.


(269)
وزان واحد ، بل ربّ واجب يسوغ في طريق احرازه ، اقتراف بعض المحارم ، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلاً ، وربّ حرام ذي مفسدة كبيرة ، لا يجوز اقترافه ، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.
    ولأجل ذلك قد عقد الفقهاء باباً خاصاً ، لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد ، فيقدمون « الأهم على المهم » والأكثر مصلحة على الأقل منها ، والأعظم مفسدة على الأحقر منها ، وهكذا ... ويتوصّلون في تمييز الأهم عن المهم ، بالطرق والامارات التي تورث الاطمئنان ، وباب التزاحم في علم الاُصول غير التعارض فيه ، ولكلّ أحكام.
    وقد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة ، وأنّها من المعضلات التي لا تنحل أبداً ، ولنأت على ذلك بمثال ، وهو :
    أنّه قد أصبح تشريح بدن الانسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث ، فلا يتسنّى تعلم الطب إلاّ بالتشريح والإطلاع على خفايا الأمراض والأدوية.
    غير أنّ هذه المصلحة تصادمها ، مصلحة احترام المؤمن حيّه وميّته ، إلى حد أوجب الشارع ، الاسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن ، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه ، بل هو من المحرمات الكبيرة التي لم يجوز الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور ، غير أنّ عناية الشارع بالصحة العامة وتقدم العلوم جعلته يسوغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية ، مقدماً بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف منه ، وهكذا ...

الثالث : التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية
    إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب ، مشتمل على اُصول وقواعد عامة ، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري ، على امتداد القرون


(270)
والأجيال ، وهذه الثروة العلمية ، التي اختصت بها الاُمّة الإسلامية من بين سائر الاُمم ، أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.
    وقد تضافرت الروايات على أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد جاءت فيه آية محكمة أو سنّة متّبعة.
    أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر ( عليها السَّلام ) قال سمعته يقول : إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكل شيء حداً ، وجعل عليه دليلاً يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً.
    روي باسناده عن أبي عبد اللّه ( عليها السَّلام ) قال سمعته يقول : ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة.
    اُخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى ( عليها السَّلام ) قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه ، أو تقولون فيه؟ قال : بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيه (1).
    وهذا العلاّمة الحلي ، أحد فقهاء الإمامة في القرن الثامن ، قد ألّف عشرات الكتب في الفقه واُصوله ، منها « تحرير الأحكام الشرعية » وقد حوى من الأحكام والقوانين ما يربو على أربعين ألف مسألة ، استنبطها من هذه الاُصول الواردة في القرآن والسنّة النبوية ، والأحاديث المأثورة عن أئمّة الدين ، رتبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد : العبادات ، والمعاملات ، والايقاعات ، والأحكام (2).
    وجاء من بعده من الفقهاء والمجتهدين ، فبحثوا عن موضوعات وأحكام ، لم تكن لعصره بها صلة ، فاستخرجوا ما لها من الحكم الشرعي ، من تلكم الاُصول والقواعد بوضوح وانطلاق ، ولم يجدوا التشريع الإسلامي عاجزاً في هذه المجالات.
    1 ـ راجع الكافي « باب الرد إلى الكتاب والسنّة » ج1 ص 59 ـ 62 ، تجد فيه أحاديث تصرح بما ذكر ، والمراد منها اُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.
    2 ـ راجع الذريعة ج 4 ص 378.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس